البصرة في اوائل القرن الماضي.. الانقلاب الدستوري بين معارضيه ومؤيديه

البصرة في اوائل القرن الماضي.. الانقلاب الدستوري بين معارضيه ومؤيديه

محمد جبار ابراهيم
كان طالب النقيب الممثل النشط لعائلة النقيب الرفاعية بالبصرة، أسرع إدراكاً للمتغيرات الجديدة التي تحتم تأييده الاتحاديين باعلانهم اعادة الدستور العثماني، فقد أتاح له وجوده في اسطنبول أثناء احداث الثورة فرصة الاطلاع على ردود افعال الاتراك، فقدر بالتالي مدى امكانية استمرار نجاحها، لذلك أعلن عن تأييده هذا لسكان البصرة في أول عمل قام به بعد عودته إليها،

ثم إنضم الى فرع”جمعية الاتحاد والترقي”الذي فتح بالبصرة أواخر العام 1908، وكثر الانتماء إليه، حتى إن رئيس الفرع كان يشكو من ضخامة عدد طلبات الانتساب التي تحول دون التفرغ لتدقيقها. كان هدف طالب النقيب من ذلك احتواء أي تغييرات يمكن ان تحمل انعكاسات سلبية على نفوذه الذي كان يرجع في القسم الاهم منه الى مدى تماسك تحالفاته بالفئات المتنفذة في جنوب العراق بصورة عامة، ومدينة البصرة بصورة خاصة، كما أنه كان على علاقات طيبة مع حليفيه الاقليميين شيخ المحمرة وشيخ الكويت، اللذين كان لهما ممتلكات بالبصرة تولى طالب النقيب الاشراف عليها وحمايتها، لذا كان يمدانه بالاموال والرجال، واحيانا بالسلاح اذا دعت الحاجة الى ذلك. لكنه حاول أن يجعل من عمله هذا ذا فائدة مضاعفة عندما حث حكومة الاتحاديين على قبول وساطته لها مع مبارك شيخ الكويت، وكان يرمي من ذلك استدراج الاتحاديين الى الاعتراف به رجل البصرة الأول، كما أنه كان بحاجة الى اسناد شيخي المحمرة والكويت أمام الانكليز الذين كان النقيب يهمه اقناعهم بالتعامل معه على أساس كونه شيخاً غير متوج، ليكون الورقة التي يمكن أن يلجأوا إليها لدفع الحكومة للتعاطي بايجابية مع خدماته المعروضة في إدارة البصرة التي لم تكن الحكومة مستعدة بان يكون ثمن ذلك على حساب هدفها بتجذير الحكم المركزي، لذلك ارسلت اسطنبول سليمان نظيف، احد رجال الاتحاديين العتاد، لولاية البصرة أواخر العام 1909، في محاولة منها لتحييد نفوذه
ولد بالبصرة سنة 1870، على الرغم من انتهازية شخصيته لكنه كان في الوقت نفسه جريئاً، تولى متصرفية لواء الاحساء التابع للبصرة سنة 1901 حتى العام 1903، ثم أصبح عضواً في مجلس شورى الدولة باسطنبول الذي استمر فيه الى ايام ثورة الاتحاديين، توفي سنة 1929.
ان طابع البصرة التجاري، وتنوع العلاقات الاقتصادية الدولية، لاسيما مع الشركات الانكليزية لتجار البصرة، قد جعل من شكل الحكم الاوليغاركي التجاري هو الاكثر انسجاما مع واقعها من أي شكل آخر. وإن هذا هو الذي يفسر لماذا كان الحكم العسكري المركزي للاتحاديين فيها أقل توفيقا من بقية المدن العراقية، خصوصاً وأنه لم يراع هذه المسألة. ولهذا أيضاً فان عائلة النقيب لم تواجه منافسة جدية في مدينة البصرة إلا من قبل إحدى أكبر العوائل التجارية البصرية، ألا وهي عائلة آل زهير القوية، ويبدو إن منافسة أصحاب المهنة الواحدة، والخوف من سطوة آل الزهير التجارية، قد دفعت بقية أهم العوائل التجارية كعائلة المنديل وباش أعيان والصانع الى إسناد طالب النقيب، وتوجيه مشاكساته نحو السلطة المركزية. والظاهر إن إنهاء وتصفية نفوذ محمد الصابونجي من قبل الاتحاديين في العام 1911، حثها أكثر على الاستمرار بموقفها هذا، والاستفادة من الغطاء الذي قدمه لها طالب النقيب. لكن فيما يخص الاخير اذا كان ما قاله ساسون حسقيل صحيحاً بان معظم أهل البصرة يكرهونه، فان تحالفاً مثل هذا كان مسألة أكثر إلحاحاً له.
سرعان ما أصبحت نتيجة الحلف واضحة في برنامج”جمعية البصرة الاصلاحية”التي أسسها طالب النقيب بتاريخ 28 شباط سنة 1913، حينما صار مطلب الحرية الاقتصادية (الليبرالية الاقتصادية) إحدى مواده التي علق عليها أعضاء الجمعية أهمية بالغة، فهي طالبت باعطاء صلاحيات واسعة للمجلس الاداري لولاية البصرة الذي سيطرت عليه الجمعية، بما في ذلك الحق في تأليف الشركات التجارية والصناعية والزراعية، واعطاء الامتيازات، وتحديد الميزانية وتأسيس غرفة تجارة وبورصة وتشجيع الصناعة وتطوير التجارة وتأسيس المصارف والمدارس الزراعية وحفر الجداول وتوزيع الحبوب واستجواب الوالي عن أي قضية، وطلب عزله عند الضرورة. وبالطبع ما كان بالامكان تفعيل هذا المطلب إلا بواسطة الادارة اللامركزية التي طالب بها أعضاء”جمعية البصرة الاصلاحية".
والواضح في هذه المادة أنها قد راعت أيضاً مصالح فئة أصحاب الأراضي الزراعية، عززتها بالمطالبة في مواد أخرى من برنامجها بحق المجلس الاداري في اجراء مسح للولاية، وتسجيل أراضيها، وتغيير شكل جباية الاعشار والضرائب، وحقه في بيع أو توزيع الأراضي الشاغرة، أو التي ابطلت سنداتها وكذلك أراضي الدولة (الميري) على العشائر. وسبق لطالب النقيب أن نشطت دعايته بين عشائر المنتفك منذ العام 1911 لمحاولة كسبها الى جانبه، حيث نجح بالفعل في استمالة مجموعة من شيوخها المتبرمين من احتكار شيوخ السعدون لسندات ملكيات الأراضي الزراعية، كما حصل على تأييد العديد من شيوخ عشائر الفرات الأوسط مثل مبدر آل فرعون وعلوان الياسري وغيرهما ممن ساءتهم طريقة مأموري الحكومة في استيفاء الرسوم والضرائب منهم، فقد كانوا يرغبون بضمان معاملة تفضيلية عند فرضها عليهم. ومما زاد الأمر سوءاً بالنسبة لهم سياسة الاتحاديين التي قامت بتجريدهم من الأراضي، ومنحها بالالتزام لغيرهم من رؤوساء العشائر، مما تسبب بسخطهم عليها.
وهكذا ان نجاح طالب النقيب في الحصول على تحالفات خطيرة في مدينة البصرة والمناطق المحيطة بها، ثم مطالبته، ولأول مرة، بان يكون الوالي عراقيا ملما بعادات وتقاليد العشائر المحلية، معناه ضمنياً أنه قدم نفسه للحكومة المركزية بوصفه المرشح الأول لولاية البصرة. وبسبب قيمة وظيفة تلك التحالفات كان من البديهي أن تحدد بنيتها الاجتماعية والاقتصادية شكل حكومة الولاية المفضلة، وطبيعة العلاقة معها، والقائمة على اساس اللامركزية الادارية والليبرالية الاقتصادية وعراقية الوالي، لكن لاجل هذا العامل تحديداً فشلت الجمعية في تحقيق نجاح مماثل بمدينة الموصل، كما ثبطها عن المحاولة في تأسيس فرع لها في بغداد، وبنظر شخصية مثل طالب النقيب تقدر قيمة العلاقات، فان هذا الثمن لم يكن قليلاً.
وفي الوقت نفسه فان التحولات التحديثية، والتي جرت بوتائر أسرع في البصرة نتيجة اتصالها المباشر بالاسواق الاوربية، لاسيما الانكليزية، سمحت لها بالتالي أن تكون تأثيرات ذلك الانفتاح واضحة فيها أكثر من بقية المدن العراقية على واقعها الاجتماعي. فالرحالة الانكليزي كوبر Cowper الذي زارها في العام 1893 لفت انتباهه إن”كل فرد تقريباً في ميناء البصرة يعرف أن يتحدث شيئاً بسيطاً باللغة الانكليزية. فنوتية البلام يتحدثون مع ربانية البواخر بانكليزية مبسطة، وموظف التلغراف وصاحب الحانوت يعرفون بضع كلمات باللغة لانكليزية”وفي العام 1910 قام النائب البغدادي إسماعيل حقي بابان في البرلمان العثماني بزيارة الى ميناء البصرة، فكتب عنها في صحيفة”طنين”التركية قائلاً :”أنى جلتّ بنظرك في البصرة يصدمك فوراً ألف شيء يرتبط بانكلترا، وتشعر مدى العمق الذي انغرست فيه مخالب النفوذ الانكليزي في لحم بلادنا. الحمالون أنفسهم كيفوا لهجتهم مع الالفاظ البحرية والتقنية الاخرى التي عربت عن الانكليزية وحرفت وصرفت”. بينما امتلكت النخبة البصرية صورة مغايرة تماماً عن نفسها، مما توضح في رأي احمد باشا الصانع احد المساندين لطالب النقيب، الذي صرح به لمس بيل في العام 1920 بانه يكره بغداد – والتي لم يزرها حتى العام المذكور – ويشجب حماقة أهلها وجهلهم، ويطري حكمة أهالي البصرة وتعقلهم، وكان يحبذ ترك العراق يغلي في الفوضى، اذا كان ذلك يعني تمسك الانكليز بالبصرة وحدها.
وباستثناء البصرة أصبحت بغداد من أنشط مدن العراق الداعية الى اللامركزية من خلال”النادي الوطني العلمي”منذ العام 1913، على الرغم من إن النادي تأسس أوائل سنة 1912 من قبل الانتلجينسيا البغدادية، غير إن شعار اللامركزية هو الذي أعطاه بريقه، ومنحه التأييد المادي والمعنوي للعديد من الشخصيات العراقية المتنفذة مثل يوسف السويدي وعيسى الجميل وعبد الرحمن الكيلاني وطالب النقيب.
ليس المهم في الصيغة التمثيلية للامركزية التي ضمنها الدستور سلفاً، ولكن في صلاحياتها الواسعة الممنوحة للمجالس الادارية للولايات التي حرصت الفئات المتنفذة على ادامة السيطرة عليها، والتي يمكن تفسيرها بانها جاءت كرد فعل تجاه مشروع الاتحاديين السياسي لتكريس”السيادة الوطنية”لاستكمال مقومات الدولة الحديثة، أو بشكل دقيق تجاه الجزء الذي يخصهم منه، المتضمن العمل على تمفصل المواطنة في قواعد الدولة لتكون المعيار الوحيد المحدد لشكل علاقتها مع أفرادها من مختلف الفئات والطوائف، وعلى أساس إن الحكم هو”احترام إرادة الشعب”، وبطلان شرعية أي حالة تمايز خارج نطاق قانون الدولة وإنْ كانت قد اصبحت عملياً تحت سيطرة السلطة التنفيذية للضباط الاتراك.
ولو حاولنا أن نفهم أكثر طبيعة فلسفة مطلب اللامركزية الادارية من خلال طروحات أحد أبرز المشاركين في صياغتها، وهو سليمان فيضي معتمد”جمعية البصرة الاصلاحية”، لتوصلنا الى إن حماية مبدأ التمايز الاجتماعي والعمل المشترك لاجل ذلك، لاحقا، على تحويلها الى سلطة هرمية محلية، الوالي العراقي رأسها والمجالس الإدارية قاعدتها، أي أن التمايز
الاجتماعي السياسي كان هو الاساس الحقيقي لوجودها. فبعد أن حدد سليمان فيضي ماهية حرية ممارسة الفرد لحقوقه حسب رأيه، وهي الحرية الشخصية والحرية المدنية والحرية السياسية التي نشرها في أحد أعداد جريدته”الايقاظ”الصادر في آب سنة 1909، حدد مفهومه للمساواة بقوله :”وهي أن يكون الغني والفقير، والكبير والصغير، والمسلم وغير المسلم في الحقوق الشخصية سواء لا فرق بينهما، وفي سائر الاحوال بمقتضى التطبيق لأصول التربية والآداب والعرف العام، ويلزم أن يعرف كل أحد مقامه". وواضح في الجملة الاخيرة دور الحرية التكييفي الذي يعتمد التراتبية الاجتماعية، لاسيما وأنه جعل أصول التربية والآداب والعرف العام المعايير المحددة لطبيعة وطريقة تفعيل مبدأ المساواة في المجتمع، مسقطاً دور القانون من حساباته. لكن هذا لم يمنع من وجود أكثر من نقطة طموحة في برنامجه، أهمها دعوته”لأن يكون كل فرد حراً بتشكيل كل نوع من أنواع الشركات المتعلقة بالتجارة والصناعة والزراعة، وليس لأحدٍ حق المعارضة، ويكون مفوضاً على فتح مكتب باسم التدريس خصوصياً كان أو عمومياً بشرط مطابقته للقانون”، أي أنه دعا الى تطبيق الحرية الاقتصادية وحرية التعليم، والتي عكست رغبات البورجوازية العراقية من الكومبرادور والملاك وفئة الانتلجينسيا العراقية معا، ولان طروحاته حافظت على اعتدالها قدر تعلق الامر بمصالح المراتب الاجتماعية العليا، أصبحت أهمها جزءا أساسياً من برنامج”جمعية البصرة الاصلاحية”، الذي كان عبارة عن وثيقة مساومة، وحل وسط لتحالف عناصره المتباينة.
إن قدرة الافكار السياسية الغربية على التعايش بين المجتمعات المتخلفة، أذن، كان يعتمد على مدى قابليتها على التماهي مع الوقائع الاجتماعية السائدة فيها، وبالذات تلك التي تثير الحساسية أكثر من غيرها.
وهكذا تبين بان كل ذلك، وغيره أيضاً، كان يعكس، دون ريب، تأثر الفكر العراقي السياسي الحديث بالتحولات التي طرأت على البنية الاجتماعية – الاقتصادية في اوآخر العهد العثماني، وتحديداً مع قيام الثورة الاتحادية سنة 1908. حتى ولو لم تسمح الثورة المذكورة إلا بسيادة الاتجاه الفكري التوفيقي، فقد كان بحد ذاته نقلة نوعية تحققت لصالح تفعيل عملية تطوير الفكر السياسي العراقي اللازم لتكوين أسس المجتمع العراقي الحديث.


عن رسالة (البنية الاجتماعية والاقتصادية
واثرها في الفكر السياسي..)