مع نصير الجادرجي.. وطفولته المتناقضة وشبابه المتمرد

مع نصير الجادرجي.. وطفولته المتناقضة وشبابه المتمرد

د. غزوان محمود غناوي
كنت قد تعرفت على السياسي العراقي المخضرم المعارض لنظام الحكم الملكي في العراق الاستاذ نصير الجادرجي منذ فترة قصيرة لا تتجاوز اربع سنوات، وذلك عندما التقيته اول مرة وكنت في وقتها ابحث عن سيرة الامير الراحل عبد الاله بن علي الهاشمي الوصي على عرش العراق وقدمت له نفسي وعرفته بمشروعي،

وسالته ان كانت لديه بعض المعلومات التي تتعلق بالامير عبد الاله لم يسبق له ان نشرها او صرح بها. ابدى الاستاذ نصير مشكورا استعداده لذلك، ووعدني بان يتصل بي خلال اليومين القادمين ليحدد لي موعدا لمقابلته.
وفعلا اتصل الجادرجي هاتفيا وحدد موعدا للقائه في داره في ام اذينة في العاصمة الاردنية عمان. وفي الموعد المحدد وصلت لداره فاستقبلني بكل بكل ترحاب واجابني عن اسئلتي، ولمست فيه الجرأة والصراحة والصدق في حديثه، وفي ختام هذا اللقاء الاول حددنا موعدا جديدا خلال الأيام القليلة القادمة. وخرجت من داره مودعا بمثل ما استقبلت به من ترحاب. وخلال عودتي الى داري لم افكر فيما رواه لي الجادرجي من معلومات ووقائع عن الامير عبد الاله على الرغم من اهميتها ومعرفتي بانها ستغني كتابي، بل ان جل تفكيري انحصر في اسلوبه في الترحاب بي وطريقته في الحديث وسرد الوقائع فقلت في نفسي لعل هذا من قبيل المجاملات التي حمل الجادرجي نفسه عليها.. او لعل هذا كان شعوري الذي احمله في سابق الايام عن الجادرجي دون ان اراه او اقابله، ولكني تركت هذا التقييم الى المقابلة القادمة لحسم رأيي فيما رأيته في الجادرجي وما سمعته منه.
ولا اريد ان اطيل فقد تعددت اللقاءات بيننا، ومع تكرارها وضحت في عيني وفكري صور ة صادقة لهذه الشخصية السياسية، فقد وجدته عند كل لقاء يقف عند باب داره لاستقبالي مرحبا باجمل الكلمات وارق العبارات، فمسح بخلقه وادبه الجم الصورة التي كنت قد رسمتها عنه او رسم صورته الجميلة في عيني وفكري حتى اني اسفت على انني لم اتعرف عليه منذ عشرين عاما.
وتكررت لقاءاتنا واتصالاتنا الهاتفية اينما كنا، وقبل مدة وجيزة اخبرني بصدور مذكراته وارسل مشكورا نسخة منها الي، تسلمتها بعد عدة ايام..
وبدأت بقراءتها وكنت قد اعتدت طيلة ايام حياتي ان ابدأ بقراءة اي كتاب جديد يهدى الي او اقتنيه، حيث اعتبر كغيري ان قراءة اي كتاب جديد هو التعرف على صديق جديد،وان اعادة قراءة اي كتاب قديم هو ادامة العلاقة مع صديق قديم، كما اعتدت ان اقرأ كتابين او اكثر في فترة زمنية واحدة، فاقرأ من الاول عدة صفحات واتركه الى الثاني لاقرأ منه صفحات معدودة واحيانا اتركه الى كتاب ثالث.
وبعد وصول مذكرات الجادرجي الموسومة (مذكرات نصير الجادرجي، طفولة متناقضة، شباب متمرد، طريق المتاعب)بدأت اقرأه، وكنا اعتقدباني ساتبع في قراءته ما الفته مع سواه من كتب اخرى، الا اني فوجئت بمواصلة القراءة في هذا السفر التاريخي الخاص بتاريخ العراق المعاصر برواية سياسي عراقي معارض مؤجلا ما كان لدي من امور لا تقبل التاجيل، وعلى الرغم من ان صفحات هذه المذكرات قد قاربت الخمسمئة صفحة الا انني اكملت قراءته في ثلاثة ايام.
لقد كنت ارجو اي يكون لدي متسع من الوقت لادون ملاحظاتي حول هذه المذكرات، وهي كثيرة ومتعددة الجوانب، الا ان ضيق الوقت اضطرني لاختصارها، حيث انني عرفت ان مؤسسة المدى ستقيم حفلا لتوقيع هذا الكتاب في عاصمتنا الحبيبة بغداد خلال اسبوع واحد في شارع المتنبي وانها ستصدر ملحقا لهذه المذكرات، لذا اعتذر عن اختصاري لما كتبته حولها.
لقد استعرض نصير الجادرجي الوقائع والحوادث التي مر بها العراق في فترة الحكم الملكي وما اعقبه من فترات الحكم الاخرى... وقد حاولت ان اختص ببعضها دون غيرها لاسجل ملاحظاتي عنها الا انني وجدتها كلها دونما تمييز جديرة بالأهتمام، ولهذا ونظرا لضيق الوقت فقد رأيت ان اركز على ناحيتين شخصيتين للاستاذ الجادرجي فقط.. الناحية الاولى : لقد كان نصير الجادرجي ولا زال يتمتع بخلق عال وادب جم، فنه يتمتع كذلك بذاكرة وقادة قوية اختزنت الكثير من الوقائع والاحداث السياسية والاجتماعية، لا يزال يرويها بطريقة شيقة وتسلسل لاحداثها. لقد وجدت فيه هذه الميزةالتي تكاد نكون نادرة في مثل من يكون في عمره (اطال الله عمره).. فقد روى لي احداثا مرت على حدوثها عقود طويلة لا زال يذكرها وكانها وقعت امامه يوم امس.
وفي اعتقادي ان السبب في ذلك يعود لعوامل عديدةولعل في مقدمتها ذكاؤه وقابليته لحفظ الوقائع والاحداث، وكذلك تعود لمصاحبته لوالده الراحل كامل الجادرجي في سني حياته وتحمله مسؤولية ادارة مجلس ابيه دون بقية اخوانه، فقد اتاح له هذا الموقع التعرف على السياسيين والادباء العراقيين وغيرهم ممن يختلفون على مجلس والده، فقد استفاد من موقعه هذا الاطلاع على الكثير من الوقائع والاحداث التي وقعت في هذا المجلس وسمع الكثير منها.
والناحية الثانية.. لقد كان نصير الجادرجي بارا بوالده فهو بعد ان سرد كيف انه انزل من الطائرة التي كان يقلها الى القاهرة ومنع من مواصلة السفر، وكيف أنه لم ينم ليلته تلك حيث سارع في اليوم التالي لمقابلة وزير الداخليةالراحل سعيد قزاز الذي استقبله واضعا قدميه على صندوق صباغ الاحدية ماسكا حافتي بنطاله، معتذرا له وجوده في هذا الموقف، وكيف انه ناقش هذا الوزير المعروف بتشدده مع معارضي نظام الحكم الملكي، وذكر كل ذلك بطريقة توحي للقاريءتحدي هذا الوزير المعروف بصلابته وقوته، ولكن سرعان ما ازال الجادرجي ما علق في ذهن القاريء من تفسير، حين قال ما نصه : اذكر هذه الوقائع وانا اعلم علم اليقين ان هذا التقدير ليس شخصيا وانما هو تقدير لوالدي كامل الجادرجي.
فعلا.. لقد عاش نصير الجادرجي طفولة متناقضةوشباب متمرد، والا فكيف بالقاريء ان يتخيل ان يكون هناك صبيا والده نائب ووزير معروف ومن كبار السياسيين، يلعب ويمشي حافيا في شوارع محلته، وكيف ان احد اصدقاء والده يراه في الشارع فيصطحبه معه في سيارته ويوصله الى داره، فقد روى لي الاستاذ نصير الجادرجي انه كان يوما يلعب في الشارع وصادف ان مر في ذلك الشارع المرحوم صالح جبر بسيارته، فلما شاهده امر سائقه بالتوقف ونادى على نصير قائلا :..تعال.. انت مو نصير ابن كامل بيك.. واركبني في سيارته واوصلني الى دارنا وطلب من الحارس ان يقول لوالدتي ان صالح جبر وجده في الشارع يلعب.
اما عن شبابه المتمرد فيروي الجادرجي الحادثة التالية :
من جملة احداث تلك الفترة الحرجة اعلن السيد صبيح ممتاز الدفتري ابن خال والدي ترشيح نفسه نائبا عن المنطقة الثالثة وهي نفسها التي رشح والدي عنها، وفي ذلك اليوم نفسه كان قد دعا الى هذه المحلة من قبل احد الاشخاص الذين لهم نفوذ شعبي فيه وهو السيد علوان الحلاق ان لم تخني الذاكرة لتناول العشاء، لكننا لم نكن نعلم بذلك كون الدعوة بالاصل كانت مفاجأة لنا.وكان صاحب هذه الدعوة قد اتصل بالسيد صبيح الدفتري طالبا منه عدم الحضور كون المنطقة في حالة غليان (حسب وصفه)وان نصير الجادرجي ومعه عدد كبير من الشباب نظموا اجتماعا و مهرجان، وعليه يفضل عدم الحضور خوفا على سلامتك.. وهذا امر كان مبالغا فيه.
تصور ايها القاريء الكريم هل هناك طفولة متناقضة وشباب متمرد اكثر من ذلك؟..
ختاما اهنيء الجادرجي على هذه المذكرات، واقول، اذا كان الشاعر قد قال :
ان الفتى من يقول ها انذا
ليس الفتى من يقول كان ابي
ففتانا نصير الجادرجي قال : ها انذا، وكان محقا فيما قال، ثم قال : كان ابي، وهو محق في قوله كذلك، فقد ورث مجدا وجاها من ابيه، ثم اجتهد في العمل على رفع بنيان هذا المجد والارث..
وقبل ان اضع القلم جانبا اقول : بارك الله لك فيما ورثت وفيمافعلت، ومد الله في عمرك ومتعك بالصحة والعافية..