الفكاهة بالتمثيل في كتاب هكذا عرفتهم لجعفر الخليلي

الفكاهة بالتمثيل في كتاب هكذا عرفتهم لجعفر الخليلي

د. نجاح هادي كبة
التمثيل في أبسط تعاريفه هو تقمص شخصية الآخرين في التعبير على لسان الشخوص بوساطة حكاية والاهتمام بالحوار والحبكة الدرامية ثم تعقد الحوار للوصول إلى الذروة، فالحل ولابد من توافر المكان والزمان والحدث.

وفي كتاب (هكذا عرفتهم) حكايات فكاهية تأخذ أطرافاً من فن التمثيل التقطها المؤلف جعفر الخليلي من الرواية الشعبية أو ما وقعت عليه عيناه وأبطال تلك الحكايات يمثلها أناس فطريون تأتي الفكاهة والنكتة والمطايبة والمقالب على لسانهم كسجيّة وطبع لا تطبّع قد يكون أبطالها شعبيين او شيوخ دين فضلاء أو وجهاء تلك الفكاهة مرتبطة أشد الارتباط بالتمثيل وهي بمجموعها سيناريو تحتاج إلى مونتاج صائب لتعكس معادلاً موضوعياً لبيئة النجف التي يغلب عليها الطابع الديني والمتمرسة بالدراسات الإسلامية والعربية بجد، ما يجعل تلك الفكاهة المرتبطة بالتمثيل تعبيراً عن المكبوت في الشخصية النجفية وتتصف تلك الحكايات الفكاهية المرتبطة بالتمثيل بلغة شعبية وأجواء محلية تسمع من طريقها كلمات مستملحة بتقبلها السامع ولتضحك الآخرين وهي جزء من سيناريو التفكه الذي منه وصف الشعر النجفي الخمرة والتغزل بالغلمان أو بالمرأة على سبيل التظرّف لا الواقع، ويكون لمجالس الأدب والفقه دور في نشر الفكاهة والنكتة لاسيما حين تتعطل الدراسة الدينية في رمضان إذ تستمر المجالس من العشاء إلى السحر إذ يتقارض فيها الأدباء والشعراء ورجال الدين ما لذّ وطاب من الشعر والفقه والفكاهة، يتحدث جعفر الخليلي عن أحد المجالس الأدبية النجفية، فيقول (وطابت هذه المجالس … واقترحوا أن لا يتركوا دار السيد مير علي نهار الأربعاء مع من يتركها من بقية الزائرين … فإذا ما حان الظهر حمل كل فرد من هؤلاء الأصدقاء غذاءه الى بيت السيد مير علي، ودعا هو بغذائه، فكانت من كل ذلك مائدة واحدة، وقد أطلق على طائفة خاصة من هؤلاء الأصدقاء اسم (الصفوة) كان منهم الشيخ حسين الحلي والسيد علي بحر العلوم، والشيخ محمد حسين المظفر و … وحرصت هذه الصفوة كل الحرص على أن تجعل من يوم الأربعاء بعد انصراف الزائرين يوم متعة ولذة ربما كانت تتجرد من قيود المجتمع، ليواجه بعضها بعضاً بحقيقته وبذاته ومباذله ولم يكن هذا التجرد- غير الإفساح في المجال لأنفسهم فيضحكوا ما شاء لهم من الضحك).
ثم يلتقط جعفر الخليلي بعين الكاميرا أدوار المجتمعين بالمجلس فيقول : (ليعلقوا على الأخبار الأدبية والمقاطيع الشعرية بما شاءت لهم الحرية والفكاهة ويعطوا لأنفسهم المتعة الكاملة في الأكل حتى وان جاءت هذه المتعة عند الصفوة عن طريق اختطاف اللقمة من فم صاحبها، أو إسراع بانتزاع اللحم من الحساء وحرمان الآخرين منه، أو بمهاجاة شعرية مستملحة مقبولة تتجاوز العشرات من أبيات الشعر المرتجلة الهازلة، إلى غير ذلك من اللذة البريئة التي تنشدها نفوس وأدباء تعبوا على انفسهم بعض التعب، وعلى هذا فقد يتغيّر مجلس الواحد من الصفوة عدة مرات، فحين يكون إلى جانبك في هذه الدقيقة لا يلبث أن يكون في طرف يعيد إلى جانب شخص آخر)، والفكاهة بالتمثيل لها أهداف أخرى غير التسلية والضحك واطلاق المكبوت من اللاشعور، منها :
التشجيع على قرض الشعر، يقول جعفر الخليلي عن مجلس السيد (مير علي) نفسه (التفت إلى الجميع قائلاً – اشهد انه لا يليق بمثل هذه الفوضى التي جئتم بها غير بيت من شعر (الأبوذية) العام، فمن منكم يجيز هذا الشطر :
(جماعتنه بأكلهم كسفونه)
فضحك الجميع وأجازوا البيت حتى جعلوه عشرين شطراً وليس ثلاثة شطور كما في القاعدة في نظم (الأبوذية)، والتفت بكدمة ونتوء بحجم الجوزة تعلو جبينه من اثر الاصطدام … ولكن هل تغيّر وجهه؟ هل تنكّر لجلسائه؟ وهل قال شيئاً؟)()، ولكن ماذا كسب السيد (مير علي) غير التسلية والضحك، فيجيب جعفر الخليلي (وشاع مجلس (الأربعاء) بأحاديثه وأدب (الصفوة) وشعرهم، وظرفهم ومباذلهم في مجالس النجف ومنتدياتهم، واصبح الاستقراء والاستنتاج والمساجلات في الشعر وتبادل النكات وابتكار الملح والفكاهة كشيء ملتصق بنادي السيد مير علي الأدبي أو باسمه على الأصح) ويرصد الخليلي نقدات لاذعات لعويص اللغة والمطالبة بتيسيرها، لاحظ هذا الحوار الدرامي، يقول الخليلي عن السيد رضا الهندي – وهو رجل دين له شأن في العلم والأدب – حين يزور مكتب الخليلي الصحفي في النجف آنذاك (فصار يجتهد في نقل ما وسع في ذهنه إلى ذهني من روائع الأدب … وارتفعت الكلفة فيما بيننا، وأدرك اني لست من الذين يتخيلون للعظمة صورة خيالية بحتة متى تجردت منها لم يعد للعظمة معنى عندهم … وكان إذا دخل مكتب الجريدة وهو متعطش لشرب الشاي – وكان منهمكاً بالشاي كثيراً-نادى (انا شايان) (انا شايان) … واعترضه أول يوم سماعي لهذه الصيغة الغربية واستعماله كلمة (شايان) بقصد الشاي قال :
إذا حق لذاك الفقيه العجمي أن يستعمل هذا القياس في كلمات ابعد ما تكون معنى عن قياسي أنا ويصيب المرمى بها فكم بالحري أن يحق لي أنا استعمال هذا القياس في المعنى القريب)، ويضيف الخليلي : (ولما سألته عن قصة الفقيه العجمي قال : هو فقيه عجمي لم يحسن غير اللغة العلمية الفصيحة وقد ضايقته بطنه، وهو في السفينة مضايقة شديدة أرغمته على ان يطلب من الملاح الدنو من الساحل فنادى : (أيها الملاح ادن من الساحل فإنني أريد الخلاء … ولكن الملاح لم يفهم شيئاً مما يقول هذا الفقيه فعاد الشيخ ينادي مرة أخرى – أن أدن من الساحل فإنني أريد المرحاض فلم يفهم الملاح شيئاً، وحينذاك سمع طفلاً في السفينة يبكي ويصبح (جوعان)، ويكررها مرات صائحاً : جوعان، جوعان، فالتفت الشيخ الفقيه هنا وقال : الآن فهمت … أن القياس يجب أن يكون على (فعلان)، فيا ملاح أنا زربان، انا خريان، أنا بولان … فضحك الملاح ومن كان في السفينة وفهموا ما يقول الشيخ)()، ويسوغ السيد رضا هذا الخروج اللغوي الصرفي بقوله : (إذا حق لهذا الشيخ ان يستعمل قياسه المغلوط على (فعلان) وقد استطاع الملاح أن يفهم مقصوده فكم بالأحرى أن تفهم أنت ويفهم الجميع قولي حين أقول أنا (جيان) واقصد بذلك أني شديد العطش لشرب الشاي)()، ولابد من أن أشير إلى دعوات عديدة طالبت بتيسيير قواعد اللغة العربية في العصر الحديث وتقديمها للطلبة سائغة مقبولة منها دعوة إبراهيم مصطفى العام 1951م من مصر، فإن دعوة السيد رضا الهندي إن لم تكن مناظرة كدعوة إبراهيم مصطفى فإنها صوت لا ينسى صدر العام 1943م، مكتوباً – على توثيق الخليلي- من أجل تيسيير قواعد اللغة العربية وبأسلوب تمثيلي ساخر، فالسخرية في التمثيل وسيلة لشد المشاهد الى العمل التمثيلي ومشاركته إياه، كما يذكرنا ذلك باعتباطية اللغة لدى سوسير فاستعمل السيد رضا كلمة (چيان) (من جاء) للدلالة على معنى آخر هو الشديد العطش لشرب الشاي؟ فأيّ معانٍ عميقة جاءت بهذه الحكاية التمثيلية الساخرة على الرغم من قصرها؟
وتتطور الفكاهة المرتبطة بالتمثيل إلى مرحلة اكثر تصعيداً فتشمل الأزياء واستعمال الأدوات وتقمص لغة الآخر، وهذه جزء من سينوغرافيا المسرح المعاصر، يلتقط الخليلي مشكلة، امرأة تستغيث من زوجها لا ينفك لأقل شيء ينهال على زوجته بالضرب المُبّرح وقد أدّى سلوكه مع أسرته إلى أن مات له طفل في عمر الرابعة بركلة واحدة من رجله ويصوّر الخليلي الأحداث على النحو الآتي.
(قال عباس الجبان – أتريد أن أخلّص المحلة والأهل من أسرته؟ قال :
لا اعرف ثواباً اكثر من هذا، ولا عملاً صالحاً يفوق عملك اذا استطعت أن تفعل شيئاً ولكن ما عساك أن تفعل؟ قال – لا تقل ما عساك … وما عليك إلاّ أنّ تحضر لي بذلة (الجندرمة) لألبسها، كما لو كنت شرطياً من شرطة الحكومة العثمانية وسلّمني سوطاً من الجلد المضفور، واتركني بعد ذلك وشأني)()، وبعد أن يُنفَّذ طلبات عباس الجبان وكان الشخص المضطهد لزوجته يسمّى حسناً فصاح عباس بلغة الجندرمة ولهجتها :
ولك حسينات، بيزونك ابن جليب مال المعدان، اتلع بره، آني يريد يشوف أنتي شيسوين بالمريه مال إنتي كل يوم، كل يوم).
وهذه الجمل هي لهجة الأتراك والجندرمة وهي خليط من التركية والعامية الدارجة المكسرة يريد أن يقول له : (اخرج يا حسن يا كلب ويا بن الكلب لأرى كيف تعامل زوجتك كل يوم بالقسوة والعذاب)، وبعد أن ألحّ عباس على حسن بدق الباب عليه وهو يعربد ويشتمه حتى خرج إليه حسن يرتجف لانه كان جباناً فطفق عباس يضربه ضرباً مُبّرحاً بالسوط وهو يصيح : (-ولك حسينات، بعد يسوي قارش وارش؟ يبسط نساوين؟ ولك بيزونك جلب مال معدان، ويتخضع حسن ويقسم أنه لن يعود إلى مثل هذا ولا يكتفي الجبان بل يأخذه معه متظاهراً بأنه سيسجنه سنتين وسبعة شهور وثلاثة عشر يوماً… وهنالك بعد أن يجتاز به شارعين أو ثلاثة في طريقه إلى (السراي) يطلق سراحه بشروط ثقيلة على أن
لا يمس زوجته وأولاده أو أي أحدّ من ذويه بأيّ سوء ولو كان مخطئين ومذنبين … وكان كما أراد) ـ وهذه الفكاهة المرتبطة بالتمثيل لا تعكس براعة الممثل الفطري عباس جبان فحسب، بل تعكس الجانب الإنساني لعباس الجبان والبيئة، التي نشأ فيها – النجف – الجزء الذي لا ينفصل عن العراق في النخوة والشهامة.
ويتطور الصراع والحوار إلى العقدة التي تحتاج إلى الحل في الفكاهة المرتبطة بالتمثيل لدى عباس الجبان أيضاً:
يروي الخليلي أن عباس الجبان له الفضل من إنقاذ سفينة ملأى بالناس حينما داهمها قطاع طرق قرويون أيام العثمانيين إذ كان يكثر قطاع الطرق آنذاك فيلتجئ الناس إلى ما يسمى (بالميّسرين) وهم شخصيات من رجال دين أو من وجوه العشائر إذ يكون لهم وجاهة لدى قطاع الطرق فيعزفون عن التسليب وذات مرة أوقف قطاع الطرق سفينة كان فيها ناس كثيرون وعباس الجبان معهم مع رجل دين معمّم فاستنجد الناس برجل الدين المعمّّم ولما امتنع أن يمنع قطاع الطرق من التسليب، فما كان من عباس الجبان ان يقفز بخفة ويختطف عمامة الرجل المعمّم ويلبسها ويضيف الخليلي (ولعباس الجبان قيافة تستلفت النظر فقد كان بديناً ووقراً ومهيباً ولم يكد يخرج اليهم من السفينة حتى انكب اللصوص على يديه يقبلونها ويستميحونه العفو…)، وبعد ذلك طلب اللصوص من عباس الجبان والناس والذين برفقته أن يضيفوهم لاسيما وهم مطلوبون للحسين نذراً وهو خروف (فلم يحصل على من يقرأ له المأتم وقال إن الفرصة أتاحها الله لهم الآن ليتم إيفاء النذر فيها …!! وهنا وجم عباس الجبان … ماذا تراه فاعلاً؟ أنه لم يعرف للآن شيئاً من مقتل الحسين ومن المراثي التي تقرأ … وإذ كان يجيد النغمة ويحسن تقليد مختلف القراءات بصوته الشجي الرخيم فإنه
لا يعرف ولا كلمة مما يقوله الخطباء ورجال المنابر في مناسبة قتل الحسين،…. ولكن كان عليه أن … يستمر في تمثيل دوره إلى النهاية، وإلاّ قُضي عليه وعلى ركاب السفينة). وهكذا اتجه الجبان مع أربعين شخصاً إلى بيوت قطاع الطرق (وهنالك جيء له بجاون ارتقاء بدلاً من المنبر، وافتتح الكلام كما يفتح خطباء المآتم وشرع يقرأ مرثية من ابدع المراثي من حيث الوزن والنغمة والترتيل، أما الكلم فلم يفهم منه شيئاً غير أسماء تمرّ في أثناء النغم والإنشاد فيبكي بسببها السامعون، واكثر هذه الأسماء كانت تدور حول : كربلاء … والحسين، والشمر، ويزيد، والقتيل، والمظلوم، والعطشان، والشهيد)، وهكذا استطاع الجبان أن يبكيهم وان ينقذ الناس الذين برفقته بأسلوب فكاهي تمثيلي ولابد من الإشارة إلى أن ما عرض من أسلوب فكاهي تمثيلي في هذه المقالة هو غيض من فيض مما جاء في كتاب (هكذا عرفتهم) للخليلي.