جعفر الخليلي..الاديب الرائد

جعفر الخليلي..الاديب الرائد

بقلم : د. سعيد عدنان
حين ولد الخليلي في النجف سنة 1904، كان الشعر سيّد البيئة الأدبيّة، تعقد له المجالس، ويحتفي به الناس، تعقد له المجالس، ويحتفي به الناس، ولم يكن للنثر شيء من ذلك. لقد كان”الشاعر”ولم يكن إلى جواره”الكاتب». وكلّ شادٍ إنّما كان يبدأ بالشعر يحفظه، ويتفهّمه، ويحاول النظم، فإذا وفّق إلى شيء، أنشده في مجلس من المجالس؛ ليضع نفسه على المحكّ،

وليتبيّن ما عنده من مُنّة الصنعة؛ وقد بدأ الخليلي، شأنه شأن لداته، يتعلّم شيئاً من العربيّة في مبادئها، ويلمّ بالفقه وما يتّصل به، ويأخذ أطرافاً من الشعر. كانت أسرته أسرة دين وعلم، يزاول أفرادها الطبّ القديم؛ يرثه الأبناء عن آبائهم؛ فكان لا بدّ لجعفر من أن يأخذ عن أسرته معارفها، وأن يبرع في جانب منها، وأن يقف في جانب آخر عند المبادئ منه. أقبل على الأدب واللغة وما يتّصل بهما، ووجد نفسه تصغي إليهما، واكتفى ممّا سواهما من فقه وطبّ قديم باليسير، ثمّ قال الشعر على ما جرى عليه شُداة الأدب يومئذٍ، ومضى ينظم في أغراضه التي عرفتها مدينته، وشهدتها مجالسها؛ ولكنّه شعر لا يبلغ الطبقة الأولى، ومثله في المدينة كثير، ومهما قال منه فإنّه لا يبلّغه ما يريد. وتطلّعت نفسه إلى نمط آخر من الأدب كانت طلائعه تحملها كتب ومجلّات تأتي من مصر ولبنان، وتجد في النجف إقبالاً حسناً. وشرع يقرأ وينسجم مع هذا الجديد، وأعجبته الصحف التي تصدر في بغداد، وتأتي منها؛ ولعلّه حدّث نفسه أن تكون له صحيفة يصدرها، ويكتب فيها. غير أنّه قبل أن يكون صاحب جريدة، جعل يراسل جريدتي (الاستقلال) و(العراق) في بغداد، ويكتب فيهما ما يعنّ له، تحت اسم (المخبر الخاص) أو (مندوب الجريدة الفاضل)، وأخذ قلمه يتماسك على طريق الكتابة، ووجد النثر أقرب إليه، وأطوع، وأقدر على أن يجلو الأفكار الجديدة المتّصلة بالمجتمع. وعمل منذ سنة 1921 في سلك التعليم الابتدائي غير متخلٍّ عن نزوعه نحو النثر، ورغبته في الصحافة، ومال إلى الحكاية يرويها؛ فإنّ فيها متعة، وفيها عظة، وهي من بعد منفذ من منافذ الإصلاح. كانت القصّة شيئاً جديداً في الأدب العراقي، وكان رائدها الأول محمود أحمد السيّد لمّا يمكّن لها بعد، لكنّها شيء جديد سوف يقبل عليه جيل من الشبّان. وسوف تكون منزلة الخليلي منه بعد منزلة محمود أحمد السيّد. وكلاهما يستمدّ قصصه من وقائع المجتمع، وما يجري على الإنسان فيه، على أنّ قصص الخليلي أكثر نزوعاً نحو بناء الحكاية. كان لا يفتأ يغذّي نفسه بجديد الأدب، يقرأ ويزاول الكتابة، ويريد لميدانه أن يتّسع. ونشر، قبل أن يبلغ العشرين، قصّة بعنوان (التعساء)، ثمّ واصل القصّ، يكتب وينشر في صحافة بغداد، ويهيئ نفسه أن يكون صاحب جريدة، يصدرها ويكتب فيها؛ حتّى تمّ له ذلك في آذار سنة 1930 إذ أصدر جريدة (الفجر الصادق) الأسبوعية؛ وكانت منبراً حرّاً يدعو إلى النهضة، والإصلاح، ويمارس النقد؛ فثقل أمرها على أصحاب السلطة، وكان الخليلي، يومئذٍ، ما يزال معلّماً، وكان الجمع بين الوظيفة الحكوميّة والصحافة شيئاً لا يُجيزه القانون النافذ؛ فأُلزم أن يُغلق جريدته فأغلقها في تشرين الأول من السنة نفسها. وعزّ عليه أن يُحال بينه وبين رغبته في أن تكون له جريدة، يصدرها ويكتب فيها! ورأى أن يستقيل من الوظيفة؛ ليزيل عقبة من طريقه، فاستقال في سنة 1931 ليتاح له استئناف إصدار صحيفة! فأصدر جريدة (الراعي) في تمّوز 1934، وسلك فيها مسلكه في (الفجر الصادق)؛ يدعو إلى النهضة، والإصلاح، ويمارس النقد؛ فكان أن أُغلقت أيضاً في نيسان 1935. واستقرّ لديه أن جريدة هذا نمطها لا يتاح له إدامة إصدارها، فلتكن الجريدة التي سيصدرها أدبيّة، وإذا اقتربت من السياسة فلتكن على حذر، وبمثل هذا اختطّ نهج جريدته الجديدة، فقد أصدر (الهاتف) في أيار 1935، وجعلها أدبيّة تعنى بالقصّة والشعر والمقالة، ولا توغل في السياسة. وقد قُدر للهاتف أن تكون ملتقى أقلام الأدباء الكبار من ذلك الجيل، وأن تكون لها منزلة رفيعة، وأن يكون من طماح الناشئين أن ينشروا فيها. وقد بلغ من منزلتها أن سُمّي الشارع الذي كانت إدارتها فيه باسمها، وبقي يُدعى بشارع الهاتف إلى اليوم، وكان الخليلي قد سمّى ابنه، الذي أُخترم، هاتفاً. لقد كانت مكانة (الهاتف) في العراق لدى الكتّاب والقرّاء، تُشبه بنحو ما مكانة (الرسالة) التي كان يصدرها أحمد حسن الزيّات في القاهرة. لقد صار للخليلي بها جريدة أسبوعيّة ينشر فيها قصصه، ومقالاته، وأفكاره في النهضة والإصلاح؛ ويجعلها نافذة أدباء البلد؛ وقد كان لها (يوم باسم يوم الهاتف الأدبيّ، وهو يوم الاثنين من كلّ أُسبوع، وقد جرت العادة أن يجتمع الأدباء في هذا اليوم بمكتب الهاتف، ويبدأ أحدهم بتسجيل ما يتداولون فيه من أحاديث ونقاش فينشر ذلك في الهاتف تباعاً). وكانت تفتتح كلّ سنة من سنواتها بعدد قصصي؛ يدعى كتّابها لتهيئة مادته احتفاء بالقصّة، وترسيخاً لها في الأدب العراقي. وبقيت (الهاتف) تصدر في النجف حتّى سنة 1949 إذ انتقل الخليلي إلى بغداد فانتقلت معه، واستمرّ صدورها حتّى 1954 حين أُغلقت. ومع الصحافة كان يصدر القصص؛ فقد أصدر (السجين المطلق)، و(حديث القوة) و(في قرى الجن)، وكلّها قصص تجري مجرى الحكاية، كان يتوخّى من العظة، والإصلاح، والتنبيه على مساوئ تكتنف المجتمع. إنّ قضيّتي الإصلاح والنهضة كانتا مدار فكره في صدر حياته، عالج شأنهما بالقصص، وبالصحافة، ثمّ أراد أن يسلك سبيل البحث الميدانيّ. فقد بدا له أن يدرس الجريمة والمجرمين، وأن يتعرّف الأسباب والدواعي؛ عسى أن يكون في ذلك باب تدرأ به الجرائم؛ وأن تكون الدراسة ميدانيّة، وأن يدخل السجن حتّى يرى، ويسمع، ويدوّن؛ ودخل السجن ليضع كتابه : (كنت معهم في السجن) وخرج بقصص وحكايات واقعيّة سمعها من أصحابها وسجّلها من أجل أن يتّعظ الناس، ويبتعدوا عن أسباب الجريمة. إنّه كتاب رائد في تقصّي مادّته، شائق في طريقة عرضه. لقد اتّسع له ميدان الكتابة، وتنوّع؛ لكنّه بقي لا يكتب إلّا عمّا أحاط به علماً، ولا يستقي مادة إلّا من منبعها حتّى تجيء كتابته أصيلة لا يُستغنى عنها. فقد شرع يكتب عمّن عرفهم من رجال الأدب والفكر تحت عنوان (هكذا عرفتهم) واسماً كتابته بأنّها: (خواطر عن أناس أفذاذ عاشوا بعض الأحيان لغيرهم أكثر ممّا عاشوا لأنفسهم) وأنّ هذه الخواطر، على ما وصفها به، لهي تاريخ ما أهمله التاريخ فلقد وقف الكاتب عند أشياء رآها لدى من كتب عنهم، وعند أحاديث سمعها منهم، وعن علائق نشأت بينه وبينهم، ثمّ إنّه صبّها في قالب سلس مرن، ولغة دانية من قارئها؛ فلا غرو أن تكون كتابته هذه أصيلة لا يُغني عنها غيرها. لقد كان الخليلي رجل إخلاص وعمل، إذا سُدّ في وجهه سبيل سعى أن يفتح غيره؛ فكلّما أُغلقت جريدة له استأنف أخرى؛ فلمّا أُغلقت (الهاتف) في سنة 1954 أنشأ في بغداد داراً للطبع والنشر والإعلان التجاري سمّاها: (دار التعارف)، وجعل لها مجلساً أدبيّاً موعده يوم الأحد من كلّ أسبوع؛ يحضره أصدقاؤه من الأدباء والكتّاب كمثل مصطفى جواد، وكاظم الدجيلي، وحافظ جميل، وعبد اللطيف حمزة، وغيرهم. وقد جرى في مجلس الدار، ذات يوم، أن تُؤلّف موسوعة تتناول العتبات المقدسة لموضع الحاجة إليها، واستقرّ الرأي أن ينهض كلّ باحث بدراسة مدينة من أمهات المدن الإسلاميّة، وأن يتولى الخليلي التخطيط، والإشراف، والتنسيق، زيادة على ما يكتب من دراسات. ومضى المشروع إلى غايته حتى اكتمل في اثني عشر مجلداً من البحث الأصيل الرصين. وقد كان ممّن كتب: مصطفى جواد، وجعفر خيّاط، وحسين أمين، والخليلي، وغيرهم. لقد كان الخليلي كاتباً مكين القلم، واضح النهج، رصين العمل، رفيع الخلق، ومع هذا كلّه أُضطرّ أن يغادر، مع أسرته، البلد في سنة 1980، وهو شيخ قد تقدمت به السن، ووهنت منه القوى، وأن ينزل عمّان، ويبقى فيها مدّة، ثمّ يكتب له أن يموت في دُبي سنة 1985!