إليف شافاك تروي مأساة سيلفيا بلاث عن الشعراء والأطفال

إليف شافاك تروي مأساة سيلفيا بلاث عن الشعراء والأطفال

إنها فتاة أرادت أن تكون إله لتستطيع خلق الكون برمّته من جديد، أن تبدأه من العدم. هكذا كان شغفها بالعيش بحرارة صادقة، لم يكن جسدها يتسع لها. ولا حتى ماضيها. صارت، لفترة من صباها، معلمة، بيد أن الأمر لم يطل بها حتى قررت أنها لا تصلح لتكون فرداً من أفراد القوى العاملة. لقد خلقت للكتابة. هكذا عزمت على كسب عيشها من وراء الكتابة،

إلا أنها لم ترض قط عن المبالغ التي كانت تزجى لها من وراء ذلك، فدفعت بنفسها قدما وشقّت طريقها، لم يناسبها الصبر ولا الانتظار. لم يناسبها أن تكون صيادة سمك محترفة.

يسمّيها أصدقاؤها المقربون سيل، أما عائلتها فتسميها سيفي. وبالنسبة إلى باقي العالم، فقد كانت سيلفيا بلاث.
استمرّ موضوع زواجها من الشاعر تيد هيوز حاراً وكثير الورود في نقاشات الدارسين، والبحوث النسوية وغير النسوية على حد سواء. اعتمد الكثير منهم على جانبها هي من حكاية الزواج وأحداثه، وآخرون اتكؤوا على جانب الشاعر منها، بيد أن الحقيقة تكمن في مكان ما بينهما، في درجة لونية عدا الأبيض والأسود. الأوراق والكتب التي كتبت عنهما، تكاد - رغم مرور السنين الطوال على حكايتهما- تفيض بالعاطفة، كما كانت سيلفيا نفسها، وكأن كل كتاب سيرتها قد انتهوا إلى الوقوع في حبّها.
تحكي هي أن زواجها كان متحجراً وتسبب لها في الكثير من الألم. غير أنه، كالكثير من العلاقات التي انتهت بشكل مشابه، بدأ بجاذبية هائلة بين الزوجين لم يكن من الممكن التحكم فيها. كانا شاعرين واقعين في الحب: سيلفيا بلاث وتيد هيوز. لقد تشاركا المجازات الشعرية، والنفسيات المتضاربة، والشخصيات القوية.. هل يستطيع شاعران أن يقعا في الحب دون أن يتنافسا على المدى البعيد؟
ليس من المستحيل وقوع ما يشبه ذلك، بالطبع، بيد أنه صعب وباهظ التبعات. كانا يافعين، حرّين برؤوس يابسة، ممتلئين بما يمكن أن يقوله أحدهما للآخر، وبعالم حلما بتغييره معاً. لهذا وقعا في الحب معاً، ومن أجله حاربا دون هوادة وبلا نهاية، وأقاما حبهما بشغف وإصرار، وقالا وفعلا ما سيندمان عليه لاحقاً بمرارة، ويبحث كل منهما عن الغفران من الآخر ومن نفسه في آن واحد.. كل ذاك، وأكثر، حدث عبر الكلمات، الكلمات التي مثلت زهوهما وإباءهما معاً.
هناك قصيدة كتبتها سيلفيا بعنوان (أرجو، أرجو)، الشخصية الرئيسية فيها هي طفل شبيه بالإله، لم يولد بعد، ممتلئ وأجرد الرأس بفم فاغر. ليس هذه صورة لطفل لطيف أو ملائكي، بل صورة لقوة طبيعية تتمنى أن تنوجد في هذا العالم وتلح في طلب الحب والاهتمام. إنه طفل يريد أن يكون. استخدمت الشاعرة البركان رمزاً لخصوبة الأنثى- القدرة على التناسل والانتشار وحمل الحياة في الداخل. غير أن البركان أيضاً قوة خطيرة ومدمرة. حتى وإن كان نائماً، لا تستطيع أن تطمئن إليه، قد يندلع في أية لحظة. لا يمكن ترويضه. لا يمكن التنبؤ به.
مرّت سيلفيا بلاث باضطرابات عديدة طوال حياتها فيما يخص الأمومة والنسوية. في البدء، خافت من أن تكون عقيمة وألا تتمكن من الإنجاب. بعدها، هجرها النوم لليال طويلة، قضتها في البكاء والقلق من عملية الولادة نفسها، هل سيكون الألم طاحناً؟ هل ستنجو منه وتحيا؟. لم ينته الأمر عندما أنجبت أطفالها، بل صارت قلقة عليهم من العالم الخارجي وقسوته.
بيد أنها كانت مقتنعة تماماً بأن الأمومة ستضيف الشيء الكثير لحياتها وكتاباتها. فبعد أن صارت أماً، تحولت إلى امرأة مختلفة- امرأة ستصورها في قصائدها ككائن خارق القوى، سحري الخلود، كائن صار إلى ما هو عليه بمحض لمسة من طفلها، من إبهامه الوردي. كتبت في دفتر يومياتها:
عليّ أولاً أن أقهر تجربتي في الكتابة كي أستطيع بعدها أن أتغلّب على مخاض الولادة."
وقالت في مكان آخر:
"سأكتب كي أتمكن من تحرير ذاتي الأعمق، ومن ثم أنجب الأطفال، وأتعمق أكثر.."
وفي نهاية الأمر، يبدو أنها كانت على حق. فأعظم أعمالها هو:"آريل"، وقد كتبته بعد أن صارت أماً.
بعد إنجابها لطفلتها بستة عشر شهراً، أنجبت طفلاً. وكان خياراً حرجاً أن تمكث في البيت لتعتني بأبنائها، إلا أنها أقدمت عليه. ومن حينه، تدبرت أمر منزلها وأسرتها، وكتبت قصائدها وقصصها. أحياناً، تتداخل عليها الأدوار، حتى تجد نفسها تخربش صفحات وصفحات في دفتر يومياتها عن تغيير الحفاضات وإعداد بسكويت الشوكولاتة.
لقد غمرت نفسها في أعمال المنزل الروتينية، تشاهد من الهامش ما يجري في عالم الأدب، دوّنت عناوين الأعمال التي صدرت في تلك الفترة وأسماء الكتاب الصاعدين والمكرّمين وقتها، وخاصة النساء منهم. لم يكن الحسد غريباً عنها، تماماً كالغضب والفزع وتدمير الذات. وربما هذا ما جعلها صادقة جداً وجعل حضورها حقيقياً ومحسوساً لزمن طويل بعد موتها. لقد كتبت بانفتاح وصفاقة أيضاً عن الرغبات الداكنة والمدلهمة التي لا حصر لها في الحياة، الرغبات التي نميزها جميعاً لكننا ندعي جهلها.
شعرت، في خضم إيقاع عاداتها اليومي المتكرر والرتيب، بالجذل والإحباط معاً، وهي تلبي واجبات الأمومة. وكان زوجها حينها قد استمر من وقت إلى آخر في حضور المناسبات الأدبية التي اعتادا على حضورها معاً. استمر في حياته كما كانت: كاتباً شعره، وموسّعاً علاقاته، ودافعاً شهرته إلى أقصى مدى. قد لا تسبب الأبوة اضطراباً هائلاً في حياة الرجل كما تفعل الأمومة في حياة المرأة. ولعل سيلفيا قد ظنّت أن الوضع الذي تعيشه كان خاصاً بها وبزوجها فقط.
وبقدر ما شكّل الأطفال مجازات في أشعارها، كانت قصائدها نفسها أطفالاً عند سيلفيا بلاث. فحين كانت تتحدث عن أعمالها التي لم تكتمل بعد، كانت تدعوها بـ:"الأطفال الذين لم يولدوا بعد"حتى أنها روت كيف أن قصائدها تبتسم لها، وكيف أن:"جباهها الصغيرة متغضنة من التركيز"، وكيف أنها تتغير كل يوم، محركة أصابع أياديها وأقدامها الصغيرة. لم تكن أماً لطفلين فحسب، ولكن لألف قصيدة.ومرّ وقتٌ كانت فيه القصائد كلها جائعة باكية، تستجدي اهتمامها وإخلاصها، ومهما حاولت لأجلها، ومهما بذلك لها ما في وسعها، فإن تلك القصائد لم تعد سعيدة أبداً.
شكّل انفصالها عن زوجها نقطة تحول مفصلية في حياتها. فبعد انكسارها العاطفي، قررت أن تتماسك مجدداً، بشكل لا يمكن قهره، فأعادت اختراع نفسها، وصارت امرأة جديدة تماماً. كانت طموحاً، موهوبة، ووحيدة. غالباً ما تبدأ يومها في الرابعة فجراً- خلال الساعة أو الساعتين اللتين تسبقان نهوض الأطفال من النوم، وتلك كانت أثمن ساعات أيامها. إن قصائدها الأكثر ألقاً قد كتبت خلال الشهور التي قضتها على ذلك الحال - مثل:"ميدوسا"و"أبتي"و"السيدة لازاروس"حيث صعقت قراءها بقولها:
"الموت فن كأي أمر آخر. وإني لأقوم به، بمنتهى الاحتراف."
على طاولة المطبخ، في دورة المياه، على السرير، تحت الأغطية، قامت بالكتابة كيفم استطاعت ومتى ما أتيحت لذلك فرصة، تُخربش بشراسة على يدها التي لا تكتب بها، تخربش بسرعة لا تصدق، وكأنها تسابق القدر، تسابق كل الرجال الذين أحبتهم مرة ولم تعد تحبهم، وتسابق كل ما تقصر عنه وتزدريه.
هناك قصيدة لها عنوانها:"طفل دون أب"، تتحدث عن أب هجر منزله وزوجته وأطفاله. مشاعر الحزن في القصيدة أشد من الضغينة، الاستسلام فيها أشد من القتال. يستطيع المرء أن يشعر بأن هناك ما تغيّر في سيلفيا. لم يكن ما خبرته شعوراً بالانتقام أو التمرد، بل كان الأسى المتصل بالأسى.. وقد كتبت عن الفراغ الذي شاع في حياة أطفالها بعد رحيل أبيهم:
"غيابٌ نَمَا داخلهم كشجرة.
وعليهم أن يعتادوا عليه."
كانت تلك المرحلة من حياتها، هي المرحلة التي ظلت تحاول خلالها أن تقوم بأكثر من واجب وأمر في وقت واحد، وأن تتفوق في كل تلك الأدوار جميعاً، وبالقدر ذاته. أم، وزوجة، وكاتبة، وشاعرة، أرادت أن تكون كل شيء مرة واحدة، وفوراً، دون أي تدرج. ربما كانت واقعة في حب مخلوقاتها، أطفالها وقصائدها. استبقت بعناد الإيمان بأنها ستكون أماً مثالية وشاعرة لا تضاهى، صارت الأم الشاعرة المكتملة. لم يكن مزجاً سهلاً، وبالأخص في أجواء الخمسينيات، عندما ظن الجميع أن على المرأة أن تختار، إما وإما. بيد أنها رفضت أن تختار.
مع ذلك، لقد أضناها الجهد لتصبح"المرأة الخارقة". لاحظت قبل وقت طويل أنها تضغط على نفسها أكثر من اللازم. لكنها حين تنجح في الوصول إلى مكان ما كانت تطمح إليه، تكتشف أنها قد سهت وتخطت آخر، وعندما تصلح شيئاً، تجد أن شيئاً آخر يتهاوى. ببطء وثبات، عرفت أنها ليست مثالية ولا مكتملة. لهذا بدأت قصيدتها:"مانكانات ميونخ"بهذا السطر:
"الكمال فظيع، لا يمكنه إنجاب الأطفال."
لهذا، قامت بدفع الأموال التي حصّلتها من الجوائز والمنح الأدبية لمدبرة منزل كي تحمل عنها بعض العناء. وحين كانت تكتب روايتها الوحيدة:"الناقوس الزجاجي"، في محاولة لتعميق اتصالها بروحها وماضيها، استحثّت، بأناة، مكامن الخوف فيها، الخوف من العقلانية ومن الشبه بآلاف الآخرين، والخوف من الجنون، من أن تكون مختلفة بشكل جذري حتى لا يعود هناك أمل من الاختلاط بالمجتمع. كتبت بالتفصيل عن الفشل الذهني، والعلاج بالصدمات الكهربائية، وعن رتابة الحياة المدنية الخانقة:
بالنسبة إلى المرء الواقف في الناقوس المقروع- منذهلاً وجامداً كطفل ميت، العالم هو الكابوس.
حين نشرت كتابها هذا في الشهر الأول من 1963م، انقسم القراء حوله، وهي نفسها انغمت بعمق من نغمة المراجعات الأدبية التي تناولته.
وهكذا، حين نفد وقودها، ولم يعد بمستطاعها القيام بالمهام المبالغ فيها التي وضعتها لنفسها، فضّلت سيلفيا الموت على أن تحيا بطريقة يمليها عليها الآخرون. الشخصية المبدعة التي كانتها، بشغفها الجامح، أرادت كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق.. لقد حاولت الانتحار مسبقاً عندما كانت في العشرين من عمرها، تناولت عدداً كبيراً من الأقراص المنومة ودخلت على إثر ذلك في غيبوبة. بيد أنها، في ذلك الوقت، أرادت الموت على يديها وأرادت أيضاً أن يتم إنقاذها. أما هذه المرة، فقد أرادت الموت وحده، أرادته هو وحسب.
كان صباحاً بارداً في الحادي عشر من الشهر الثاني لعام 1963، صباحاً يفوح مللاً ولا يحث على غير الانعزال والوحدة. وبعد أن اطمأنت على طفليها في سريريهما، وتركت لهما كفايتهما من الحليب والرغيف إلى جانبهما على الطاولة، أغلقت عليهما الباب وأقفلته. ثم ذهبت إلى المطبخ، وأطلقت الغاز من الفرن، تناولت دزينة من الأقراص المنومة، قرصاً بعد آخر. وبعد ذلك حشرت رأسها داخل الفرن، وبينما كان الغاز يتسرب نحو وجهها تماماً، استلقت في نوم أبدي. كانت في الثلاثين من عمرها وحسب.

وإلى يومنا هذا، أسطورة سيلفيا بلاث لا يمكن تجاهلها. في تركيا، قابلت عدداً ضخماً من طالبات إحدى الكليات ممن يقدّرن أعمالها إلى درجة تنظيم ليال لقراءتها جماعياً في حرم الجامعة. في أمريكا، هناك مدونة مميزة اسمها:"مجموعة اللعب مع سيلفيا بلاث". وفي ألمانيا، تحدثت مرة مع امرأة أسمت ابنتها"آرييل"حباً لها. وفي فرنسا، قابلت في منظمة عالمية للنساء سيدة أعمال سألتنا جميعاً أن نرفع نخباً لسيلفيا.
ليس هناك انتحار أدبي كتب عنه ودارت الأحاديث حوله أكثر من انتحار سيلفيا. فمنذ انتحارها، لم تتحول أية كاتبة إلى أيقونة أعلى من المكان والزمان على غرارها.
من كتاب "حليب أسود" لإليف شافاك