القصة العراقية قديما وحديثا كتاب لجعفر الخليلي

القصة العراقية قديما وحديثا كتاب لجعفر الخليلي

مهدي شاكر العبيدي
ظهر كتاب جعفر الخليلي عن القصة العراقية في ظروف احتدام الناس وصراعهم حول مناسبة المبادئ والعقائد وملاءمتها جميعا ً لنهوض شعبنا، ولهَوا عنه بأوغارهم وأحقادهم، وأعرضوا عن تداول أيِّ سِفر ٍ أدبي ٍ من جنسه، بينا أقبل على الإفادة منه مثقفو بقية الحواضر والعواصم العربية، فصحَّ في رؤيتهم ووجدانهم هذه المرَّة أنَّ هذا الفنَّ الأدبي ليس مدخولا ً أو طارئا ً على مألوفاتنا الثقافية،

أو أنـَّنا استوردناه كأيَّة بضاعة أو سلعة مصنعة في بلاد الغرب بهرَتْ عقولنا وخلبَتْ أذواقنا وحرصنا على استخدامها في تجميل حياتنا، إنـَّما له أصول وثوابت في تاريخنا وحضارتنا حتى منذ أقدم عصور الجاهلية، فالعصر الإسلامي الأولي القصير ــ أعني عصر التبشير والنبوة والخلافة الراشدة ــ وتبعتها الأزمان والعصور الأموية والعباسية، فتقسيمات حكم المسلمينَ في الأدوار المتأخِّرة بين شتى الأجناس والعناصر، من عربية مهاجرة إلى الأندلس، فإخشيدية في مصر، وفاطمية في بلاد المغرب أولا ً، ثمَّ امتدَّ نفوذها فشمل مصر وبلاد الشام التي كانتْ قبلها مرتكنة لبني حمدان، ثمَّ الدولة الموطدة لبني أيوب، واعتلى بعدهم السلطان أجراؤهم وخدمهم المماليك، وانعقدَتْ أواصر أولاء الحُكـَّام المتأخِّرينَ جميعا ً وصحَّ إجماعهم على الذياد عن حِياض المسلمينَ وجلاء العادينَ والغزاة من القدس وسائر المدن المطلة على ساحل البحر المتوسط، وناهيك بالبقاع والأوطان التي شيَّد فيها المسلمونَ ملكهم ونشروا حضارتهم، وراجَتْ كتب أساطينهم في العلوم المتنوعة وصنوف المعارف المختلفة من فلسفة وحكمةٍ وطب وتشريع، وارتقتْ في تحبير تينك المأثورات والكنوز أساليبهم الكتابية وتعاملاتهم وتصرُّفاتهم حيال لغتهم المُغالبة لعاديات القرون المتتالية في محاولة ميؤوس منها لمسخها وتشويهها وافتعال مزاعم وافتراءات بشأن عدم كفايتها أو نكوصها عن مماشاة الزمن ومستجدَّاته الحضارية.

ومن خلال المرور بكلِّ هذه الجوانب والمعالم الشاخصة خلص الأستاذ جعفر الخليلي إلى أنَّ حياة أسلافنا لم تكن تخلو في واقع الحال من قصص وحكايات ومرويات، وإنْ تجسَّدَتْ في قوالب وصياغات تفتقر إلى عنصر الفن والجمال وإسلاف الأثر الصادم ــ إذا جاز التعبير ــ في نفس مَن يطلع على هذه المدوَّنات الكتابية في شكلها البدائي، ليوقفنا على القاص العربي الأوَّل (ابن مخنف)، وهو لوط بن يحيى بن مخنف الأسدي من أبناء القرن الأوَّل الهجري ت (157هـ)، وقد عُهدَتْ عنه آثار أدبية ما زالتْ متداولة بين القرَّاء، ويتناقلها الرواة من عصر إلى آخر، ومنها ما افتقِدَ أو اندسَّ أو حُشِرَ ضمن باقي محتويات آخرينَ أغاروا عليها واجتلبوها لكتبهم بقصد الاستئناس بها والاعتماد عليها كمصادر موثوق من صحَّتها وضبطها، ولعلَّ سفره المُبين عن مصرع الحسين بن علي في كربلاء هو الأشيع والأسير في الأوساط والحلقات التي تنعقد في مدن إسلامية مخصوصة بشعائرها ومناسباتها، ليستجلي من بعد أثر (كليلة ودمنة) لمؤلفه (بيدبا) الفيلسوف الهندي، والذي ترجمه إلى العربية عبد الله بن المقفع في بيان جزل ٍ وسلس ٍ معا ً من اللغة الفارسـية التي تـصـدَّى أحـد أعـلامـها المتفيهقينَ باللغـة (الفهـلـوية) والـمُـسَـمَّـى بـ (برزويه)، فنقله عنها إلى الفارسية بكامل حكاياته المسرودة على ألسنة البهائم، يقصُّها على الحاكم المستبدِّ محذرا ومنذرا ً بالعواقب والخواتيم التي لا بُدَّ من أنْ تسفر ــ مهما طال الأمد ــ عن تلاشي التحكم وزوال التعسُّف بمصائر المخلوقات الآدمية، والمظنون أنَّ فاتحة الكتاب للتعريف بدواعي كتابته وتنسيقه وموجبات تأليفه كتبها ابن المقفع نفسه، مستخدما ً لفظي : (التزاويق والأمثال) في وقتٍ لم تكن الذهنية العربية قد توصَّلتْ إلى الفقه والدراية بمحتوى الشكل والمضمون، غير أنـَّه يُعَاب بأنَّ الحكاية التي يتضمَّنها الفصل الواحد تتشعَّب عنها حكاية جديدة يستلزمها الاستدلال وضرب الأمثال كلَّ مرَّة، ممَّا يؤدِّي بالتالي إلى اختلاط الروايات وسرعة غيابها عن البال واختفائها من الذاكرة، ولا يُغري أحدا ً بالعود عليه ثانية.
وينبري الخليلي لدراسة أو استعراض فصول (ألف ليلة وليلة)، وهو هنا مجرَّد مستجمع لما ورد عنها في آثار الدارسينَ والمؤرِّخين القدامى من العرب وأبناء بقية العناصر الداخلة في الإسلام، أو يعرِّفك بمَن عُنِيَ بتصفحها وتسجيل رأيه في حقيقتها ومصدرها، وما إذا كانتْ أصولها هندية أو فارسية، أو أنَّ العرب هم وحدهم مَن ابتدعوها وأتاحوا لبني مجتمعهم أنْ يزجوا بها أوقات سمرهم ويمتعوا نفوسهم وأذواقهم بطرافتها، ويحيطوا بما يصنعه الخيال أو يتصوَّر إمكان وقوعه من العجائب والغرائب ومدهشات الأسفار والرحلات، ويقف كذلك على ترجمة لقيات منها إلى اللغات الأوربية، فاستهواها ناسها، وكلِف شعراؤهم وأدباؤهم بما اتسمَتْ به من روعة الفن وسحر الأداء وامتلاك اجتذاب القارئ للانغمار فيها وتواصل المتابعة والقراءة، فتأثرتْ بها قصصهم ورواياتهم، بحيث غدا الاستطراد إلى إلمام (بوكاشيو) الإيطالي بها واستفادته منها في مـزاولة هـذا الفن تلقينا ً مـدرسـيا ً مملولا ً.

فكيف بالقوم الذين ابتدعوا حكايات (ألف ليلة وليلة) على مراحل وفي أزمنة وأدوار متفاوتة، كما صحَّ اكتناه بعض الدارسينَ، ومنهم توفيق الحكـيم عـبـر كتابه (زهرة العمر)، فقد نصَّ على أنَّ اختلاقها وافتعالها مَثـَّلَ ردَّ فعل ٍ لما غلبهم وساد بينهم من هذا الأدب الرسمي الجاف الذي يُعنى باللفظ ويصطنع منه كلَّ مُعضِل ٍ وخال ٍ من الرواء والسلاسة، ويهمل المعنى الذي يُرهِب البغاة والمتسلطينَ لو أمكن له بوساطة دفقه وسهـولته ووضوحه ورشاقته أنْ يدينهم ويُشهِّر بخسائسهم وجرائرهم، قلتُ كيف لا ينتعش الفن القصصي بين أهل (ألف ليلة وليلة) وهم الأولى باحتضانه وإبداعه؟.

ويعقبُ ذلك أنْ يخوض الخليلي في شأن دور الأصمعي عبد الملك بن قريب، من خلال شهوده بلاطات الخلفاء والملوك كهارون الرشيد و(آل برمك)، وإذكائهم حافظته وشحذهم ذاكرته ليمتع نفوسهم وأذواقهم بقصصه الموائمة للمعقول المتعارف على وجوده أو البعيد عن التصديق لإيغالها في الاختلاق والكذب لحد يقرب من الاستحالة، وفي كلِّ ذلك جميعه كان مثل وعاءٍ حفظ شوارد اللغة ووقى مفرداتها من الضياع، وتسرَّبَتْ أدبيَّاته ومأثوراته اللغوية إلى مصنفات غيره مثل اللغوي ابن دريد.
وفي القسم الثاني من هذا السفر النفيس والجمِّ الفائدة والمكتنز بأشتات المعلومات المستوعبة محتويات مصنفات وتآليف كتبها قدامى ومحدثونَ، واستناده في توثيق أخـباره ودلائله بالـرجـوع إليها وتـحـديـدها في مواضعـها مـنـه، أمـثال : (القـرآن الكـريم) المُـنـزَّل عـلـى الـرسـول، و (الـعـهـدين ِ) القـديم والجـديـد، و (طـبـقـات ابن سعد)، و (رسالة الغفران) للمعري، وكذلك مجانيه من (دائرة المعارف) لمحمد فريد وجدي، و(ألف ليلة وليلة)، و (مجاني الأدب) للأب لويس شيخو، و (فجر الإسلام وضحاه) لأحمد أمين، وغيرها من نفائس الدوريات والمدوَّنات ؛ والتي منها ما يشي بانفتاح المؤلف على الثقافات الأخرى، أو ما يكرِّس دمغه ووصمه بالسلفية والعتاقة والارتجاع وجنفه عن المعاصرة، التي يدَّعيها ويدلل عليها بمناسبة وبدونها غير طارئ ومدخول ومأفون الرأي ؛ قلتُ اشتمل هذا القسم الثاني من الكتاب تراجم وتعريفاتٍ بمجهودات أربعةٍ من معاصريه ومجايله، ممَّن شُغِلوا بهذا الهمِّ، وكتبوا قدر إمكانهم، وبذلوا فيه جهد طاقتهم، وتركوا للأجيال شواهد حيَّة ناطقة بفرط حماستهم وما واتاهم اقتدارهم اللغوي وحذقهم في الصوغ والتصوير والتجسيد، المهم أنـَّهم كانوا صدىً لواقع مجتمعهم الذي يتهيَّأ منذ الحرب العظمى لشقِّ طريقه وتسديد خطواته نحو التطوير والحضارة، نائينَ في ذلك عن الافتعال والتكلف، متوقلينَ على لغة فصحى سليمة ومبرَّأة من مزالق العجمة وعثرات النحو والصرف، وهم : سليمان فيضي، ومحمود أحمد السيد، وأنور شاؤول، وخلف شوقي الداودي.

والثالث من هؤلاء الرواد يهوديٌ من أهالي مدينة الحلة تولد عام 1904م، وتزوَّد من مجالسها ومنتدياتها الثقافية والأدبية وطبيعة الحياة فيها بمجانيه من الآداب والأخلاق، واشتغل بالمحاماة وأصدر أخريات عشرينيات القرن الفائت مجلة مأثورة هي (الحاصد) التي ازدهرَتْ بنتاجات أرباب الأقلام يوم كانتْ النهضة الأدبية في العراق حديثة العهد، لتأخُّر اتصالنا بالأشقاء المصريينَ واللبنانيينَ، وتصفحنا لما يصدرونه من دوريات وكتب، وكان في أوَّل عهده مندمجا ً بمحيطه ومحبا ً لمدينته الحلة، وجسَّد هذا الهيام والحب بشعره ونثره، وصاغه بأروق أساليب البيان والتعبير وأكثرها احتواءً وامتلاءً بالشغف والوجد، ممَّا يجعل المتتبِّع في استغراب وحيرة من دواعي هجرته في أواخر حياته إلى إسرائيل، وتفريطه بعهده وولائه لموطنه العراق وسط المهرجانات الشعرية التي تقام في هذه الربوع، وكذا قدَّم تذكاراته وما يحيط به ذهنه من حكايات عنه إلى الرئيس الإسرائيلي.

وبخصوص ترجمة الخليلي لمحمود أحمد السيد، فقد ذكر أنَّ أباه عربي علوي بغدادي، وأمه هندية أفغانية قريبة عهد بالأفغان، وهي عمَّة خليل إسماعيل أحد وزراء المالية في العراق سابقا ً، وما لا يعرفه أحد من العاملينَ في الحقل السياسي أو المهتمينَ برصد التنوع الثقافي والمقاصد الأدبية أنَّ (خليل) هذا المتوائم مع ساسة العهد الملكي هو شقيق لعبد القادر ويوسف إسماعيل الملاحقين ِ بتشدُّده وإجراءاته، فيا للمفارقة!، وشقيقهم الرابع هو المحامي والأستاذ في كلية الحقوق قبلا ً عبد الله إسماعيل البستاني، أو المتوكل في دور العدالة عن الأوقاف الذرية وتصفيتها إبَّان سني خمسينيات القرن العشرين، بقصد إشغال الناس بما لا يهمُّهم وينفعهم في شيءٍ وافتعال سفاسف كلامية يقطعونَ بها الوقت.