إعادة بناء الفكر الديني”لمحمد إقبال: إجابات حاسمة على أسئلة الراهن

إعادة بناء الفكر الديني”لمحمد إقبال: إجابات حاسمة على أسئلة الراهن

ابراهيم العريس
حتى وإن كان المفكر الباكستاني فضل الرحمن لا يعترف إلا في شكل موارب بتأثير محمد إقبال فيه بالنسبة إلى أفكاره الإصلاحية الدينية التي أسهب في شرحها وتحليلها في كتابه «الإسلام وضرورة التغيير» الذي صدر مترجماً إلى العربية في طبعة ثانية قبل شهور قليلة، فإن إقبال يعتبر واحداً من المفكرين المسلمين الذين تصدوا بأكبر مقدار من الجدية والنزوع إلى التفاعل مع العصر بالنسبة إلى تجديد الفكر الديني في الإسلام.

إقبال فعل هذا وعبّر عنه في معظم كتاباته بما في ذلك قصائده الشعرية الكثيرة والجميلة ذات المنحى الصوفي، أو في كتبه التي أرّخ فيها للحضور الإسلامي بل حتى العربي في شبه القارة الهندية في العصور الغابرة. لكنه عبّر عنه أكثر وفي شكل علمي - تاريخي، خصوصاً في كتابه الأساسي «إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام».

> والواقع أن هذا الكتاب الذي يختصر عنوانه الواضح كلّ خطابه، لم يكن قد وضع، أصلاً، على شكل كتاب بل هو مجموعة من المحاضرات والمداخلات التي ألقاها إقبال في عدد من الجامعات الهندية بين عامي 1928 و1929، في عز تلك المرحلة التي كانت تشهد نوعاً من التحوّل الإيجابي في مسار الإسلام كقوة تحرر على الضد من القوى الاستعمارية البريطانية من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل إيجاد فكرانية توجّه مسلمي الهند، وبقية مسلمي العالم، كما يلح إقبال في سياق محاضراته، نحو تحقيق الذات بالتناحر مع بقية شعوب وأهل الأديان الأخرى في المنطقة.
تلك المحاضرات التي ألقاها إقبال في عدد من كبريات الجامعات (مدراس، حيدر آباد، ميسور وعليكره...) نشرت للمرة الأولى مجموعة في كتاب في لاهور عام 1930. وهو كتاب ضم يومذاك ست محاضرات أساسية هي على التوالي: «المعرفة والخبرة الدينية»، «الاختيار الفلسفي للخبرة الدينية»، «مفهوم الله ومعنى الصلاة»، «الذات الإنسانية، حريتها وخلودها»، «روح الثقافة الإسلامية”وأخيراً «مبدأ الحركة الاجتهادية في الإسلام”علماً أن إقبال أضاف إلى الطبعة الثانية التي صدرت من الكتاب ذاته عام 1934 عن مطبوعات جامعة أوكسفورد، محاضرة هي على أي حال الأكثر أهمية وجرأة في عنوان «هل الدين ممكن؟». ويقول الدكتور أحمد معوض، صاحب واحد من أشمل كتب سيرة محمد إقبال التي صدرت في العربية، عام 1980 في القاهرة، أن إقبال يبرز في هذه المحاضرات «أشبه بمؤسس للروحية الإسلامية الحديثة» حيث نراه يحاول «بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً في الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة». ويضيف الدكتور معوض أن إقبال قد «ناقش بذلك، الموضوعات التي طرحها مناقشة واسعة في ضوء الإسلام والفلسفة الحديثة مبتدئاً طرقاً جديدة يمكن أن يسلكها مفكرو العصر الحديث في الدراسات الإسلامية، مستنداً في هذا إلى ما يقوله إقبال نفسه في مقدمة كتابه من أن «التفكير الفلسفي ليس له حدّ يقف عنده، فكلما تقدمت المعرفة وفتحت مسالك جديدة للفكر، أمكن الوصول إلى آراء أخرى غير التي أثبتّها في هذه المحاضرات، وقد تكون أصحّ منها». نذكر هنا أن هذا الكتاب الذي وصل فيه إقبال إلى حدّ من التعبير عن الرغبة في - بل عن ضرورة - الإصلاح الديني، يقرّبه كثيراً من طروحات الإمام محمد عبده والأمير شكيب أرسلان التحديثية، تُرجم حينذاك إلى عدد كبير من اللغات ومن بينها الفرنسية، ولا يزال يعتبر حتى اليوم من الكتب الأساسية التي تدرس مسألة التجديد الديني في ضوء العقل والعصر، ما جعل لإقبال مكانة أساسية بين مصلحي الشرق.
مهما يكن من أمر، فلا بد من إعادة التأكيد هنا أن إقبال كان واحداً من الوجوه الطيبة التي عرفها الفكر الإسلامي والتنوير في القرن العشرين. ولكن لئن كان العرب قد عرفوه، على نطاق شعبي، فإنما تم ذلك بفضل أم كلثوم التي غنت من نظمه أغنيتها الشهيرة «حديث الروح»، فجعلته بين ليلة وضحاها كبير الشهرة لدى العرب. وكان في هذا ظلم له بالطبع، فالرجل كان أكبر وأهم من أن يُعرف من طريق أغنية، حتى لو كانت أغنية كلثومية، بل واحدة من أجمل ما غنت كوكب الشرق منذ «رباعيات الخيام».
> كان محمد إقبال كاتباً وشاعراً وفيلسوفاً وحقوقياً ولغوياً ورجل سياسة وتربية في الوقت ذاته. وكان، هو المولود في البنجاب في 1878، يعبّر عن نفسه بالهندية والأوردية والفارسية والعربية، إضافة إلى الإنكليزية والألمانية، وهو حين رحل عن عالمنا عام 1938 في مدينة لاهور، قبل عقد من قيام دولة باكستان الإسلامية التي كان واحداً من الساعين إلى قيامها، كان في عز نشاطه وتحركه كواحد من رجال الفكر والعمل في مجال تحديث الفكر الإسلامي. ولقد مكّنه من هذا ما تلقاه من تربية تقليدية سلفية في سيالكوت مسقط رأسه، وما أضافه إلى ذلك من علم حديث تلقاه في كامبريدج ببريطانيا، وميونيخ بألمانيا.
في 1897، كان إقبال نال درجة الماجستير في الفلسفة، ليعيّن بعد خمسة أعوام أستاذاً لهذه المادة في جامعة لاهور، غير أن ذلك لم يحدّ من رغبته في مواصلة تعلّمه فاتجه إلى إنكلترا حيث درس الحقوق، ثم التحق بجامعة ميونيخ لينال الدكتوراه في الفلسفة عام 1908 عن أطروحة عنوانها «تطور فلسفة ما وراء الطبيعة في فارس». وهو عاد في العام ذاته إلى الهند حيث عُيّن أستاذاً للأدب الفارسي ليحتفظ بهذا المنصب حتى آخر أيامه، على رغم انتخابه عضواً في الجمعية التشريعية في البنجاب لدورتين، عامي 1924 و1926، ومشاركته في مؤتمر الطاولة المستديرة في لندن عامي 1931 و1932. وفي 1930، كان إقبال قد ترأس «رابطة المسلمين الهنود”التي كانت تدعو إلى تأسيس دولة إسلامية مستقلة في شمال الهند. وهو في خضم ذلك كله، وضع كثيراً من المؤلفات باللغتين الفارسية والأوردية، كما كتب بعض الأشعار بالعربية. ومن بين أبرز ما كتبه، يمكن أن نذكر: «تجديد الفكر الديني في الإسلام”(وهو مجموعة محاضرات جامعية ألقاها بالإنكليزية في 1928) و «رسالة الخلود”(1932) و «ماذا يجب أن نفعل يا أمم الشرق» (1936) و «رسالة المشرق”و «أسرار الذاتية”و «رموز إنكار الذات”و «مسافر» ومعظمها مجموعات شعرية، علماً أن شعر محمد إقبال، رغم طابعه الصوفي، كان شعر رسالة أي إنه كان يتضمن مواقف سياسية وفكرية ودينية واضحة. غير أن مساهمة إقبال الرئيسية تتمثل - إلى جانب خوضه المعترك السياسي من أجل استقلال مسلمي الهند بدولة لهم، وإلى جانب دعوته مسلمي العالم، وأمم الشرق إلى النهوض - في محاولته الدعوة لتجديد في الفكر الإسلامي انطلاقاً من أن «الشريعة الإسلامية بحد ذاتها غير جامدة وهي قابلة للتطور، وتاريخ الفقه يثبت ذلك». وكان إقبال يؤكد أن «القرآن الكريم يرى الكون في حالة تغير وتبدل دائمين، فلا يمكن أن يقف ضد فكرة التطور. كذلك، فإن أصحاب المذاهب الفقهية لم يقولوا أن ما جاؤوا به هو آخر ما يمكن قوله». ويرى إقبال أن «ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام في مجال ضرورة تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيراً جديداً في ضوء تجاربهم وتجارب العصر، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ». وكان إقبال يرى أن «الإجماع قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، على رغم أن العلم به كان ضئيلاً في تاريخ الإسلام. وها هي العوامل الراهنة تعيد هذا المبدأ إلى مركز الصدارة».
وفي أي حال كان إقبال واحداً من أوائل المفكرين المسلمين الذين أدركوا باكراً عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والروحية التي يتخبط فيها العالم بعد أن انقسم إلى شرق وغرب، حيث اعتبر أن العالم ليس كذلك (كما كان الرأي سائداً في ذلك الحين) بل هو جنوب وشمال. وكان إقبال يرى أن على المسلمين، أهل الجنوب، أن يواجهوا الخواء الحاصل عبر تلمسهم الدروب التي توصلهم إلى المعرفة كسلاح قوي: معرفة العصر ومعرفة تراثهم. وفي هذا المجال، قد يكون من الملائم اليوم أن نعود إلى قراءة محمد إقبال لندرك أن هذا المفكر الذي رحل قبل نحو ثمانين سنة، يبدو كأنه يتحدث عنا ويرسم الخطوط الموصلة إلى شيء من الخلاص.

عن جريدة الحياة اللندنية