فصل من كتاب..من مذكرات الجادرجي

فصل من كتاب..من مذكرات الجادرجي

بعد ان تقدم بي العمر وأنا –الآن- قد تجاوزت الثالثة والثمانين من عمري، لم أجد بُداً من الاستجابة لمناشدات ومطالبات شقيقي الأكبر رفعة، وعدد آخر من الاصدقاء الذين وصلت مطالباتهم حد الالحاح بضرورة كتابة مذكراتي التي لم تخطر ببالي يوما كتابتها وتدوينها.

كنت أتضايق من تلك المطالبات في كثير من الأحيان، وكان مردّها يعود لكوني ولجت طريقاً شائكاً وصعباً في العراق أغلب سني عمري، وهو العمل السياسي المعارض في أغلب سنوات نشاطي في هذا المضمار، سائِراً من خلاله على خطى الوطنيين الاحرار الذين كرّسوا جُلّ حياتهم في العمل السياسي المعارض، (الوطني والديمقراطي)، في ظروف كانت في الغالب يسودها القمع والاضطهاد والتهجير، ولربما كانت تؤدي حتى الى الموت، كما حدث للعديد ممن ساروا بهذا الدربِ بإرادتهم، حيث كنت من ضمن هؤلاء الذين اختاروا السير في ذلك الطريق الذي اخترته بقناعة تامة لايشوبها ندم أو تردد.

ولجت طريق النضال من أجل حياة أفضل لشعبنا العراقي، تتيح له التعبير عن مكنوناته، في حبه للحرية ولحياة يتمتع بها بالخيرات الوفيرة لبلده، ومن أجل السيادة الناجزة لوطنه. الا أن العسف الشديد ممّن كان يتولى أمر البلاد كان يحول دون تحقيق تلك الاماني الانسانية والوطنية المشروعة لتبقى حبيسة أحلامنا وطموحاتنا.
هكذا بدأت مسيرتي الطويلة، متمرداً على اوضاع سياسية واجتماعية سيئة ومتخلفة، ألقت بظلالها على البلد لزمن طويل وفرضت نفسها عليه، لأجد نفسي بين دوامتها زائراً للمعتقلات مرات ومرات، ومطاردا من أمن الاستبداد والطغيان، لمرات أخرى.
أتساءل غالباً وأنا في هذا العمر وبعد رحلة طويلة قضيتها في هذه الحياة، هل أنا نادم على اختياري لذلك الطريق المليء بالاشواك والمعاناة التي لا أدعي إنني الوحيد في هذا البلد ممن أختاره، لأجيب على ذاتي قائلاً: لا... لِمَ الندم على أختيار هذا السلوك من أجل أسمى المبادئ، والتضحية لتحقيق غدٍ أفضل لبلدنا وشعبنا الذي يستحق حياة أفضل مما كانت وما زال يعيش تحت وطأتها، إن لم نتمكن من تحقيقه نحن أبناء ذلك الجيل، فالأمل لايزال معقودا بتحقيقها حتما على يد هذا الجيل الذي يعيش أصعب مرحلة في تاريخ وطنه والذي تلوح بوادر تمرده على واقعه المزري في الأفق، أو ألأجيال القادمة التي ستليه.. فإجابتي على أي تساؤل هي واحدة.. لست نادما أبدا على أختياري للسير في هذا الطريق!.

تهنئة الزعيم قاسم بسلامته
في أوائل شهر تشرين الأول/ اكتوبر من عام 1959 تعرض الزعيم عبد الكريم قاسم الى محاولة اغتيال نفذتها عناصر بعثية أثناء مرور سيارته في منطقة رأس القرية في شارع الرشيد كان قد نجا منها رغم اصابته بعدة رصاصات اخترقت جسده.
كنت حينها في زيارة للمحامي (عبد الرحمن الصفار) في مكتبه الواقع في شارع المتنبي. كان أثناء إجرائه لإتصال هاتفي مع أحد معارفه قد بدا الارتباك على صوت (المُتصل) وأبلغ الصفار بأنه يستمع لأصوات رصاص تدوي بالقرب منه في شارع الرشيد، وأغلق الهاتف دون أن يعطي أية تفاصيل.
بعدها بدقائق وصلنا خبر ما تعرض له الزعيم، فخرجت من مكتب الصفار متوجهاً إلى مكان الحادث، لاشاهد العربات العسكرية تحيط بمكان الحادث. فوجدت زجاج السيارة محطما وبقايا الرصاص متناثرة من كل جانب.. وحينئذ خرج الناس بتظاهرات صاخبة عمت المكان هاتفين بحياة الزعيم شاجبين المحاولة ومن قام بها.
قدّرت حينها بأن عناصر حزب البعث هم من قاموا بتلك العملية.. وحال وصولي للمنزل سألني والدي عما اذا كان ما يُشاع عن استهداف الزعيم حقيقة، فأكدت له الأمر ولم أكد أروي له ما شاهدت حتى أعلنت إذاعة بغداد خبر العملية، معلنة بأن الزعيم يرقد”الان”في المستشفى بصحة جيدة.
جلست مع والدي نستمع عبر المذياع الى برقيات التهاني بسلامة الزعيم، وهي تعبر عن التأييد والولاء له، وقد كانت جلها قادمة من (أفراد الجيش) من القادة.
قطعت لحظات صمت الاستماع التي سادت الغرفة، لأقترح على والدي أن يقوم بإرسال برقية تهنئة بسلامة الزعيم.
فوجىء بما سمع مني، وبعد لحظات صمت وتأمل طلب مني التريث.. لكنني أصررت على مقترحي، قائلاً له بأنه أمر سيكون ذا وقع معنوي كبير لو حصل.
رد علي قائلاً: سأرسلها..... لكن يوم غد!.
قلت له:
وقعها سيكون أشد لو أرسلتها الان.. أما غداً فلا داعٍ لها، مبدياً إصراري على تنفيذه للفكرة.
بنبرة هادئة طلب مني الخروج من الغرفة، (لم يكن طرداً بقدر ماكان إبداءً لإنزعاجه تجاه إلحاحي على أمر لايرغب بتنفيذه).
لم يكن قد مضى وقت طويل على خروجي من الغرفة حتى ناداني للمجيء اليه مرة أخرى..
ناولني برقية كان قد كتبها بخط يده، طالباً مني إبداء رأيي بفحواها..
قرأتها سريعاً فعبرت له عن إعجابي بمحتواها في هذا الوقت الحرج، فقال لي.. سأرسلها غداً.
قلت له: لافائدة من إرسالها بالغد!.
فقال: كيف إذا نرسلها في هذا الوقت المتأزم؟.
أجبته قائلاً: من خلالي!.
عبّر عن دهشته بما سمع مني، فقال بأن (الدنيا مقلوبة رأسا على عقب الان) وتريد أن تخرج لإرسال البرقية.. أعرف إنك (مجنون)، لكن ليس الى هذا الحد.. وفي هذا الوقت بالتحديد!.
شعرت حينها بأن الوقت يضيع في النقاش والمداولة، فاقترحت عليه الاتصال بالإذاعة وقراءة البرقية عليهم.. فوافق على العرض، لكن (على مضض)!.
حاولت مراراً الاتصال بالاذاعة لكن دون جدوى، حيث كان هاتفهم مشغولاً على الدوام.. وكان يجلس قبالتي يراقب ما أفعل دون أن يقول شيئاً.
لم أكف عن محاولاتي، فقد كنت أعرف رقم هاتف (بدالة الغرب)، وعند اتصالي بهم قدمت لهم نفسي بأنني (كامل الچادرچي) ما أثار دهشة والدي حيث بدت على ملامحه علامات الذهول والانزعاج على هذه”الوقاحة”مني!.
أبدى موظف البدالة ترحيباً كبيراً بمتحدثه (كامل الچادرچي)، وأبلغني بأنهم قطعوا كافة الاتصالات بالاذاعة وخصصوها للجيش فقط، لكنه سيقطع جميع المكالمات ويوصل (مكالمتي للاذاعة)..
بعد لحظات انتظار اوصلني بالاذاعة حيث قدمت نفسي لمن تحدث معي على أنني (كامل الچادرچي).
بعد إبدائه لعظيم الترحيب قال: سأعطيك مدير الاذاعة لتتحدث معه. ولم تمضي من الوقت عدة ثوانٍ حتى تحدث معي شخص بصوت بدت عليه الحماسة قدم نفسه بأنه (ذنون أيوب)، فأخبرته بأنني (نصير الچادرچي)، وبعد تبادل التحايا بيننا ناولت سماعة الهاتف للوالد للتحدث معه.
بعد ترحيب شديد به، قرأ الوالد البرقية لمدير الاذاعة، ولم تمضِ دقائق على إنهاء المكالمة حتى أعلنت الاذاعة باسترعائها لانتباه المستمعين بأن برقية هامة ستذاع بعد قليل.. وبعد دقيقتين أعيد الاعلان من جديد.
بعد ذلك اذيعت البرقية التي عنونها المذيع (من كامل الچادرچي الى الزعيم عبد الكريم قاسم) وتم تكرارها لأكثر من مرتين.

في المستشفى
عند رقود الزعيم عبد الكريم قاسم في المستشفى، كانت الوفود تتوالى عليه، وبعد مضي ما يقارب العشرة أيام على اصابته اقترحت على الوالد زيارته في المستشفى.
بدا غير متحمس لهذا الأمر، ولم ألح عليه للقيام بتلك الخطوة مثلما فعلت بموضوع البرقية.
لكنه في اليوم التالي أخبرني عن اعتزامه الزيارة.
ذهبت برفقته الى مستشفى (دار السلام) في ساحة الاندلس التي كان يرقد فيها الزعيم، وفي الطابق الثاني شاهدنا عدداً من الوزراء مجتمعين ينتظرون اللقاء به. كان من بينهم السادة: (وزير الدولة فؤاد عارف ومصطفى علي وزير العدل والدكتور محمد الشواف وزير الصحة) وبعض قادة الجيش.
ولم تكن دقيقة قد مضت على جلوسنا معهم، حتى خرج الينا مرافقه طالبا مِنا الدخول عليه لوحدنا في غرفته دوناً عن البقية.
حال دخولنا رأيناه راقدا بالفراش، فبادرناه بعبارات التهنئة بسلامته ونجاته من الحادث، فوجه كلامه الى والدي قائلاً:
هل شاهدت يا استاذ كامل كيف اعتدوا على الشعب العراقي والديمقراطية في البلد، باعتدائهم عَلَيّ.. ثم استرسل بكلامه عن تفاصيل المحاولة وكيفية نجاته منها.
عبّر له والدي عن تمنياته بالسلامة وعودته الى ممارسة مهامه من جديد.. ثم أضاف قائلاً:
وعليه أتمنى أن تعيد النظر بسياستك المتبعة في الحكم، وأن تنظر الى العملية السياسية بنظرة أخرى..
أجابه الزعيم بنظرات تساؤل: أعدك بذلك... وشكرنا على هذه الزيارة.

مع شاعر العرب الأكبر
كنت في أيام دراستي الجامعية موظفاً في دائرة الأموال المجمدة، حيث كنت حينها أحد موظفي (شعبة الايجارات).. وكانت وظيفتها تنظيم عقود الايجارات وتوجيه الانذارات لمن لايدفع الايجارات الى الدولة.
ومن المؤكد أن العمل في هكذا دائرة ستتخلله العديد من المواقف التي تبقى راسخة في الذاكرة ومن ضمنها ما سأرويه:
ذات يوم جاءني أحد الاشخاص وأبلغني بأن الاستاذ (محمد مهدي كبة)* يريد أن يزور الدائرة لاجراء عقد معها كونه يسكن في عقار تابع (للأموال المجمدة)، وكان ذلك في شهر نيسان/ابريل من عام 1959، وكان حينها مستقيلاً من عضويته في مجلس السيادة.
ذهبت لمسؤولي الأعلى (مساعد الأمين العام) السيد (هاشم طه الراوي) وأخبرته بالأمر، مبدياً رأيي بأن ليس من اللائق أن يزور شخص مثله الدائرة لتوقيع تجديد العقد، سيما وأن هذه الايام تشهد زخماً من المراجعين لدائرتنا.
رد علي قائلاً: انني لست معنياً بالأمر، فكما ترى حالة البلد التي نمر بها (بعد حركة الشواف)، فأردف قائلاً: ما الضير من مجيئه؟!، فقلت له: قبل عدة أيام أخبرتني بتنظيم عقد وإرساله لأحد الاشخاص وكان أحد مدراء الشرطة الذي يعد أقل شأناً منه. فقال: تصرف كيفما تشاء وعلى مسؤوليتك.
عدت الى المُرسل وأجريت له العقد كاملاً، وطلبت منه ابلاغ سلامي الى السيد (كبة)، فشكرني على خدمتي له وانتهت القضية بدقائق معدودة.
في تلك الفترة كان شاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري) مستأجراً لدار تابعة للأموال المجمدة وفيها مطبعته، وقد كان مديناً لدائرتنا بمبلغ قدره (400 دينار) لم يسدده.
وفي أحد الأيام وجدت على طاولتي إنذاراً مطبوعاً وموقعاً، كان قد وجه الى السيد (محمد مهدي الجواهري) بصيغة غير لائقة وهذا أمر غريب لأنني المسؤول عن توجيه الانذارات.
سألت زميلي عن الذي قام بهذا العمل، لكنه نفى علمه بهذا الكتاب وكان صادقاً بقوله.. فأخذت الورقة الى السيد (هاشم الراوي) الذي كان موظفاً كفوءاً وذا خلق عالٍ، وسألته عما اذا كان يرضيه تصرف كهذا بحق الشاعر الجواهري.
فأجابني قائلا: ما الذي نقوم به إن كان لايدفع، ولاعلم لي بهكذا كتاب؟!.
قلت له: مع ذلك ليس من اللائق أن نوجه له إنذاراً بهذه الصيغة!.
نفى علمه بالموضوع وطلب مني التصرف كيفما أرتأي، لتخليصه من هذا الموقف إسوة بما فعلته مع قضية محمد مهدي كبة.
أخبرته بعزمي بتمزيق الانذار.. فقال: لا دخل لي افعل ماتشاء.
مزقت الورقة أمامه وخرجت.
يبدو أن تصرفي هذا قد وصل خبره الى الجواهري، وبالتحديد عبر الصحفي (يوسف متي) الذي طلب مني رقم هاتف الدائرة، وبعد عدة أيام اتصلت بي زوجة الجواهري عبر الهاتف في الدائرة وسلمت علي وعلى اسرتي فرداً فرداً وسألت عن زوجتي كونها كانت تعرفها، وبعد أن سألت عن أحوالنا جميعاً قالت لي بأننا مدينون الى دائرتكم بمبلغ قدره 400 دينار، سائلة: هل بإمكاننا دفع مئة دينار منها؟!.
قلت لها: ابعثي لي بعشرة دنانير فقط من الأربعمائة دينار التي بذمتكم لنا.
فقالت: كيف؟
قلت لها: افعلي هكذا واتركي الأمر لي.
بعد مضي ساعة ونصف رأيت الجواهري يقف قبالة طاولتي في مكتبنا بالدائرة.. وحين رأيته عانقته وأبديت احتفائي به، ودعوت الموظفين لمشاركتي بذلك، ما أثار الغبطة والسرور في نفسه لاحظناها جميعاً عليه.
علق على ماقمت به وقال لنا جميعاً:
مضى شهر علي لم أخرج خلاله من المنزل، بسبب قيام أحد الأشخاص (صعلوك) برمي الحجارة عليّ.. ثم قال:
قلت في نفسي حينها: هذا الشعب لايستحق منا شيئاً.
بعد ثوانٍ من الصمت قال:
لكنني حين استمعت الى مكالمة زوجتي (أم نجاح) معك وشرحت لي موقفك معي غيّرت رأيي بهذا الشعب وقلت بأنه طيب ويستحق كونك منه، فأصريت على زيارتك وإبداء شكري لك.
ناولني مبلغاً من المال، لكنني أصريّت على أن يكون عشرة دنانير فقط، وأبدى تساؤله فيما اذا كان يصح ذلك وأكدت له بأنه يصح.
لكن أحد الموظفين أخذ منه العشرة دنانير، وقال بأنه سيدفعها الى المحاسب، لكنه سيحتفظ بها كإرث تاريخي قادم من شاعر العرب الأكبر وسيسلم غيرها الى دائرته، ما أثار السرور في نفسه مرة أخرى.
ودّعناه الى الشارع العام حيث استقل سيارة تكسي، ليكون ذلك اليوم إيذاناً بصداقة طويلة جمعتني به ولازلت أعتز بها.

إنقلاب (شباط الأسود) 1963
في صبيحة يوم الجمعة المصادف الثامن من شباط/فبراير 1963 كنت مع زوجتي وطفلي الصغير (سليمان) البالغ من العمر ثلاثة أشهر، في منزلنا المقابل لمنزل الأسرة في شارع طه، عندما استيقظنا في الصباح على صوت إذاعة بغداد وهي تذيع بيانات بدت لنا غريبة لكن الرؤية اتضحت لنا بعد دقائق، فقد كان (أحد قادة الإنقلاب) يُلقي على الشعب العراقي بيانات تفيد بالقضاء على نظام عبد الكريم قاسم، لندرك من خلال ما سمعناه، أن هناك حركة عسكرية انقلابية قد أطاحت بنظام الزعيم (عبد الكريم قاسم).
سارعت بالذهاب إلى منزل الاسرة المقابل لمنزلي لأكون بقرب والدي في تلك اللحظات العصيبة من تاريخ العراق فرأيته وقد بدا عليه التأثر.. كنا جميعاً نتوقع بأن هذه الاوضاع لن تدوم وأن انقلابا (قوميا أو بعثيا) سيطيح بنظام عبد الكريم قاسم.
كان أخي رفعة وزوجته السيدة (بلقيس شرارة) ووالدتي موجودين في الدار يستمعون الى الاذاعة وبياناتها، ومع تسارع الأحداث طلبنا بالاجماع من الوالد مغادرة المنزل. في البداية رفض العرض لكن مع أصرارنا عليه توجه الى منزل خالي السيد (عارف آصف آغا) في شارع الضباط الواقع في منطقة الأعظمية، وكان برفقته والدتي وشقيقي رفعة وزوجته السيدة (بلقيس).
أبلغتهم بأنني سأبقى في المنزل ولن أغادره، لكنهم نصحوني بتركه خشية على حياتي من حدوث مالايُحمد عقباه.
مع تسارع الأحداث في ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم، فكرت جدياً بمغادرة المنزل، لكن أحد الأشخاص الذي تربطني به معرفة سابقة والذي كان من مؤيدي الزعيم (عبد الكريم قاسم)، زارني للمنزل طالباً مني إيصاله الى منزله في منطقة (البياع) في هذه الظروف وبأية طريقة، فما كان مني الا أن أطلب من السائق (حسين) إيصاله إلى حيث يريد، وبقيت في المنزل لحين عودة السائق.
أنتظرت حتى انقضاء الظهيرة ليعود حسين، حيث أخبرني عن حالة التوتر التي تسود الشوارع والصعوبة البالغة التي واجهته لاداء مهمته بإيصال الشخص الى منزله في البياع.
بناءاً على ماسمعته من (حسين) والبيانات التي كنت أستمع اليها من الاذاعة نويت الذهاب الى منزل شقيقتي (أمينة) في الكرادة، لكن مع حلول المساء تم قطع أغلب الطرق، فقررت الذهاب بمفردي الى منطقة الصليخ حيث منزل ابنة خالتي السيدة (أسماء الكيلاني) زوجة السيد (منذر منير عباس).
ذهبت الى هناك بصحبة (حسين) السائق، مضطراً لأني كنت معروفاً بالحي الذي يسكنونه.
كان منزل السيد (منذر منير عباس) مكتظاً بالزائرين الذين كانوا يتابعون أخبار الانقلاب فيه عبر المذياع والتلفزيون ويتداولونها، الأمر الذي أدى الى معرفة أمر وجودي في بيتهم من قبل الكثيرين.
بقيت في منزلهم قرابة يومين، وكانت الاحداث تتسارع بشكل مروع أشدها وطأة علينا، كان مشهد عرض جثة الزعيم (عبد الكريم قاسم) على شاشة التلفزيون وهي مغطاة بالدماء وأحد الجنود يبصق بوجهه بوضع يدعو الى الشجب والاستهجان من الكثير ممن شاهدوه.
خصصت لي عائلة السيد (منذر منير عباس) إحدى غرف المنزل في الطابق الثاني كي أقيم فيها، وفي ظهيرة يوم الحادي عشر من شباط/فبراير فوجئت بدخول السيدة (ليلى سامي شوكت) علي بشكل مفاجىء، وهي التي كانت تربطنا بأسرتها صلة الصداقة و(النسب) وكانت دائمة الحضور في منزل السيد منذر لصلة القرابة والجيرة بينهم.
كان الارتباك طاغياً على ملامحها وقد بدت يداها ترتجفان، وبنبرات خائفة قالت لي:
اسمع يانصير.. توجد الآن في باحة المنزل حوالي خمس سيارات مُحملة بعناصر (الحرس القومي) يحملون أسلحتهم وهم الان يطوقون البيت من جميع جوانبه.
ثم استرسلت في كلامها قائلة:
أمروا كل الموجودين في البيت بالخروج منه وأبلغونا بأنهم سيقتلون كل من يتحرك، حيث لديهم معلومات تؤكد وجود (نصير الچادرچي) فيه.
ثم قالت: أتوسل إليك أن تستسلم.. لأنني رجوتهم لكي يسمحوا لي بإبلاغك بتسليم نفسك بدلا من القاء القبض عليك بأنفسهم... ثم كررت رجاءها بالنزول معها لتسليم نفسي إليهم.
رأيت ألا فائدة من الهروب أو المقاومة وفكرت بالاسرة التي استضافتني فيما لو تعرضت للأذى بسببي.. وبخطوات هادئة وقيافة كاملة نزلت السلالم معها، لأرى عشرات المسلحين موجهين رشاشاتهم نحوي.
كان الخوف قد تجرد مني أمام هذا المشهد المروّع. لم يكن ذلك ضرباً من ضروب الشجاعة بل يأساً من الحياة لتوقعي بإطلاق الرصاص علي وموتي في الحال أو ضياعي في معتقلاتهم ثم النهاية.
أقول: إن الخوف هو حالة طبيعية لأي إنسان، لكن حين يفقد الأمل نهائيا بالنجاة تراه قد تلاشى منه وتلك تجربة جديدة نادرة كنت قد مررت بها لأول مرة في حياتي. خصوصاً بعد صدور البيان رقم (13) المشؤوم الذي أذيع عبر اذاعة بغداد بصوت المذيعة (هناء العمري) في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة مساءً بتاريخ الثامن من شباط/فبراير 1963 والذي صدر عن (المجلس الوطني لقيادة الثورة) بتوقيع الحاكم العسكري العام السيد (رشيد مصلح التكريتي)، والذي جاء فيه:
(نظراً لقيام الشيوعيين العملاء شركاء عدو الكريم قاسم في جرائمه بمحاولة يائسة لاحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع الى الأوامر والتعليمات الرسمية فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للأخلال بالأمن، إننا ندعوا جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالاخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم).
-قالوا لي: اصعد معنا في السيارة.. ودون أن أقول أي شيء فتحت الباب وصعدت في السيارة التي طلبوا مني أن أستقلها، ولم تكن قد مضت ثانية حتى فتحت بابها ووضعت قدمي على الأرض من أجل إعطاء (مسبحتي) الى ابنة خالتي (صاحبة المنزل) كي توصلها إلى زوجتي في إشارة مني لهم الى أنني ذاهب دون رجعة، (لتبقى تلك المسبحة ذكرى لعائلتي، وقد احتفظت بها حتى يومنا هذا وتذكرني دائماً بذلك اليوم الأسود المشؤوم الذي مر به العراق).
عندها صوّب أحدهم فوهة بندقيته الى رأسي ظناً منه بأني سأهرب، لكني أخبرته دون اكتراث بنيتي بتسليم المسبحة فتراجع.
كان من ضمن الواقفين السيد (زهير الجنابي) زوج السيدة (ليلى شوكت). وبعد سير الموكب بي التفت إليهم ولوحت بيدي سلام الوداع الأخير، فرأيته يجهش بالبكاء بصوت عالٍ.