بين غرامشي وأدوارد سعيد

بين غرامشي وأدوارد سعيد

زيد محمود علي
ان غرامشي القائد الايطالي العمالي، كان اكثـر المهتمين بقضايا المثقفين، امثال المفكرين (جان بول سارتر، ميشيل فوكو – التوسر - ادوارد سعيد وغيرهم،) برغم اهتماماته السياسية في مجال التنظير الايديولوجي لكنه اهتم بشكل كبير بقضايا وشؤون النخبة، ولازالت قضية البحث في هذا المجال لدى غرامشي حتى آخر فترة من حياته، وقد تناول الباحثون تنظيراته في هذا المجال، يرى (غرامشي) ان كل مجموعة إجتماعية تنتج بشكل عضوي فئة أو أكثـر من فئة.

ويتولى أولئك المثقفون العضويون مهمة اكساب المجموعة الاجتماعية تجانسها ووعيها لوظائفها ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن غالبا"في المجالات الاجتماعية والسياسية. وحسب رأي غرامشي (يرتبط العضويون في التصور النظري بنمط الانتاج الرأسمالي). ولاتحول هيمنة النمط الرأسمالي من دون وجود نموذج آخر من المثقفين وهم المثقفون التقليديون. يرتبط المثقفون التقليديون بأنماط الانتاج السابق على الرأسمالية بكل تعقيداتها.
ويرى غرامشي أن مايميز المثقفين عن بقية الجماعات الاجتماعية هو الدور الخاص الذي يلعبونه في عالم الانتاج. ان دور المثقفين هنا ليس دورا"مباشرا"، وأنما يتم بتوسط البنى الفوقية التي يقوم فيها المثقفون بدور وظيفي ((ان المثقفين يلعبون دورا"خاصا"في تنظيم الهيمنة الاجتماعية وسيطرة الدولة، وهم يرتبطون اساسا"بمستوى البنية الفوقية: المجنمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة بتطابق المجتمع المدني مع وظيفة ((السيطرة المباشرة والقيادة، من هذا"المنظور ليس المثقفون أكثر من موظفين لدى الجماعة المسيطرة، وخبراء في اضفاء الشرعية على الكتلة الحاكمة)) (1)– ففي طروحات غرامشي شيئان مهمان اولهما في مجال الهيمنة، باعتباره موقع مهم في احداث الصراع الاجتماعي وثانيهما ازمة الحزب السياسي الحاكم، الذي تسوده روح الديمقراطية وينفصل عن جماهيره وعن اللحظة التاريخية بشعبه. ان الهيمنة التي يقصدها غرامشي، هي هيمنة الدولة، واطلق عليها عدة مسميات (الدولة الشرطي) الدولة الحارس الليلي والمثقفون مثل هذه الدولة يلعبون دورا"اساسيا"كوكلاء للمجموعة السائدة في اداء الوظائف المندرجة في إ طار الهيمنة والمقصود هنا الهيمنة هي الهيمنة السياسية"ممارسة الهيمنة في المجال البرلماني ويعني هنا في الأساس معركة تقسيم السلطات والمعركة الدستورية، الهيمنة في المصنع كما انشأها في المجتمع الامريكي رجال الصناعة ومنظروها مثل (تيلر وفورد) وتستهدف تنظيم اخلاقيات العمال الجنسية والأسرية من أجل انتاجية أفضل فجهاز الثقافة يتكون من مستويات مختلفة تهيمن على الواقع من تنظيم التعليم من المدرسة حتى الجامعة تنظيمات ثقافية من المكتبة العامة إ لى المتاحف تنظيم الاعلام – الصحافة اليومية نظام المجلات الخ... تنظيم الدين حتى إ طار الحياة التي تكونه تنظيم المدن – الهندسة المعمارية فكل هذا اثارة في سلوك الحياة والمعيار الأخلاقي وأنماط التفكير. ويقول غرامشي أيضا"عندما يتحقق جهاز الهيمنة بقدر مايخلق أرضية ايديولوجية جديدة يحدد إصلاحا"لوعي البشر ومناهج للمعرفة فيكون حدثا"معرفيا"حدثا"فلسفيا"
(2) – وقد يذهب الى حد ابعد غرامشي في تقيمه لواقع المثقف في المجتمعات حتى الحديثة منها، بحيث يكون لدور المثقف الى مستوى متدني، اي بمستوى الموظفين البسطاء أو حتى إلى ما هو أسوأ من ذلك إي إلى مستوى مرتزقة الدولة الحديثة، لتحقير دوره وجعل دوره هامشيا"في جميع الاوقات - في حين ان دور المثقفين كعنصر أساسي للوعي، سواء مثلوا الفكر التقليدي للمثقف المحافظ أو المجموعات المنتجة الحديثة التي يفرزها المجتمع الصناعي أو الرؤية الثورية في المجتمع الطبقي. فالمثقف نتاج الثقافة ومنتج لثقافة ينبغي أن تدرس ظروف هذه وتلك من أجل تحرير قوى الفكر والانسان من التبعية للؤسسات الايديولوجية. وهذا الطرح يتناقض في هذه المرحلة مع ماذهب اليه غرامشي حول مفهومية المثقف، لأن طرح غرامشي حول المثقف يرتبط مع مفهوم الحزب باعتباره كتنظيم جماعي يجب أن تثقف الجماهير بموجبه يفصح عن رؤية سياسية واضحة بطبيعة الصراع وضرورة الاعداد له، الا أن توجهات الثقافة في مرحلتنا الراهنة تبتعد عن الادلجة والمفاهيم الحزبية.
رفض الأفكار المبتذلة
ان ادوارد سعيد يعد من المفكرين الذين تناولوا قضايا المثقف وقد ابدعوا في هذا المجال وكانت لكتبه مقالات وحوارات وصور المثقف والاستشراق والمنفى وغيرها من الكتب، التي من خلالها حدد مهام المثقف ووظيفته ‘ وكانت ملامحه تنساب ضد القوالب الجامدة، وكما يقول (مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد ّ من الفكر الإنساني والاتصال الفكري) وباستمرار يقوم ادوارد بوضع تحوطات امان للمثقف ‘ هو الابتعاد عن المغريات ورفض الافكار المبتذلة الجاهزة ‘ والتملق والمجاملة لما يطلبه الاقوياء والتقليديون ولايعني"هذا الأمر دوما"أن يكون المثقف ناقدا"لسياسة الحكومة، بل أن يرى في المهنة الفكرية ّ حفاظا"على حالة من اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسير ّ المرء معها. وينطوي ذلك على واقعية ثابته وطاقة عقلية أشبه بالطاقة الجسدية اللازمة لممارسة الرياضيات البدنية الشاقة وكفاح عسير لاقامة توازن بين مشاكل الفردية الذاتية وبين متطلبات النشر والتحدث جهارا"في العالم العّام وهذا مايجعلها جهدا"أبديا"غير منجز تكوينيا"وبالضرورة غير تام ومع ذلك فاءن محفزاتها وتعقيداتها بالنسبة إلي أنا على الأقل تغني المرء فكريا"ولو أنها لاتجعله يحظي بشعبية واسعة"
(3) – وحسب مفهوم ادوارد ان المثقف أساسا"معني بالمعرفة وبالحرية. ولاسيما في (صور المثقف) انتقد أساتذة الجامعات وعدهم رعاديد ممن تستحوذ عليهم اللغة الاصطلاحية والذين لم يعرهم أحد في المجتمع أي اهتمام يذكر في حين ان المثقف اللااكاديمي اختفى كليا"وترك وراءه امثال الاساتذة الذين ذكرناهم ونتيجة ذلك أن مثقف اليوم هو"على الأرجح أستاذ أدب منغلق على نفسه، ذو دخل مضمون لايستهويه التعاطي مع العالم ألابعد من حدود حجرة التدريس ويزعم جاكوبي أن أمثال هؤلاء الأفراد يكتبون كلاما"مملا"مقصورا"على فئة قليلة، متنافيا"مع المعايير العصرية، غرضه الرئيسي هو التقدم الأكاديمي لا التغيير الإجتماعي"–
(4) – وعلى كل حال فأن اساتذة الجامعات حسب معيار ه هو احد وكلاء السلطة، وبنفس الوقت يكون رجل الدولة ولايمكن في اي حال من الاحوال انتقاد السلطة، في حين المثقف بقياسات (ادوارد) انه يمثل الحقيقة ولايذعن لاية سلطة، فالمثقفون الحقيقيون مايعتقدهم (ادوارد) لايكونون أبدا"في أفضل حالاتهم النفسية الا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزيقية ومبادىء الحق والعدل النزيهة فيشجبون الفساد ةيدافعون عن الضعيف ويتحدون السلطة (المعيوبة أو القمعية) ويقول نبدأ:"هل من داع لأعيدالى الأذهان كيف شجب الأسقف فينيلون والأسقف ماسيون بعض حروب لويس الرابع عشر؟ وكيف شجب فولتير تدمير البلاطين؟ وكيف تعصبت إنكلترا ضد الثورة الفرنسية؟ وكيف شجب نيتشة، الأعمال الوحشية لألمانيا ضد فرنسا"
(5)– وكما يعتقد ادوارد ان على المثقف ان يواجه الافكار التقليدية بفكر نير وحداثي وان يكون المثقف شخص صعوبة المنال لدى الحكومات او المؤسسات في مجال كسبه والهيمنة عليه، وان يكون شخص له قوته في تمثيل الناس المنسيين والقضايا التي تم إهمالها، والدفاع عن قيم أزليةخيرّة دون ارتهان إلى مصلحة أو انتظار مكافأة، بل تكون مسألة مبدئية يمكن الدفاع عنها، وفي مفهومه يجب على المثقف ان تكون منطقته الانتخابية الطبيعية هي الجمهور بقدر الامكان وأن أكبر خدمة قدمها (إدوارد) إلى الثقافة"هو أنه انتشلها من متاهات التجريد بإرساء دعائم لها في العالم وبتوسع آفاقها التي كانت إلى زمن قريب محصورة في الآداب والفنون وجمالياتها وذلك حين تبين أنها تنبع من مصادر العالم اللا محدود وتصب في آفاقه التي لاحدود لها. وقد بدأ ادوارد سعيد بذلك العنوان"الثقافة والمجتمع"وقد نجح علاوة على ذلك في تطوير مفهوم المثقف والثقافة وانتقل من الشمولية إلى الكونية"
(6)– ولاسيما يجب ان نركز على ماطوره ادوارد في مفهوم الثقافة ضمن السياق الشامل للحركة الانسانية، بأن الإنسان كائن فاعل وينتج للثقافة وملزم بتفعيلها في المجتمع. وان سعيد يفضل بعض المثقفين الذين لايحسون بالراحة أو الطمأنينة، وبعدم الاستقرار ويشعرون بضرورة الحركة الدائمة مسببين عدم الراحة للآخرين، ولايفهمهم الا البعض من نفس المثقفين الحقيقيين الذين يفهمون قضايا المثقف المعاصر..
عن موقع الحوار المتمدن