شاعر باكستان الأكبر

شاعر باكستان الأكبر

صلاح الدين خورشيد
يحتفل أهل باكستان في اليوم الحادي والعشرين من شهر أبريل كل عام بذكرى إقبال، الشاعر الفذ والفيلسوف الحكيم والزعيم المدره والسياسي النابغة، الذي يرجع إليه عظيم الفضل في إيقاظ وعي المسلمين في شبه جزيرة الهند، وشحذ قواهم وجمع كلمتهم، ثم وقوفهم كالبنيان المرصوص، هبوا للمطالبة بحقوقهم وضمان مصالحهم

فالواقع أن إقبالاً كان من أعظم رواد فكرة الباكستان، ومن أكبر العاملين على تحقيقها، مذ رأى - وهو ذو الرأي الصائب - أن المسلمين في شبه جزيرة الهند ليسوا بمجرد الفئة أو الطائفة، وإنما هم قوم لهم جميع ما للأقوام الأخرى من مقومات وخصائص، فلهم أسلوب للحياة يختلف عن نهج الطوائف الأخرى، لهم دينهم ولهم لغتهم ولهم تاريخهم ولهم أبطالهم. ولذلك رأى أن الحل الوحيد لمشاكل الهند الدستورية - كانت هذه المشاكل يكاد يستعصي حلها - هو أن يستقل المسلمون الأقسام التي يؤلفون فيها أغلبية السكان، يحكمون أنفسهم بأنفسهم ويسيرون سيرتهم التي يؤثرون

قال في خطاب سياسي ألقاه سنة ألف وتسعمائة وثلاثين في اجتماع حزب العصبة المسلمة ما معناه:

(أود أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوخستان دولة مستقلة قائمة بذاتها)، وفسر قوله هذا بأن:

(ليس من حل يؤدي إلى تكوين نظام دستوري مكين في الهند - حيث يتباين المناخ وتختلف العناصر وتتنوع اللغات وتتباين نظم الحياة - إلا في إقامة حكومات مستقلة تجمع بين سكانها وحدة اللغة والعنصر والتاريخ والدين وتقارب المصالح) ثم أوصى المسلمين في نفس الخطاب قائلاً:

(إنني لا أنصح المسلمين قط بقبول أي نظام لا يقر لهم بكيانهم السياسي المستقل)

لم يكن محمد إقبال - رحمه الله - لينطق عن الهوى عندما نصح بهذا لبني قومه، وإنما كان يعرب إعراباً صادقاً عما كان يخالج مشاعره - وهو الشاعر الفذ - من انفعالات ومؤثرات تلازم حياته وحياة المسلمين من حوله.

فلقد ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر بعيد البصائر، وكان أبوه يتعهد تعليمه أيام صباه ويوصيه بتلاوة القرآن الكريم والتأمل في معانيه، فكان يطلب إليه أن يسترسل في تلاوة القرآن الكريم بعد الفجر كل يوم، وكان كلما رآه بعد الفجر سأله عما يصنع فيجيب إقبال بأنه يتلو القرآن، ولما ألحف الأب بأسئلته وألح كل يوم قال الابن: (يا أبت إنك تراني أتلو القرآن الكريم... فلم تعيد هذا السؤال عليَ وأنت عليم بما أصنع) فقال الأب: (بلى! ولكنني يا بني أردت أن أقول لك: أتل القرآن وكأنه أنزل عليك)

كان إقبال يروي هذا الحوار ويقول: (ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأتفقه معانيه، فاقتبست من قبسه واستنرت بنوره)

بدأ محمد إقبال تعلمه بالقرآن الكريم شأن أكثر المسلمين، ثم تقلب في الدرس والمدارس حتى نال شهادته العالية من كلية الحكومة بمدينة لاهور، وفي سنة ألف وتسعمائة وخمس قصد إنكلترا لإتمام التحصيل العالي بها، ومنها سافر إلى ميونيخ حيث التحق بإحدى جامعتها ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكان خلال إقامته في أوربا يتلمس ما شاب الحضارة الغربية من نزعة مادية قوية، ومن عصبيات عنصرية ولونية، فأراد أن يفهم الغربيين ما في الإسلام من نعم وفضل على المسلمين وعلى البشرية جمعاء، فألقى عدة محاضرات عن الإسلام والحضارة الإسلامية، قاصداً إزالة ما في أذهان الأدبيين من انطباعات خاطئة في هذه الحضارة العتيدة وذلك الدين المجيد

ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر، بعيد البصائر، وقد وصفه أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك بأنه (أكبر شعراء المسلمين في هذا العصر، وأبلغهم تصويراً للحضارة الإسلامية، وأعظمهم أثراً في نفوس المسلمين، وأصحهم إدراكا لمقاصد الإسلام ومعانيه).

فإقبال لم يتخذ من الشعر هواية، فلم يتغزل أو ينظم الشعر التمثيلي أو الرومانطيقي، وإن اتخذ من الشعر حكمة وموعظة وهداية، فكان شعره فلسفياً موضوعياً أكثره، ذلك لأنه لم يقل (بالفن - من أجل الفن -) بل كان يؤمن بأن الشعر فن من الفنون الرفيعة التي ينبغي استخدامها لأجل النهوض بالمجتمع إلى أعلى مراتب الرقي، حتى روى عنه أنه قال مرة: (إن وحياً صادراً من مصدر من مصادر التدهور والانحطاط، قد يكون أثره أشد فتكا من جميع جحافل جنكيز خان...)

وهو يرى أيضاً: (أن سلامة النفوس في أي شعب من الشعوب إنما تتوقف إلى حد كبير على نوع الإيحاء الذي يلقاه شعراؤه وفنانوه...)

ولذلك اتخذ إقبال من الشعر وسيلة لتحريك المشاعر بين بني قومه وشحذ همهم واستثارة عزائمهم، إذ أبان لهم ابلغ إبانة بأن لهم مجداً مؤثلاً وحضارة وتاريخاً مجيداً، واستحثهم على السعي والجهاد والتسامي بالمقاصد والغايات

وإليكم بعض الأمثلة من شعر إقبال كما يترجمها إلى العربية صاحب السعادة الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر بالباكستان:

عليك السير لا ترغب مقيلا...
وسر كالشمس لا ترقب دليلا
وهب للآخرين متاع عقل...
ونار العشق فاحفظها بديلا
أثرت بنغمتي كل النوادي...
ومن سر الحياة جعلت زادي
أضاء القلب من عقلي ولكن...
جعلت عيار عقلي في فؤادي
أرى رمز الحياة بكل زهر...
مجاز فيه يا قلبي الحقيقة
بترب مظلم ينمو ولكن...
له عين إلى شمس الخليقة

وهذه نبذة من قصيدة ممتعة للشاعر محمد إقبال عنوانها وصية الصقر لفرخه وقد ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام بك أيضا:

متاع الحياة تعلم جهاد
وصبر على محنة واجتهاد
يقول لفرخ عقاب عتيق:
يريق الدماء يفوق العتيق
ولا تبغ سربا كسرب الغنم
توحد كقومك منذ القدم
سمعت وصات الصقور العقاق
بالا نقيم بظل وساق
فليس لنا رياض مجال
فسيح الفيافي لنا والجبال

عن مجلة الرسالة المصرية 1942