من ذكرياتي البغدادية

من ذكرياتي البغدادية

هشام المدفعي
كان والدي يؤكد علينا انا وأشقائي ان نبتعد قدر الامكان عن العمل الحكومي التقليدي، وان يكون تكسبنا من التخصص المهني في القطاع الخاصلما فيه من فوائد مادية ونفسية، ولعله كان في ذلك يقول لنا ان ما واجهه من معاناة في الخدمة الحكومية الوظيفية، لايريده ان ينتقل الى ابنائه فيواجهون ما واجهه من تعب وعداء وحسد مهما كانت درجة خدماتهم!. كما يبدو ان هذا الامر شمل ابناء اعمامي ايضا.

دخلت كلية الهندسة في بغداد عام 1946 وانا في الثامنة عشرة من عمري، وكانت عندي رغبة في دراسة هندسة البناءوهي رغبة والدي نفسها، و قدمت الى كلية الهندسة وفق حصة لواء كركوك الذي كان والدي متصرفا له، وهي اربعة طلاب وكان رقمي (5) احتياط، ومن حسن حظي ان احد المقبولين الاربعة حصل على بعثة دراسية الى الولايات المتحدة ولم يجد كفيلا، فأوعز والدي الى رئيس البلدية ان يجد كفيلا لهذا الطالب، وفعلا تقدم احد كبار تجار كركوك لكفالة السيد حسن الدده مما سهل التحاقه بالبعثة العلمية، وهكذا دخلت كلية الهندسة. الا اني فجعت بعد اسابيع قليلة بوفاة والدي المفاجئة، كانت الوفاة بسبب انفجار شرياني في الدماغ، وهو عائد بالسيارةمن مهمة رسمية من بغداد الى مقر عمله متصرفا للواء كركوك، كان الحادث قاسيا علينا، ولم اصدق الخبر في البداية، ولازمتني تلك الصدمة طيلة السنة الاولى من دراستي في كلية الهندسة، ثم اخذ الامر يعود الى طبيعته مع مرور الايام. واصبحت آنذاك اكبر اخوتي في البيت، واصبحت والدتي تعتمد علي في تدبير الكثير من امور البيت، لان اخي الكبير قحطان كان قد التحق بالبعثة العلمية في بريطانيا منذ سنتين. وكانت تلك البداية في مواجهة صعوبة الحياة، كان الامر صعبا في التوفيق بين الدراسة ومطالب الأسرة، غير ان قوة ارادة والدتي وحكمتها كانتا من اسباب نجاحنا في هذه الفترة وما تلاها.
كانت دورالسينما الملاذ الوحيد لنا في عطلة نهاية الاسبوع، اذ لم نكن نهتم بما في بغداد من مراقص او ملاهٍ او محلات الشرب او بيوت المتعة. وكانت سينما غازي في الباب الشرقي من اوسع سينمات بغداد واشهرها، ثم تأتي سينما الوطني والزوراء والرشيد وسينما الملك فيصل الصيفي في الصالحية عند رأس الجسر وغيرها. وكنا ننتظر عرض الافلام الامريكية والبريطانية لأسابيع عديدة بعد ان نقرأ عنها في الصحف والمجلات العربية. وكان الذهاب الى السينما مناسبة اجتماعية ممتعة للغاية، حيث يتم حجز (لوج) مكون من عدة مقاعد مريحة، وعندما نصل الى دار السينما كنا نجد عوائل معروفة قد حجزت هي الاخرى اماكن لها، وقد شاهدت باهتمام افلام (ذهب مع الريح) و (دماء ورمال) و(لمن تدق الاجراس) للكاتب الامريكي هامنكواي، وكانت تستهويني افلام القصص العالمية المشهورةوالافلام الحربية والجاسوسية ونحن خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ومن الممثلين الذين كنت اتابع افلامهم (بيتي كريبل) و (كاري كوبر) و (تايرون باور) و (كريتا كاربو) وغيرهم. وضمن العائلة، فإن اللقاءات والرحلات والزيارات المتبادلة كانت كثيرة، فمن عمري كان ابناءعمي امين زكي وهم عادلة وامل ومأمون ورجاء. وأبناء عمي صبيح نجيب العزي بثينة وسهيلة وزهير، ومن الاقارب ايتن ابنة مهدي الرحال واخوها خالد الرحال وكذلك خلدون الرحال، وابن عمي منذر فضلي العزي.
كما كانت حفلات الكليات متنفسا مهما في حياتنا يومئذ، واذكر حفلة الكلية الطبية، التي مثل فيها خالي قتيبة الشيخ نوري رقصة النار (Fire Dance)، وكانت حفلة رائعة وجهداً متميزاً، حيث غطى جسمه كاملا بلون اسود ممثلا رقصة زنجي حول النار. وكانت حفلة الفنان جواد سليم في دار المعلمين العالية، وقد عزف فيها على الكيتار، معتذرا لمرات عديدة عن الاخطاء التي وقع فيها في العزف، حتى اطلقنا على المعزوفة اسم (sorry concerto).
لقد جمعتنا الزمالة الطلابية بعدد كبير من الاصدقاء في الكليات الاخرى، ففي الكلية الطبية كانت ابنتا عمي سانحة ولمعانوخالي قتيبة الشيخ نوري ونوري مصطفى بهجت وخالد القصاب وغيرهم. وفي كلية الحقوق ابن عمي خلوق امين زكي ومحمد عبد الوهاب ولمعان البكري وخلدون ,وايتن مهدي الرحال , وفي دار المعلمين العالية بثينة صبيح نجيب وسهيلة نيازي وبنات عمي عادلة وامل امين زكي...هؤلاء اذكرهم هنا على سبيل المثل، للتأكيد على تنوعهم الفكري الذي لم يكن في يوم من الايام مدعاة للتفرق!

تصليح دار سكن الزعيم
عبد الكريم قاسم

بعد أشهر من ثورة تموز 1958 واستقرار الزعيم وحكومته في الحكم، وعندما كنت منشغلا بأعمالي الهندسية في مصلحة المصايف والسياحة، طلب المدير العام للمصايف والسياحة رشيد مطلك مني وأخي قحطان، المهندس المعماري المعروف، أن نرافقه في زيارة الى بيت الزعيم عبد الكريم قاسم الواقع في منطقة (بستان الخس) البتاويين من بغداد، للتعرف على واقع البيت ووضع التصاميم لإصلاحه وتحديثه ليكون سكن خاص مريح للزعيم. صالح المطلك كان صاحب مطعم شريف وحداد الواقع في مقدمة جسر (الملك فيصل الثاني) من جانب الرصافة.
البيت يقع على ارض سكنية بمساحة حوالي 600 متر، وهو من بيوت أملاك اليهود”المجمدة". بناء الدار يقع على بعد 4 امتار من السياج الأمامي ومحاط بمساحة غير مشيدة بعرض مماثل يتخللها أشجار مرتفعة وقريبة من السياج الخارجي، والحديقة الخلفية مساحتها حوالي 200 م2 يحيط بها أشجار مرتفعة قريبة من السياج الخارجي ووسطها ساحة مفتوحة استعملت ساحة يقطنها كلاب اربعة شرسة من النوع المخصص للحراسة.
أما الدار فهي مشيدة بالطابوق وفق طراز يعود لعمارة ثلاثينات القرن العشرين ومن طابق واحد. يتكون تخطيط البيت من مدخل أمامي مستعملة غرفة الضيوف على اليمين وغرفة معيشة العائلة على اليسار ومدخل الهول في الأمام يقع على يمين ويسار غرف نوم وعلى اليمين يقع الحمام وعلى اليسار المطبخ بينهما باب تؤدي الى الحديقة الخلفية.

أما اثاث بيت الزعيم، وهو من كبار ضباط الجيش العراقي، فهي بسيطة الى درجة متناهية. غرفة النوم خالية من السجاد تحتوي على سرير حديدي ودولاب حديدي. أما السرير فهو من الحديد الذي تستعمله العوائل البغدادية للنوم على السطح والدولاب فهو من الدواليب الحديدية البيضاء المزججة مع رفوف، المستعملة في المستوصفات الطبية. وأما غرفة الجلوس فان أثاثها يتكون من تختين خشبيتين من النوع المستعمل في المقاهي الشعبية. وأما الحمام فيتوفر فيه حوض ماء من الموزاييك، شائع الاستعمال لدى ذوي الدخل القليل، مع طاسة لسكب الماء على جسم الانسان و تختة خشبيه للجلوس، والماء الحار يسخن من الخارج بحرق النفط. لم الاحظ اثاث في المطبخ سوى طباخ ذو ثلاثة عيون وبعض الادوات المعتاد وجودها في المطبخ. لا يوجد في البيت اثاث اخرى تجلب الانتباه. أما الحديقة الخلفية فلا يمكن الدخول اليها بسبب تواجد كلاب الحراسة الشرسة.

بلغنا رشيد المطلك ان ما يتوفر لدى الزعيم من مبالغ لإصلاح داره هو اثنان وعشرون الف دينار وحذرنا من تجاوز هذا الرقم عند العمل على هذا المشروع.
بدأ قحطان بوضع المخططات الأولية والفكرة التصميمية الأولية للتصليحات آخذين بنظر الاعتبار متطلبات سكن رئيس دولة، من متطلبات السكن والمعيشة في البيت، من تعديلات على الهيكل الانشائي للدار بموجب الاستعمالات المتوقعة من قبل رئيس دولة، وما يتطلب من تأثيث مناسب للحياة اليومية ومتطلبات الحياة الرسمية والضيافات العراقية والخارجية كما درست متطلبات الحمايات ان تطلب ذلك.

ومن ناحية اخرى كان علي ان ادرس من ناحية انشائية وخدمية متطلبات الحماية الأمنية الخارجية للدار بصورة عامة وللجدران والسقوف والشبابيك الخارجية ومتطلبات الحماية من الحريق وما يتطلب من دراسات أخرى. صارت الفكرة لتطوير الدار وتكييفها كاملة تقريبا. وكان من واجبي ان أقوم بحساب كلفة الأعمال على ضوء هذه التفاصيل، لتكوين فكرة عن الموازنة العامة لهذا المشروع. اتضح لنا ان المبالغ المطلوبة لإنجاز هذه المهمة تتجاوز المبالغ لمخصصة لذلك. قدمنا تقرير بهذه الحقائق الى الاستاذ رشيد المطلك. لم نتسلم جواب بالموافقة او المباشرة.... ولذلك اعتبرنا ان المهمة منتهية.

من هذه المهمة الصغيرة اتضح لي مدى بساطة الحياة المعيشية للزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز 1958، اذا ما قارناها مع الحياة المعيشية للكثير من كبار ضباط الجيش العراقي آنئذ ومنهم ما نعرف من كبار شخصيات العهد الملكي وآبائنا ومعارفنا من كبار قيادات الجيش العراقي. لقد أثبت الزعيم عبد الكريم قاسم طيلة فترة حكمه وحتى مقتله في انتكاسة 8 شباط 1963 انه زاهد في الحياة ويطمح كثيرا في رعاية الطبقات الفقيرة والمعدمة من المجتمع وأراد ان يكون نموذجا للإنسان المتعفف في خدمة المجتمع.

تحديد المنطقة الخضراء واغلاقها (1970)
ادركت بشكل واضح، بعد مرور نحو السنة من العمل في امانة العاصمة، وفي ادق دوائرها، مقدارعجز هذه الدائرة الكبيرةعن تلبية متطلبات مدينة بغداد الجسيمة. وثبت لي ان النهوض بمستوى الخدمات البلدية لايتم الا بوجود منهج تفصيلي واضح وكامل، يستند الى تخطيط واضح وقانون صارم لمدينة بغداد. لذا حصرت الكثير من جهدي على اكمال هذا التخطيط والعمل على اقراره.
في ظهر احد الايام، دعاني امين العاصمة السيد ابراهيم اسماعيل، وطلب مني احضار الخرائط والمخططات لمنطقة كرادة مريم التي تضم القصر الجمهوري. وبعد الاطلاع عليها، ابلغني بتوجيهات رئيس الجمهورية، بإغلاق الطرق المؤدية الى القصر، وهو شارع المنصور الذي يمر من امام دار الاذاعة والتلفزيون بدء من ساحة الشواف عند جسر الجمهورية الى ساحة 14 تموز عند الجسر المعلق ووضع نقاط سيطرة، واغلاق جميع الشوارع الفرعية المؤدية الى ذلك الشارع والمنطقة المحيطة بالقصر الجمهوري. هالني الامر المخالف لمتطلبات تخطيط منطقة بغداد. وعندما افهمت الامين بذلك، اجابني : لو كان هناك تخطيط في هذا البلد لما حصلت الثورة!. وقد فهمت ما يريده الامين، وادركت ان اولويات العمل تختلف باختلاف الاشخاص و الظروف.

مجلس الامانة يرفض تخطيط بغداد وأستقالتي من الامانة

عرضتُ على مجلس امانة العاصمة، وهوالسلطة العليا في عمل الامانة، الخرائط والمخططات الاولية للتخطيط المقترح لمدينة لبغداد، وكل التخطيطات والمقترحات والمعلومات التي وضعت او قدمت جاءت استنادا الى العقد المبرم مع الاستشاري بول سيرفس الذي وقع بناءً على قرارات المجلس والجهات العليا. ولم اكن على اطلاع كامل على المبادئ التصميمية للتخطيط كما بينت للمجلس، لعدم مواكبتي لكل الاعمال منذ المباشرة بها. ولكني شرحت للمجلس ما تطلب من توضيحات، والاهداف المستقبلية للتخطيط والجوانب التنظيمية الملحقة به. وبعد نقاش طويل واستفسار المجلس عن كلفة تنفيذ هذا التخطيط , ورغم توضيحي ان تخطيط المدينة لا يكلف الدائرة مبالغ لتنفيذه بل هو منهج وتخطيطات توجه نشاطات بناء وتطوير مدينة بغداد بموجبه , رفض المجلس المصادقة على المخططات المقدمة، واتخذ قرارا بإحالة الموضوع الى مجلس التخطيط للبت في الامر. وتساءلت مع نفسي، هل ان ذلك من مسؤولية مجلس التخطيط ام لا؟ وقد يستغرق ذلك فترات طويلة للنظر فيه. وادركت من ذلك ان مجلس الامانة قد تهرب من مسؤولياته في اقرار ما وصل اليه خبراء الامانة ومستشاروها، أجابنا مجلس التخطيط الاقتصادي بأن تخطيط مدينة بغداد هو من مسؤوليات وصلاحيات المدينة. ولا أخفي انني شعرت بخيبة الامل والاحباط، وتساءلت : كيف اتمكن من القيام بعملي بشكل سليم من دون تخطيط ومنهج للعمل؟
تدارك امين العاصمة الموقف وبين لي انه بحث الامر مع رئيس الجمهورية، وان الاخير سيطلب من بعض اعضاء القيادة الحضور الى الامانة لدراسة التخطيط من اوجهه المختلفة واعطاء القرار بشأنه.
واستعدادا للاجتماع مع القيادة، هيأنا قاعة العرض، واعددنا موجزا للمعطيات التي استند اليها تخطيطنا من جميع الجوانب، والفرضيات المستقبلية المحتملة، وملاءمة التخطيط لاحدث النظريات التخطيطية المناسبة للمجتمع البغدادي. كانت استعداداتنا للاجتماع كبيرة، يحدونا الامل في ان الاجتماع سيقر التخطيط وسيفتح امامنا الكثير من الاعمال المستقبلية، من اكمال تفاصيل مخططات مدينة بغداد، وتحديد مسارات الاعمال البلدية. كنت مع امين العاصمة وجميع المهندسين والاستشاريين ومن يعنيهم الامر ننتظر على احر من الجمر وصول اعضاء القيادة. ومن المؤسف ان يصبح املنا في مهب الريح، لعدم حضور اي عضو من اعضاء القيادة.

اشتد شعوري بعدم نجاحي بعملي، لغياباي تخطيط واضح يُستند اليه لتطوير المدينة بما يناسب سكانها، وتراءت امامي الصعوبات التي ستواجهني لو جرى لي لقاء او نقاش مع الناس. ولم يكن امامي الا التفكير بتقديم استقالتي والابتعاد عن امانة العاصمة بأسرع وقت. فبدأت بتهيئة جو العمل في الامانة لتقبل فكرة استقالتي. ولكن وكما توقعت، لم يوافق امين العاصمة على انفكاكي من وظيفتي مالم ارشح له من يقوم بعملي. رشحت المهندس حسام الدين العباسي للقيام بعملي، وكنت مطمئنا بأنه شخص لايعطي رأياً حاسماً ابداً , وبأنه سيقوم بالمهمة بشكل مقبول، وبإمكانه التعايش كموظف مع امين العاصمة بدون الالتفات او الاهتمام بوجود خطط ومناهج او بعدم وجودها.
لقد كان يوم انفكاكي من امانة العاصمة يوما صعبا ولم اكن راغبا بتقبل الفشل، لشعوري المستمر الى اليوم بأن على الانسان ان يعمل ما في وسعه لخدمة مجتمعه ومدينته.