عملاق فقدناه.. جعفـــر الخليلــي  1904 – 1985

عملاق فقدناه.. جعفـــر الخليلــي 1904 – 1985

باسم عبد الحميد حمودي
كتب الراحل العزيز مجيباً على استفتاء مجلة (الكتاب) عن تجارب كتاب القصة يقول: يرجع تاريخ ميولي الأولى الى القصة وشغفي بقراءتها الى أيام الطفولة يوم كنت طالبا وعمري دون العاشرة ولعل اول كتاب حبب إلي القصة السلسلة المسماة بـ (مدارج القراءة)، وهي سلسلة اعدت حلقاتها حسب ملكات الصفوف لتكون كتب قراءة،

ثم يستمر جعفر الخليلي متحدثاً عن بواكير شغفه بهذا اللون من الأدب وتأثره بعالم ألف ليلة وليلة، وكليله رغم ممانعة الأب قليلا في اتمامه الف ليلة وليلة لما فيها من لغة ومشاهد لا يريد لولده ان يكون على معرفة بهما.
وتتوضح صورة ألف ليلة وليلة عند الخليلي عندما يقول انها (صنيعة الزمان) اي انها (وليدة عدة مؤلفين فكل زمان كان يضيف عليها كاتبا وينسبه الى الاصل، وهو يحدد اصل الف ليلة وليلة بانه (لم يزد على قصتين او ثلاث قصص كتبت اول ما كتبت في القرن الثاني للهجرة.
ولست اريد ان اناقش هذا الراي الجريء في هذه الملحمة بقدر ما أردت القول ان الراحل قد تعلق بفن القصة وهو صبي صغير وكتب (التعساء) عام 1922 وهو يعتبرها قصة ويود لو انه لم يكتبها فيما لا يتحدث عنها احد النقاد بشيء سوى الدكتور عبد الاله احمد الذي يشير اليها في فهرسته عن القصة العراقية كأول مطبوع للخليلي دون ان يحدد هويتها (قصة طويلة) مجموعة قصص، (رواية) كعادته في حقل القصص المتفرقة يذكر د. احمد ان اول قصة منشورة للخليلي هي القدر في جريدة الوطن في 21 حزيران 1929 حيث يتبعها في ذات الجريدة بعدة قصص قصيرة لتظهر قصته (المطر) في العدد الثامن عشر من السنة والأولى لجريدة الهاتف التي اصدرها هو عام 1936 في النجف ثم نقلها الى بغداد بعد ذلك.
ومن يتتبع فهرست د. احمد يجد ان الخليلي قد نشر معظم قصصه في الهاتف وان روايته (الضائع) قد نشرت في مجلة (الدنيا) الدمشقية لعبد الغني العطري ومجلات (اهل النفط) و(الجزيرة) و(العدل).
ان ثلاثة عشر عملا ادبيا بين قصة ومجموعة قصص ورواية يبدأ تاريخ صدورها منذ عام 1922 حتى 1956 بالاضافة الى عشرات الكتب الأخرى في تاريخ القصة العراقية والذكريات الأدبية والتاريخ لكاتب واحد ليست عملا هيناً، فقد ودعنا جعفر الخليلي في بداية شباط الماضي عن واحد وثمانين عاما حافلة بالعطاء ولست اجد جملة واحدة تكفي لاختصار انجازات هذا الرجل الذي شكل مع ذا النون ايوب وعبد المجيد لطفي ثلاثي الاداء القصصي الواقعي بعد محمود احمد السيد وكانوا عمالقة القصة العراقية الذين ارتكزت عليهم كل التجارب التالية حيث حفروا الأرض اليباب باصابعهم ليكتبوا لنا قصصاً (حديثة) بالمعنى الذي اصطلحوا هو عليه لا بالمعنى الذي اصطلح عليه المجددون الذين تبعوهم مثل فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري ومحمد روزامجي.
ان نتاجات الثلاثة الأواخر الأولى كانت مشابهة لنتاجات الثلاثة الرواد قبل ان يلتفتوا الى ما حولهم وما يجري من تجارب في العالم فيحولوا بين قصصهم والسرد العادي والرؤية من الخارج، لقد نقل الخليلي ولطفي وايوب القصة من جو المقامة والسجع والحكاية العادية الى جو اقرب الى فنية القصة الموباسانية حيناً والى الحكاية المتمتعة بحالة من التشذيب واصطناع المقدمة القصصية المألوفة والذروة الدرامية والختام وهم في ذلك يملكون فضل التأسيس.
جعفر الخليلي وحده من بين الجميع انصرف الى القصة كتابة واصداراً واصدر جريدة الهاتف ثم عددها القصصي وكتابها السنوي ليكون كل هذا الجهد في خدمة القصاصين العراقيين والعرب حتى نوقف عن العمل الصحفي الرائد هذا منصرفاً الى بعض المشاريع الأخف جهداً بسبب التعب ونعقد الحالة السياسية قبل الثورة.
اهتم جعفر الخليلي بتصوير الحالة الاجتماعية في قصصه القصيرة ورواياته (الضائع، في قرى الحب، كنت معهم في السجن، وغيرها) ولم يهتم بالجانب الفكري المباشر لأنه كان يحاول طرح النموذج الاجتماعي العادي وصولاً الى الايحاء بالحالة الفكرية.
واذا كان جعفر الخليلي قد كتب القصة ضمن مواصفاته الخاصة تشذ عن قنيتها الحديثة ووجد في نفسه القدرة على ان يخلط صيغة المقالة بالأداء القصصي وان يتدخل وسط النص فان هذه (السلبيات) الفنية ينبغي ان تؤخذ مقابل زمنها فقد اهتم الخليلي بكتابة هذا اللون من الادب الذي لم يكن يعتبر ضمن صنوف الأدب الأخرى كالشعر والبحث حتى اوقفه كجنس ادبي على قدميه هو والرجال الآخرون الذين ضحوا في سبيل جمال الكلمة وعطاء الابداء الذي قدموه للنفس تحت هذا الباب الواسع المطل على الحياة.. باب القصة والرواية.