فتى النقد العراقي الناقد عبد الجبار عباس..حياة حافلة بالابداع والحرمان

فتى النقد العراقي الناقد عبد الجبار عباس..حياة حافلة بالابداع والحرمان

سعد جاسم
سنحاول أَن نقدم إضاءات عن حياة وادب هذا الناقد المبدع الذي عاش حياته رافضاً لكل اشكال المؤسساتية والسلطوية البغيضة؛ حيث انه لم يهادن اية سلطة ولم يتعين ولم يقبل على أَية وظيفة؛ لأنَّ هاجسه الاول والاخير كان الأَدب الحقيقي.
وقد قال عنه الناقد العراقي الكبير د. علي جواد الطاهر:

(إنهُ فتى النقد الأدبي في العراق.. وإنه الناقد الذي حاز لقب الناقد بحق..ويكفي انه وهب نفسه للنقد وحده.. ولم يشرك به عملاً آخرَ.. ولم يشغل النفس بوظيفة تقيده... فكان بذلك متفرداً بين من زاولَ النقد في العراق والوطن العربي)
وللإقتراب من حياة عبد الجبار عباس؛ نقول مستفيدين من كراس مخطوط للدكتور صباح نوري المرزوك:
لقد ولد عباس في مدينة الحله- بابل عام 1941. وهناك مَنْ يقول في عام 1942.
وقدبدأت إهتماماته الادبية عندما كان طالباً في الاعدادية. وإ نطلاقاًمن هذه الاهتمامات قرر بعد أن انهى دراسته الاعدادية؛ الدخول الى كلية الآداب – جامعة بغداد - قسم اللغة العربية.
وفي هذه الجامعة العريقة راحَ يلتهم الكتب التهاماً نهماً للاستزادة الثقافية.
وقد قيل انه قرأ مايقارب المائة كتاب في النقد الادبي في مرحلته الجامعية الثانية. وذكر عبد الجبار عباس في حديث عن مصادر ثقافته الأولى:
(لقد كان كتاب النقد الأدبي.. اصوله ومنهجه.. لسيد قطب؛ أول كتاب نقدي أقرأه؛ الى جانب مقالات ايلياالحاوي؛ التي كان ينشرها في مجلة الآداب البيروتية؛ وكتبه التي بهرتني بالنظرة الموحدة القادرة؛ بتعسف أحياناً؛ على تطبيق نظرية الشعر الرمزي الفرنسي على شعرنا القديم والمعاصر).
وبعد رحلة دراسية اتسمت بالحيوية والذكاء تخرج ناقدنا من كلية الآداب جامعة بغداد- قسم اللغة العربية عام 1964- وقد بدأ الكتابة للصفحةالأدبية لجريدة (الانباء الجديدة) ولمجلة (الكلمة).
ومن الحلة.. مدينته الأثيرة.. كتب الى مجلة الآداب البيروتية؛ فنشرت له مقالا حول (نقد قضايا الشعر المعاصر).
وفي عام 1970 إختار عبد الجبار عباس عملاً لايقيده كما تقيد الوظائف أصحابها؛ وهذا العمل هو محرر (حر) في القسم الثقافي لإذاعة بغداد؛ وذلك رغبة منه في العيش بالعاصمة بغداد.. ليكون قريبامن المكتبات والمصادر الثقافية الكثيرة والجديدة.- آنذاك.
وفي بغداد عاش حياة لا تخلو من بوهيمية؛ حيث تنقل في عدة شقق يشاركه فيها أصدقاؤه الأدباء؛ حيث سكن في عمارة في منطقة الصالحية... ثم انتقل الى بيت مقابل مدخل المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون... ومنها الى منطقة (سيد سلطان علي)
في الشارع الواصل بين شارع الخلفاء والرشيد... ثم سكن في (الشارع المشجر)
في الباب الشرقي...واذكر انناانا والاصدقاء الشعراء كمال سبتي وصلاح حسن كنا كثيرا مانستضيفه في اقسامنا الداخلية؛ في سنوات دراستنا في اكاديمية الفنون الجميلة.....
وكان ممن قاسموه السكن صديقه الشاعر
العراقي أمجد ناصر الحسون الذي يقيم منذ سنوات طويلة في (المغرب)؛ والشاعر الراحل عبد الامير جعفر.. وكان ينادم مجموعة من الأدباء الأثيرين الى نفسه ومنهم: القاص والروائي الراحل غازي العبادي والناقد الراحل محسن اطيمش.
وفي تلك الفترات عمل مع النقاد: باسم عبد الحميد حمودي ود. مالك المطلبي واحمد فياض المفرجي؛ بأرشفة (القصة العراقية) وذلك لصالح اذاعة بغداد. وقد قام بجهد نقدي متميز.
تجدر الاشارة الى ان عبدالجبار عباس ابتدأ حياته الأدبية شاعرا؛ حيث كان ينظم الشعر العمودي؛ وقد نشرت له مجلة (التضامن) التي كان يصدرها نادي التضامن العراقي في بداية الستينيات؛ قصيدة عمودية عنوانها (ضحوك الوجه). وتتويجا لشاعريته أصدر عام 1970؛ مجوعته الشعرية اليتيمة (اشواك الوردة الزرقاء). ولكنه ونتيجة لقراءاته النقدية الواسعة ولأرائه ورؤاه ومقالاته التي أخذت تجد لها أصداء في الاوساط الثقافية العراقية والعربية؛ قرر أن يتوجه توجها كليا للنقد.
يقول عبد الجبار عباس: (رأينا الدرس اللغوي والاكاديمي يأخذ من حداثة اللسانيات والأسلوبية مايسمح بخطوة جديدة نحو حفريات القصيدة الجاهلية أو سواها؛ ورأينا تراث الواقعية النقدية كي لا أقول الواقعية الاشتراكية يغتني بلمسة الانفتاح على الروافد المتنوعة في النقد والبنيوية فتزاوج بين المنجز والموروث وبين مايتواشج معه منطلقا وتوجها؛ فيمسي بالامكان الحديث عن نزعة سوسيو_ نصية أو سوسيو _ شعرية في النقد الأدبي.
وقد استطاع ناقدنا ان ينجز الاعمال النقدية التالية:
* مرايا على الطريق... عام 1971
* السياب... عام 1972
* في النقد القصصي...عام 1980
* مرايا جديدة... عام1981
* الحبكة المنغمة... صدر بعد رحيله عام 1994.
وإعترافا بجهده النقدي؛ قال عنه الناقد الراحل الدكتور علي جواد الطاهر: (عبد الجبار عباس ناقد عراقي ممتاز؛ ولاشك بالاجماع؛ ولو تهيأت له الظروف التي كنت ارجوها له وسلم من ظروف وقع تحت طائلتها؛ لكان الناقد الكبير بمعنى الكلمة).
لقد استطاع ناقدنا أن يؤسس لنقدية إنطباعية خاصة به. وقد أُخذ عليه هذا التوجه من قبل نقاد التيارات الحداثيوية فوجهوا له اتهامات شتى؛ الا أنه ادار وجهه لكل ماقيل عنه؛ وكان لايتوانى من القول (أجهر بأنني ناقد انطباعي).
ذات مرة وصف عبد الجبار عباس نفسه: (يطوي شوارع المدينة الفقيرة؛ يشد مجلة أو كتابا؛ يحاذر أن يلمحه العابرون فتجرحه كلمة انكار أو بسمة سخرية... يغرق بين سطوره؛ فينسى ضجيج الثرثرة والمذياع والدومينو في المقهى؛ حتى إذا أقبل الليل ترقب هزيعه الأخير؛
ليهدأ الزقاق وينام الأطفال؛ فيقبع في زاوية البيت؛ ويقتبس ويخط رأيا هنا أو ملاحظة هناك)
هل هناك ابلغ من هذا الوصف لحالة المثقف العراقي الذي عاش سنوات الرعب والحروب والحصارات السود والدكتاتورية المقيتة.
التي راح ضحيتها الآلاف من المثقفين العراقيين بين قتيل ومنفي ومشرد وجائع.
ومنهم: الناقد عبد الجبار عباس الذي عاش حياته معوزا ومحروما من ابسط سبل العيش التي تليق بمبدع كبير مثله.
غادر عباس عالمنا الغرائبي هذا وهو في قمة عطائه الأبداعي.. غادره مهموما ومحزونا على ماآل عليه مصير بلاد تناهبتها رياح الاوغاد والبرابرة المتوحشين.. وقد وصف الدكتور الطاهر موت عبد الجبار عباس بأنه: (فجيعة وقعت صاعقة على عارفي فضله... ولا يستنى أحد من الحزن والدهشة؛ لأمرين حملتهما الصاعقة: الشباب والنبوغ. فما كان عبد الجبار في عمر الموت المتوقع؛ لقد اضاعه قومه في حياته؛ ثم اضاعه الموت... والنقد السليم هو الخاسر)
نعم... كان لرحيل الناقد عبد الجبار عباس وقع الصاعقة في ذوات المثقفين العراقيين والعرب النبلاء.. وقد كتبت عنه عشرات المقالات الوداعية والمراثي والشهادات... وهنا نختتم سطور محبتنا ووفائنا لناقدنا وصديقنا الراحل الكبير بمقطع من قصيدة (الجب والعقرب) للشاعر العراقي المبدع موفق محمد:
(أقسم ياعبد الجبار
طيلة هذا العمر المرِّ
ومنذ عرفتك في غيابة هذا الجبِّ
لم أتبيّن وجهك
فجاءني صوتك منذ اليوم الأول مشحونا يتخثر فيه الموت
فتأبطت جراحي
قلت: اصبر ياملك الظيم
وتجرع من هذا السم قليلا
فسيأتي بعض السيارة
وسيصرخ واردهم: يابشرى
فأجاب الصمت
وتوسدنا الجب طويلا).