مؤيد نعمة.. بلاغة الكاريكاتــير وحدَّته القاطعة

مؤيد نعمة.. بلاغة الكاريكاتــير وحدَّته القاطعة

حميد قاسم
تعرفت للمرة الأولى على رسوم فنان الكاريكاتير العراقي مؤيد نعمة بداية السبعينيات في جريدة طريق الشعب اليومية، وجريدة الفكر الجديد الأسبوعية، حيث كان يعمل وينشر رسومه الساخرة، الغريبة واللافتة للنظر، ومنذ البداية استطاعت رسوم مؤيد نعمة الشاب العشريني المتحمس ان تلفت الأنظار بحدة خطوطها وافكارها وجرأتها وقلة الحوارات والتعليقات فيها،

واعتمادها روحا فكاهية يمكن ان ندعوها بالكوميديا السوداء، أو كوميديا المفارقة المؤلمة، ولكم كنت سعيداً حينما رأيت مؤيد نعمة للمرة الأولى وتعرفت إليه أواسط السبعينيات، في <طريق الشعب>، لتتواصل بعدها زمالتنا في مجلة <الف باء> والتي لم تنقطع حتى مغادرتي العراق مطلع العام 1997 حيث بقيت على صلة متواترة مع اخبار مؤيد نعمة، وكان لقائي الأول به بعد طول انقطاع في جريدة المدى البغدادية أواخر العام 2003، وهو اللقاء الذي تكرر في يوليو الماضي دون أن أعرف انه اللقاء الأخير بيننا، بعد ان نقلت لنا الأخبار نعياً مقتضبا للفنان في بغداد إثر جلطة دماغية الإثنين الماضي عن اربعة وخمسين عاما. وفي كل مرة كنت أرى فيه قدرة استثنائية، بل شجاعة نادرة في الثبات على الموقف والتصدي لمن عادوا شعبه العراقي، وقد واصل هذا النهج في كل أعماله، سواء يوم كان يعمل في طريق الشعب أو الف باء أو في المدى، كانت رسوماته سوطا موجعا لمستغلي أوجاع الناس وآلامهم، مثلما كانت في الوقت نفسه بلسما للمواطن البسيط المستلب، ضحية الحروب والحصار والفقر سابقا، ومن ثم المحاصصة والطائفية والإرهاب الذي كان القضية التي نذر نفسه لمحاربتها في أعماله الأخيرة، مثلما فعل لأعوام عديدة وهو يتصدى للفساد بجرأة نادرة حقاً. قبل عام تقريباً، كنت أحدث احدى الزميلات عن رسوم مؤيد نعمة الكاريكاتيرية، ثم أطلعتها على نماذج منها، فتحمست للفكرة، بل هددتني انها ستكتب الموضوع ما لم انجزه تواً، غير انني <توانيت> وراح الموضوع في خضم انشغالاتنا اليومية، وخلال زيارتي الأخيرة لـ>المدى> أخبرت مؤيد نعمة بهذا الحوار، فرد بخجله المعهود وأدبه الجم: شكراً جزيلاً، هذا يسعدني.
مأساوية ساخرة
كان يعبر عن مأساوية الشخصية العراقية، ويستخرج من ركام المأساة لمحة ساخرة وعميقة، تحاول أن تجعل المشاهد ينسجم مع الواقع في الوقت الذي يشعر بصخب جامح لتغييره، وأحياناً يستشعر المشاهد، يأساً مختلطاً بأمل مفتوح لدى قراءة لوحاته. وكان يقول: إن مهمة رسام الكاريكاتير هي الكشف عن الممنوع ونزع استار المبهم والصراحة القاسية احيانا في قول الحقيقة او البحث عنها، وهو يقترح الحلول او يفترضها بالايحاء والاشارة. لذلك فالكاريكاتير وليد الازمات ومروّضها وكاشف المستور منها. ولأن هذا الفن يهتم بشؤون الانسان ومشاكله الاجتماعية والسياسية والفكرية لذلك يستجيب لكل هذه المواضيع ويستمد منها أفكاراً ومواقف مختلفة ويزدهر بها. مؤكداً ان الكاريكاتير فن التحريض ضد الظلم والتعسف والخطأ والشاذ والسيئ ويمكن ملاحظة ذلك جلياً في اية لوحة تنتمي لفن الكاريكاتير وليس لفن التهريج.
مدرسة بغداد
عني مؤيد نعمة عناية خاصة بتأكيد ملامح مدرسة خاصة في الكاريكاتير اسماها المدرسة البغدادية، يقول عنها: المدرسة البغدادية في رسم الكاريكاتير مدرسة متميزة، وهذه ليست شهادتي، إنما شهادة الفنانين المتمكنين من فن الكاريكاتير، وكتبوا عنها وعن تميزها، مدرسة بغداد في فن الكاريكاتير اعتمدت على نقل الواقع، بالأسلوب الحديث، يعني لم تعتمد على النكتة الساذجة، أو على الموقف الساخر المسطح، دخلت بالعمق، هذا يعني أضاف لنا مسؤوليات جديدة، أن نتمكن من مسك الخيوط كلها، التي تجعل رسام الكاريكاتير متمكنا من عمله.
كانت رسومه وأعماله قريبة من نبض الناس وهمومهم اليومية في اللقمة الشريفة، والكرامة، ومحاربة المفسدين، والقتلة من جزاري الإرهاب، وكان يملك قدرة هائلة على الحلم والأمل، لذا فانه كان يقول: ان المنطق يستدعي إن أكون قريباً من أحداث بلدي، وهذا حال كل رسامي الكاريكاتير بالعالم، اني بتماس مباشر مع أحداث بلدي، وأحاول أن أترجم ما أشاهده، ما أحسه إلى رسوم أنشرها بالصحافة. ولهذا أيضاً قال عنه شاعر ومفكر مثل عبد الرحمن طهمازي: <مؤيد نعمة من رسامي الكاريكاتير العراقيين الذين جاءوا بعد جيل غازي، وهو أيضاً بعد بسام فرج مباشرة حين دخل الكاريكاتير الصحفي عندنا مرحلة نوعية جديدة. يمتاز مؤيد نعمة بالصراحة والمجاز والقدرة التصميمية، عدا موهبته التي يحتاج إليها أي رسام كاريكاتير لا تغريه المداهنة، أقصد موهبة رصد المفارقات والتوريات التي يمتلئ بها واقع اجتماعي عام عبر لحظة خاصة. موت هذا الرسام خسارة للفن العراقي الحديث، وللصحافة بالمعنى الواسع>.
الأمل الحزين
يقول مؤيد نعمة عن وطنه ومستقبله: انا لا انظر إلى مستقبل العراق من خلال العملية الحسابية (عند البعض) والمتمثلة في كم مقدار من الامن هنا، ومثقال الامن هناك، وكم تحقق من إحلامنا وكم خسرنا وكم ربحنا، فنحن نعمل في التاريخ، وتاريخ العراق الجديد بدأ منذ ستة الاف سنة... نعم.. اقول تاريخ العراق الجديد.. حيث يتضمن كل حالات القهر والبؤس والانتكاسات، التي لولاها ما ولدت حالات النهوض والاشراقات التي تأتي دائماً بعد ظلام وعتمة، ويكفي شعبنا فخراً تحمله معاناة عشرات بل مئات السنين من الويلات على مر العصور، ثم ينهض... ثم يكبو... ثم ينهض ليأخذ ما يستحق ويعطي ما يلزم للانسانية، فمن حقنا ان نحلم، ولكن علينا ان نسعى لتحقيق احلامنا. كان مؤيد نعمة يرى ان الكاريكاتير> شامل لكل الفنون، وهو فن المستقبل وفن التعاطي مع المشاعر، فن التلويح بالمعاني المكبوتة، مثلما هو فن شامل لبقية الفنون؛ فن المبالغة التي لا يدركها التصوير والرسم الاكاديمي او الرسم الحديث التجريدي، فن الاحساس بالموسيقى التي تنساب بين الخطوط، فن السحر والإلهام الذي يجسده رسام الكاريكاتور بخطوط والوان قد لا تسعف القواعد الأكاديمية في تنفيذها. وبذا فهو فن شامل بتخطيطه، ألوانه، نحته، غرافيكه، موسيقاه، شعره المفعم بالأحاسيس التي تظهر على رسوم الفنان. ولابد من الالتفات إلى مسألة مهمة، وهي أني أتحدث هنا عن فئة الكاريكاتور اللوحة والموقف وليس كاريكاتير النكتة السمجة والضحك المسطح البليد والشائع في الصحافة>. وبهذا المعنى، ظل مؤيد نعمة قريبا من رسام الكاريكاتير الروسي (سميرنوف) والتشكيلي (ادولف بورن) صاحب الجوائز الكبرى في المهرجانات الدولية.. والفنان العراقي (عبد الرحيم ياسر) والفنان الألماني (هنري بوتنر) والفنان المصري (محيي الدين اللباد) والفنان الكوبي (رينيه ويلانويز) والفنانين السوريين (يوسف عبد لكي وعلي فرزات) والفنان الاميركي الروماني الاصل (سول شتاينبرك) والفنان الروسي (سيرجي تيونن) والفنان الفرنسي (فولون) ويرى فيهم ممثلين حقيقيين لمفهومه عن الكاريكاتير.
عاش نعمة حياته، وغادرها مؤمنا ان الكاريكاتير فن التحريض ضد الظلم والتعسف والخطأ والشاذ والسيئ، مشدداً على انه يمكن ملاحظة ذلك جلياً في اية لوحة تنتمي لفن الكاريكاتير الذي منحه حياته ووقته وموهبته، وليس لفن التهريج، الذي لم يقترب الراحل من ضفافه ابداً.