هل كان الاغتيال السياسي الاول؟! اغتيال وزير الداخلية توفيق الخالدي سنة 1924

هل كان الاغتيال السياسي الاول؟! اغتيال وزير الداخلية توفيق الخالدي سنة 1924

رياض فخري البياتي
تعد ظاهرة الاغتيالات السياسية واحدة من ابرز الظواهر السياسية التي شهدها العراق خلال العهد الملكي (1921م- 1958م) نتيجة لطبيعة الصراعات والأفكار والتوجهات السياسية المتناقضة التي شهدتها تلك المدة، ولم يقتصر بروز تلك الظاهرة في تلك المدة فحسب، بل وضعت الحجر الأساس لتلك الظاهرة الخطيرة لما بعد تلك المدة، لتصبح من السمات البارزة لتاريخ العراق السياسي المعاصر.

تناول العديد من الباحثين أحداث العراق السياسية في العهد الملكي، وما رافقتها من أحداث سياسية، واقتصادية، واجتماعية،وعسكرية، وقد ساعدهم في ذلك وفرة المصادر والوثائق الأصيلة أما ما يتعلق بالمواضيع ذات الصبغة الحساسة كالجرائم السياسية، وظاهرة الاغتيالات السياسية بخاصة فإنها لم تبحث بالصورة الوافية والدقيقة بسبب تباين وجهات النظر التي اعتمدت عليها البحوث والدراسات أو اقتصارها على وجهة نظر أحادية الجانب مما الحق الحيف الكبير بالعديد من الشخصيات العراقية سواء من وقعت عليها جرائم الاغتيال السياسي أو من وجهت إليها أصابع الاتهام في تلك الجرائم.وكانت حادثة اغتيال توفيق الخالدي اولى تلك العمليات واشهرها في تاريخ العراق السياسي الحديث.

قدم توفيق عبد القادر الخالدي إلى العراق بعد الحرب العالمية الأولى , وكان من الدعاة لاختيار شخص عراقي لحكم العراق , وطرح توفيق عبد القادر الخالدي اسم طالب النقيب ليكون أول رئيس للجمهورية , إذ كان كل من توفيق الخالدي وطالب النقيب من دعاة قيام نظام جمهوري في العراق , لكن تلك الدعوة باءت بالفشل بعد نفي طالب النقيب إلى خارج العراق عام 1921م حين كان يتولى منصب وزير الداخلية في وزارة عبد الرحمن النقيب الأولى.
ولد توفيق عبد القادر الخالدي في بغداد عام 1878م، ويرجع نسبه الى القائد العربي خالد بن الوليد، درس في المدرسة الرشدية العسكرية ثم في الاعدادية العسكرية وبعدها ارسل الى استانبول ملتحقاً في الكلية العسكرية، وتخرج منها برتبة ملازم ثانٍ وعاد الى بغداد، وبقى في الجيش حتى وصل الى رتبة رئيس، ثم انتخب نائباً في مجلس المبعوثان عن بغداد عام 1914م، ثم سافر الى استانبول مع من انتخب من العراقيين، والتقى هنالك بالامير فيصل بن الحسين، ثم تطوع للالتحاق في جبهة العراق ضد البريطانيين لكنه رجع إلى استانبول بعد انهيار جهود المقاومة فيها، ثم انتقل الى برلين , وعين وزيراً للداخلية في وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية عام 1922، وأصبح وزيراً للعدلية في حكومة عبد الرحمن النقيب الثالثة في العام نفسه.
عرف توفيق عبد القادر الخالدي بتأييده للسياسة البريطانية في العراق , وقد اشترك في تأسيس (الحزب الحر العراقي) , وذلك بدفع من البريطانيين وتشجيعهم له, ثم عين متصرفاً لمدينة بغداد , بعدها شغل منصب وزير الداخلية في وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية للمدة من نيسان حتى آب 1922م.
وعلى الرغم من إن وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية قد تألفت في أيلول 1921م , لكن الملك فيصل الأول (تأسس الحزب الحر العراقي في 13 ايلول 1922م، برئاسة محمود عبد الرحمن النقيب، وضم عدداً من المثقفين: امثال توفيق الخالدي وناجي شوكت وجميل صدقي الزهاوي وغيرهم، وكان يهدف الى المصادقة على المعاهدة العراقية البريطانية الاولى، والتفاهم مع الحاكمين من جهة اخرى). اعترض على إشغال توفيق عبد القادر الخالدي لمنصب وزير الداخلية في تلك الحكومة وكان ذلك سبباً في تأخر استلامه مهام منصبه كوزير للداخلية.
وكان سبب اعتراض الملك فيصل الأول على تولي توفيق عبد القادر الخالدي لمنصب وزارة الداخلية هو توجهات الأخير الداعية لإقامة نظام جمهوري في العراق , والتي كانت تنازعه منذ أيام دراستهِ في ألمانيا , وتعاطفه مع الحركة الكمـالية, في تركيا واتجاهاتها الجمهورية , والتي كانت مثار اهتمام الصحافة العراقية والمحافل السياسية في بغداد. فضلاً عن كل ذلك ان توفيق عبد القادر الخالدي كان يتمتع بثقة دار الاعتماد البريطاني، مما قد يجعله يستغل تلك الثقة والعلاقة بالجانب البريطاني لطرح توجهاته الجمهورية في مرحلة لم تثبت الدولة العراقية الحديثة أركانها الأساسية بعد وبالمقابل فقد وجه توفيق عبد القادر الخالدي نقداً خفياً إلى الملك فيصل الأول حين قدم استقالته من الوزارة في شهر آب 1922م.
اصبح توفيق عبد القادر الخالدي وزيراً للعدلية في حكومة عبد الرحمن النقيب الثالثة التي تألفت يوم30 أيلول 1922م، واستمرت حتى يوم 16 تشرين الثاني 1922م.
وخلال انتخابات المجلس التأسيسي العراقي عام 1924م، استمر توفيق عبد القادر الخالدي في طرح فكرة النظام الجمهوري وأفضليته وبخاصة في مجالسه الخاصة، بل ان بعض المصادر أشارت إلى انه كان ينوي طرح فكرة الجمهورية أمام المجلس التأسيسي.
وعلى الرغم من تلقيه رسائل ودية من أشخاص ينصحون بالحذر من وجود تدابير لتصفيته نتيجة لأفكاره الداعية إلى إقامة نظام حكم جمهوري في العراق، والتي لاقت رواجاً في عام 1924م، بعدما ظهرت فكرة النظام الجمهوري ثانياً.
كان توفيق عبد القادر الخالدي يتمتع بقوة الشخصية والتأثير والقدرة السياسية والكفاءة المتميزة، وكان أنساناً مثقفاً وذكياً، وقد ارتبط بصداقة متينة مع المندوب السامي البريطاني المستر (هنري دوبس)H. Dobbs منذ أن كان وزيراً للداخلية في حكومة عبد الرحمن النقيب الثانية، كما ارتبط بعلاقة صداقة بكل من حكمت سليمان,وعبد المجيد الشاوي, وشاكر فهمي،وكان المندوب السامي البريطاني (هنري دوبس) يشاطر توفيق عبد القادر الخالدي مشاعر الكره للملك فيصل الأول وذلك مما اسـهم في تعزيز أواصر العـلاقة بين توفيق عبد القادر الخالدي والمندوب السامي البريطاني (هنري دوبس) من خلال وجود القاسم المشترك لما يكناه كلاهما من مشاعر الكره للملك فيصل الأول.
كان توفيق عبد القادر الخالدي يمتلك مزرعة في منطقة الدورة اسمها (العكابية) جعلها مكاناً للراحة والاستجمام، ولإقامة الدعوات والولائم الخاصة لأصدقائه , ومعارفه وكان المندوب السامي البريطاني (هنري دوبس) احد الأشخاص الذين يتم دعوتهم إلى مزرعته، وتقام لهم الولائم، مما زاد من قوة الخلاف بين توفيق عبد القادر الخالدي والملك فيصل الاول انه كان يستقل السيارة بصحبة (هنري دوبس) ويطوفان في شوارع بغداد.
كما كان لنوري السعيد هو الآخر مخاوف من تنامي دور توفيق عبد القادر الخالدي ونفوذه لدى البريطانيين اذ رأى فيه المنافس الذي يخشى ان يتحول الى بديل عنه في علاقاته مع البريطانيين.
وبينما كانت انتخابات المجلس التأسيسي العراقي تجري في عهد وزارة جعفر العسكري الأولى المؤلفة يوم 26 تشرين الثاني 1923م، افتتحت تلك الوزارة أعمالها بالمباشرة لانتخابات المجلس التأسيسي العراقي.
في تلك الأثناء تم اغتيال توفيق عبد القادر الخالدي يوم 22 شباط، وذلك حين كان توفيق عبد القادر الخالدي ذاهباً إلى داره في محلة جديد حسن باشا (مقابل مبنى محافظة بغداد الحالي) في مساء يوم الجمعة المصادف 22 شباط 1924م، بعد ان تعرض إلى إطلاق عيارات نارية أردته قتيلاً لساعته، وقد هرب الجاني حالاً، وأسرعت الشرطة بعد الواقعة بدقائق الى مكان الحادث ووجدته قد فارق الحياة، وان الجاني قد هرب.
بين الكشف الطبي أن العيارات النارية هي من مسدس نوع (برونيك) وان الرصاصات قد اجتازت من ظهره إلى قلبه وقد أدت الى وفاته في الحال وسجل الحادث ضد مجهول، وقد استغل الجاني فرصة عودة توفيق عبد القادر الخالدي من زيارته لعبد الرحمن النقيب ليقوم باغتياله.
سببّ اغتيال توفيق عبد القادر الخالدي لغطاً كبيراً في الأوساط السياسية والشعبية وحامت الشبهات حول اغتياله، فقد اتهم الملك فيصل الأول بأنه هو من قرر التخلص من توفيق عبد القادر الخالدي، وتصفيته قبل استفحال خطره إذ كانت طروحاته حول النظام الجمهوري وعلاقاته الوطيدة بالبريطانيين موضع قلق لدى الملك فيصل الأول، وانه اتـفق مع نوري السعيد وجعفر العسكري
على وجوب التخلص من توفيق عبد القادر الخالدي، وبخاصة ان توفيق عبد القادر الخالدي اراد قيام نظام حكم جمهوري على رأسه شخص من بيت عراقي، وابعاد العائلة المالكة، وكذلك ابعاد الضباط الشريفيين، الذين كانوا بأمرة العائلة الشريفية، من الذين كانوا بأمرة اولاد الشريف حسين بن علي شريف مكة، وبخاصة الذين كانوا بأمرة الملك فيصل بن الحسين حين كان ملكاً على سوريا قبل توليه عرش العراق، فضلا عن الحكام الاداريين الذين كانوا بأمرته. (الضباط هم : (نوري السعيد، جميل المدفعي، علي جودة الأيوبي، جعفر العسكري، ناجي السويدي، ياسين الهاشمي، طه الهاشمي، مولود مخلص، تحسين العسكري، عبد اللطيف نوري , اسماعيل نامق، عبد الجبار الراوي، رضا العسكري، بكر صدقي).
وتذكر الأخبار أن نوري السعيد قام بالاتصال بشاكر القرةغولي وعبد الله سرية وطلب منهما القيام بتلك المهمة اذا اوجد لهما ملاذاً آمناً بعد تنفيذ المهمة وهي دار عبد الحميد كنة القريبة من دار توفيق عبد القادر الخالدي، وبعد قدوم توفيق عبد القادر الخالدي إلى داره ليلاً، قام عبد الله سرية بإطلاق العيارات النارية عليه، فيما قام شاكر القرةغولي بمراقبة المكان في رأس الزقاق الذي يقع فيه دار توفيق عبد القادر الخالدي.
وتشير الأخبار إلى أن الملك فيصل الأول وجعفر العسكري كان لهما دور كبير في عملية اغتيال توفيق عبد القادر الخالدي، في حين قال البعض أن الملك فيصل الأول لم تكن له دراية في عملية اغتيال توفيق عبد القادر الخالدي وان نوري السعيد هو من أطلق تلك الدعاية ليبعد الشبهة عنه وانه قد حشر اسم الملك فيصل الأول من اجل طمس اسم المدبر الحقيقي للاغتيال.

وأفادت شائعة أخرى أن عملية الاغتيال تلك تم تنفيذها بناءً على رغبة جمعية تسمى : (التفيض السرية) , وهي جمعية كان هدفها التنكيل بالموالين لبريطانيا وقد ظهرت هذه الرواية في أعقاب ثورة مايس 1941م،، حين ضمّت المعتقلات التي أقامها البريطانيون في العراق شخصيات عراقية منها عبد الله سرية الذي كان ممن اعتقلوا في معتقل العمارة مع عبد الرزاق الحسني، مؤلف كتاب تاريخ الوزارات العراقية، إذ سمع الأخير عن عبد الله سرية قيامه بقتل توفيق عبد القادر الخالدي بالاشتراك مع شاكر القرةغولي، وانه كان عضواً في جمعية سرية هدفها الفتك بمن يشايع بريطانيا، وان توفيق عبد القادر الخالدي كان احد المشايعين.
كان توفيق عبد القادر الخالدي وبحسب توجهاته وموقفه من الملكية في العراق لم يحسب على جبهة الملك فيصل الأول، فلذلك لم يأبه رجال الحكومة والساسة المؤيدين للملكية باغتياله، وانعكس ذلك على مجريات التحقيق في عملية الاغتيال تلك، وكذلك لم تبرز الجرائد اليومية ذلك الحدث، كما أن توفيق عبد القادر الخالدي لم يحسب على التيار الوطني او الجبهة الوطنية، كونه يمثل الإخلاص العميق للسياسة البريطانية، لذلك لم تحزن الأوساط السياسية والاجتماعية أو تشعر بخسارته.
وعلى الرغم من كل ذلك فان حادث الاغتيال قد سبب لغطاً كبيراً في الأوساط السياسية والبيئات الاجتماعية، وأثار اهتماماً بالأمن العام ومخافة تكرار مثل تلك العملية. وقد عد البعض من المؤرخين والسياسين مقتل توفيق عبد القادر الخالدي على انها أول عملية قتل يمكن عدها اغتيالاً سياسياً في تاريخ العراق الحديث والمعاصر. وربما كانت الرواية الأرجح هي ماذكره عبد الله سرية حول اغتيال توفيق عبد القادر ألخالدي لكونه احد المشايعين لبريطانيا، وربما قدم نوري السعيد الدعم لتك العملية، او كان على علم بها.

عن رسالة (ظاهرة الاغتيالات السياسية في العراق)