عبد الخالق الركابي.. والرواية التاريخية

عبد الخالق الركابي.. والرواية التاريخية

د. علي جواد الطاهر
الرواية التاريخية
يمكن القول إن تجربة الرواية التاريخية جديدة على العراق ولاسيما إذا أراد صاحبها ما يريده لها الناقد من درجة فنية مناسبة. وهكذا اقترن في الجديد الخطأ بالصواب وبرزت فضفضة وشاعرية زائدة، وظهر القلق في المصطلح الزمني جسمته للناظر الفترة التي اختارها الكاتب مداراً لروايته؛ فهي فترة قريبة العهد، ومنا من شهدها أو شهد استمرارها في الأقل.

ولقيت "من يفتح باب الطلسم" مع ذلك تشجيعاً، وأشاعت أملاً زاد فيه ما أبداه الكاتب من رحابة الصدر في قبول ما يجب أن يقبله من ملاحظات خدمة للمنحى الذي يريد أن يسير فيه ويتفوق به، وتنسجم هذه الرحابة ـ التي صارت نادرة في الأدباء ـ مع تكوين سليم وطموح مشروع وترفع عن المنافسة الرخيصة التي تجر إلى العجلة وتدل على السخف وتحول دون معرفة النفس؛ وتنسجم كذلك مع أمله بالأحسن والادخل بالفن الروائي تشابكاً ونقاء ومادة وتمكناً وتخلصاً من وهن هنا في اللغة ووهن هناك في التقاليد، والمهمة في الرواية التاريخية مضاعفة، فهي ـ كما يدل اسمها ـ فن وتاريخ، ولا بد من إدراك حسن للنسبة والتناسب من كل، ثم إن الكاتب فيها يبقى فناناً أكثر منها مؤرخاً.
ومضى يعمل في صمت وصبر، وتأن وتأمل، يستطلع ويطلع ويقرأ ويسترجع، ويجمع ويناقش، ويقبل ويرفض ضمن خط متمكن من نفسه يقرب أن يستحيل فلسفة.
بدأ ـ أولاً ـ بحدث بارز للعيان هو"تل الأربعين»، وهو تل له خبر، خلاصته معركة لأهله وعلى رأسهم الشيخ مطلق مع العثمانيين. وكان الشيخ مطلق من الثبات والتضحية بحيث رأى أولاده السبعة يتساقطون خارج التل ثم لحق بهم... وحين تم الانتصار للعثمانيين كان التل جَدَثاً لأربعين من العشيرة. وعرف التل بهذا الاسم وصار للاسم وقع خاص عند أهله من الاحترام والتقدير وما هو أكثر منهما.
هكذا بدأ"الراوي»، ولكنه رأى ضيقاً في المكان والزمان وأن الذي في نفسه أوسع من ذلك وأوسع، وهنا وردت على خاطره فكرة المخطوطة التي سماها"الراووق"فرآها المناسبة لطموحه وفنه؛ فاستأنف وكأن ما خطط له أو كتبه من قبل لم يكن أو أنه ملمح ينتفع به في سياق البناء الجديد. وهكذا تمر لديه الخطة بمراحل، واستغرق العمل ثلاث سنوات (29 نيسان/ أبريل1982م ـ 25كانون الثاني/ يناير 1986م)، وخطوطه تتمم خطوطاً من الرواية السابقة دون أن يكون ثنائية لها فهو ـ وبعد الملاحظات التي تلقاها وقبلها ـ عمل مستقل عما قبله يبدأ بمطلع القرن السابع عشر الميلادي، وينتهي بخلع السلطان عبد الحميد (1909) فقيام السلطان محمد رشاد (الخامس) خلفاً له على أن يفهم جيداً أن الرواية تأريخ لقرية عراقية وليس تأريخاً للدولة العثمانية، وأن الذي يدخل من تاريخ الدولة العثمانية قليل وفي حدود ما هو واقع لهم من أثر في كيان القرية العراقية (وقد يزيد منه القاص قليلاً لضرورة فنية)، وهذا القليل الذي يرد يدخل عادة في الهيكل العظمي الذي يسند اللحم ويوسع الدائرة ويومئ إلى خطر الأجنبي، ثم يلتئم المجموع ليؤدي الفكرة التي يرمي إليها الروائي مؤكداً عنصر السوء في شخص تولى أمر القرية مستظلاً بالأجنبي عابثاً في حمايته ـ والأجنبي هو الأجنبي.
رواية "الراووق"
وها هو ذا ينتهي من الرواية ويسميها"الراووق"ورضي عنها الذين اطلعوا عليها مخطوطة. ومنهم من ذهب في الرضا أبعد من غيره؛ وهي لديه في أقل ما يقال فيها إحدى أربع روايات لها الصدارة في الأدب العراقي، وغيره فرح بـأن يقرأ مثل هذا الأثر"البليغ"ولم تمض هدراً ثلاثة أرباع القرن من تاريخ الفن القصصي في العراق منها نحو ستين عاماً تخصص للمحاولة الأولى في الفن الروائي. ومنهم من لمح ـ مع رضاه ـ تأثراً ما بفن أميريكا اللاتينية ممثلاً بما ترجم لماركيز، ولكنه تأثر ما، وفي مسحة ما من سحر الراووق خاصة وعلى غير قصد وتكلف، وطبيعي أن يحصل سحر واقعي في تأريخ لقرية...
صدرت "الراووق" بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، 1986م،359ص ـ رواية مكتملة أحلّها العارفون ـ وفيهم لجنة من الخبيرين في الوزارة ـ حيث يجب من الفن الروائي العراقي، والعربي كذلك.
اختار عبد الخالق الركابي مادة رامزة لروايته قرية عراقية عربية اسمها"الهشيمة"تقع بين بدرة وزرباطية، وهي منطقة زراعية يزرع أهلها الحنطة والشعير، وينتهي إليهم عدد محدود من زراع الخضر يعرفون بالحساوية، ومن صيادي السمك يعرفون بالبربرة. والقرية واضحة في ذهن المؤلف على سبيل الواقع لأنه رآها فعلاً ورآها تصوراً فعلياً، فما هي بالمتوهمة وما هي"بالقرية الفاضلة»، ويكفي أنها ـ في عمومتها ـ أنموذج لأية قرية عراقية عربية في أرضها وسكانها وفي الفلاح والشيخ والدنيا والدين والظالم والمظلوم والخير والشر. وحين تكون كذلك يُعنى الكاتب بما هو القاسم المشترك والأساس، وما يبث الروح في الجسد. ولا بأس في أن ينقل إلى قرية معينة ما لم يكن فيها من قرية معينة أخرى. ولا يبدو عليه في هذه الحال تكلف ولا يشتد معه مشتد حساب. وليس المهم القرية ـ أية قرية تكون ـ فما هو بالمؤرخ أو الجغرافي أو الإداري، وإنما هو فنان في نفسه فكرة استمدها من الواقع ويعمل على إعادتها إلى الواقع أكثر حياة وأصفى دلالة.
إن علمه بالقرية وقد رآها وسمع عنها وروى له والده من أمرها ما روى يزيده نفاذاً، ولكنه يحمله مسؤولية التخلص من الزوائد التي صارت عزيزة عليه دون أن تعود على الفن بطائل. ويزداد العلة وتتضاعف المسؤولية عندما يكتب وقد ابتعد عنها واختلط بالمدينة. والاختلاط بالمدينة قد يجسم الفروق ويوسع أدلة الفكرة الشاملة، ولكنه يعقد الموقف ويحاول أن يندس ليشوه ويعكر وربما أحال حضرياً قروياً وقروياً حضرياً.
كل هذا صحيح، ولكن كاتباً له تجربة عبد الخالق الركابي ونفسيته لا يدع الضباب يخدع بصره ولا يترك الحبل على الغارب، وهذا هو الذي حصل، فقد نفذ إلى السر، وعرف كيف ينفي ما حقه الطرد، ويستزيد ما حقه الاحتياز شأنه شأن بنّاء ماهر لم يترك عمارته خواء ولم يترفع جديده عن قديم ثبت مفعوله على مر الزمن، فهو فنان كما هو أديب، وهو ساكن كما هو بنّاء.
جرى رخاء في لغة سليمة هي شرط في العمل الأدبي، تهيأت له ثمرة قراءات للنصوص القديمة والحديثة، العربية الأصل والمترجمة إلى العربية، وثمرة خبرات خرجت عن دائرة التدريب خروجها عن دائرة الادعاء السخيف بلغة ليست لغة، فهي لديه مفهوم ربأ بنفسه عما غالط به آخرون نفوسهم. ليست لغة الرواية شعراً، ولكنها ليست نثراً غثاً، وليست عبارة مائعة هلامية، ولكنها ليست حجراً على حجر، إنها تسير في رخاء في نسبة مع الأحداث الجزئية ضمن الحدث الكلي، وفي تناسب مع الجو العام مع مراعاة اختلاف الشخوص لدى السرد والحوار في وضعهم الاجتماعي وحالاتهم النفسية وموقعهم من الوقائع ولدى متطلبات الفن. ومن وراء هذا وهذا شيء في نفس الكاتب عليه أن يومئ إليه في دهاء خلال المزيج.
سكان القرية ـ إذن ـ قبيلة متجانسة النسب، وتبدأ الرواية بمطلق شيخ البواشق، ومطلق أهل للمدح بما له من كرم وشجاعة وعدالة وحرص أبوي على الناس والأرض. والبواشق، بواشق نسبة إلى الباشق، والباشق طير عرف آل مطلق بالبراعة في صيده. ويتصل في القرية ضمن معاشها اليومي وعاداتها مرقد السيد نور والسيد نور هو الذي افتتح الباب الأول من"الراووق"وسجل ظهور المذنّب، وللمذنّب دلالته الرمزية؛ فهو نذير الشر، وللمدفع العثماني مكان من هذا الشر، وما كان من"استشهاد"أبناء مطلق ومطلق نفسه، وأربعين كراماً احتواهم التل الذي صاروا اسماً له. والراووق المقصود دفتر كبير يسجل فيه السيد أهم الأحداث التي تمر بالعشيرة، فكأنه يستصفيها ويصفيها متنقلاً بالوراثة، وتتوالى عليه الخطوط والحواشي والتعليقات حتى يصل لدى البدء الحقيقي للرواية، إلى ذاكر القيم معاصراً لعاصي شيخ البواشق كلهم ـ بعد أن تشعبوا حمولات"أفخاذ»...
آلت المشيخة إلى عاصي حقاً عن مطلق، فسار سيرة حسنة يحفظ للفلاحين حقوقهم ويحميهم من الابتزاز، والعشيرة تقابل عدله بالطاعة والإخلاص، وهو وهي لا يأبهون بالوالي العثماني وبالسلطان الذي يعين الوالي والجلاوزة الذين ينشرهم الوالي في البلاد ليتحكموا ويتعسفوا، وواجهتهم البشعة في القرية الجباة والجندرمة.
ويحدث، كما هو الذي يحدث والمطلوب ألا يحدث، وروايتنا تاريخية لا تريد أن تخرج عن التاريخ فتجعل المجتمع مثالياً في كل شيء، يعيش فيه أبناء القبيلة يداً واحداً وقلباً واحداً، وشيوخها كلهم كرام عادلون أباة حريصون على الحوزة، والحاكم العثماني يعرف حدوده وينهض بواجبه لا يتدخل ولا يعبث ولا يستغل... ولو فعلت الرواية ذلك لسقطت تاريخياً، وإذا سقطت تاريخياً سقطت فنياً، ثم إن الذي يبدأ روايته بمذنّب ومدفع ودخيل، يضمر أمراً يتصل بالأمر من شر يضاهي الخير ويضايقه ويؤوده ويصرعه أحياناً بتجارب عاناها، ونظر في تاريخ عبر ألوف السنين نحو ألوف السنين.
وها هو الشر يذر قرنه ويدل على وجوده، ولا طريق أيسر على الشر من الاستعانة بالأجنبي والاستجابة للدخيل. ولا يخفى مثل هذا الطريق على طالب الباطل، وإذا خفي ـ فرضاً ـ على جانب أظهره جانب، وإذا لم يتنبه إليه طامع من أبناء القبيلة نبّه إليه طامعون من جلاوزة السلطنة، والطريق السهل هذا ـ لسوء الحظ ـ تأريخي لم يستطع أن يترفع عنه البشر على اختلاف الزمان والمكان، ولم يربأ دخيل بنفسه عنه حتى لو ادعى ما ادعى ولبس ما لبس.
وهكذا وقع الخلاف الجذري بين طرفين من قبيلة واحدة يعيشان على أرض واحدة في قرية واحدة يجمعهما جد واحد وفاز"آل"لباطلهم ولاعتمادهم على السلطة الباطلة، وهؤلاء"الآل"هم حمولة بيت طارش، جاء"فوزهم"على يد من سيكون رئيساً لهم (وهو فزع) بالتعاون مع السلطة العثمانية وبإيعاز منها على أمل خدمتها وتوفير ما تطلب وتلح في طلبه، وإذا قام في بقعة شيخان فسدت الأمور فكيف إذا كان الثاني"رديئاً"طموحاً يحقق مآربه بالباطل ومصافاة الدولة الحاكمة الأجنبية!!
ثم توفي الشيخ عاصي وانتقلت المشيخة الكبرى إلى فزع، وتعاظم شأن حمولته رجالا ونساء، وتضاءل آل عاصي ومضوا يتحملون الجور ومعهم صاحب الراووق: ذاكر القيم، وفيهم من يتمرد دون ثمرة ولكنه يتمرد، ويتحمل في سبيل ذلك المشاق.
ونعود... ونقول: لا توجد عشيرة بهذا الاسم، ولكنه رمز لأية عشيرة عراقية عربية فيما يجري داخلها وفيما يمتد الداخل منها إلى الخارج أو ما يمتد من الخارج عليها من الداخل، ومثل العشيرة والقرية ما هو أكبر منهما وأوسع، في مكان معين وكل مكان. والسلطة هنا هي الدولة العثمانية تمتد حتى أخريات عمرها... حين بدأت الحركات التحررية من ربقة السلاطين ولاسيما عبد الحميد. ولا يقف الأمر بالمؤلف حينئذ عند المرئي والمسموع والموروث، فلا بد من العودة إلى كتب التاريخ، وقد رجع عبد الخالق الركابي وجهز نفسه بمكتبة خاصة ليربط المسموع بالمقروء، وليأخذ ويدع، وليزيد من متانة البناء صحة وتماسكاً وسكاناً وليحسن المجيء من زمن إلى زمن وكأنه غشاء أو قناع ـ أو ما سميناه غلالة ـ بقدر العودة من زمن إلى زمن وكأنه سر الأحداث الظاهرة يبقى ـ لسوء الحظ مرة أخرى ـ هو هو وفي غير مصلحة الخير وأهل الخير والمثل العليا.
وإذا كان المؤرخ المؤرخ مقيداً، فالفنان أكثر حرية وأقدر على الحركة وأولى بالتصرف والتبني والمزج وتحويل المتصور إلى واقع بحيث لا يدع قارئاً يحس بهذا التصرف، ولا يفتح لناقد باباً يجد فيه نشازاً أو"خلخلة». ويتطلب هذا من الراوي (الفنان) غير العلم بالحاضر والماضي والمسموع والمقروء: العقل التحليلي والخيال التركيبي وطول الأناة من مرور الخاطرة بالخاطر مرتبطة بما ستسكنه من بناء خريطة أولى قابلة جداً للتعديل والتبديل كلما دعت ضرورة، فإذا لم يكف"تل الأربعين"مداراً لما في النفس فليتركه على أمل استثماره، ويمر بإيجاز على الشيخ مطلق والشيخ عاصي، ويزيد ما لآل مطلق ثم عاصي من مزايا مبرزاً مكانة السيد نور ثم ذاكر القيم متخذاً من"الراووق"وسيلة ينفذ بها إلى ما يريد النفاذ إليه من فكر وما يريد أن يومئ إليه من عقلية وما يريد أن يمزج به من معاصر بتراث... مستثمراً إياه في إضفاء سحر على فنه يدفع معالم المادة إلى ما وراءها ويعكس"عقائد"لأناس بسطاء تصل بهم طيبتهم الدخول في كون يكاد يكون خرافياً. وربما التقت الخرافة بالعلم. والقرية التي اختارها الكاتب في الظروف التي مرت بها، وفي العصر الذي عاشت فيه تحتمل ذلك ولا يبدو أمر من الأمور مفتعلاً بما في ذلك ما أضافه المؤلف وإضفاء إيماء إلى الجوهر الذي التقت فيه البشرية خلال تاريخ يمتد طويلاً... ويمتد.
ومضى الشيخ الجديد"فزع"يستمتع بالخيرات هو ومن حوله من رجال ونساء ويعلو قدح زوجته (فدعة) على قدح زوجة عاصي (طليعة)... ويتمرد من آل عاصي من يتمرد بالأسلوب المستطاع ويبقى ذاكر القيم مخلصاً لهم إخلاصه للعدالة، ويرجع إلى راووقه بين حين وحين يقرأ ويستعيد ويتبصر مرة، ويخط مرة وهو على الغاية من التألم لما يجري وعلى الغاية من الثقة بما يستنبط ـ وكأن المؤلف يتبناه أحياناً دون دليل على التبني ـ وللراووق مكان السحر من الرواية ـ وقل من الأحداث ـ فهو يزيد في جلال الموقف ويبعث على الاهتمام، فهو عنصر فني عال ومن سر سحره انسجامه التام مع الواقع. وربما تمنى القارئ زيادة في إطلالات ذاكر القيم، ولكن المؤلف يتركه عند التمني خشية الوقوع في الافتعال. ولم يكن الراووق أو سحر الراووق في الأقل واقعاً في التاريخ والأحداث وإنما صنعه القاص بمهارة فبدا وكأنه أصل من أصول القبيلة شأنه في ذلك شأن مواد كثيرة تعود إلى الفن أولاً، أي إلى واقعية في مخيلة الراوي.
مضى الشيخ الجديد ـ إذن ـ يستمتع هو وآله بالجاه مستنداً إلى السلطان الأجنبي الجائر وبأية وسيلة تبرر الغاية من النفوذ والكسب والسيطرة وإيذاء بني عمه الأدنين بل بما يحمل به أخته (ليرة) على الزواج من فرهود... وبمقدار ما يخدم به السلطان الجائر وجلاوزته وما يقدم إليهم من ضرائب يبتزها من بني قومه، وبما يجهزهم من شباب يجندهم قسراً ليذهبوا طعمة لحروب خاسرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولم يكن أمر أثقل على آل عاصي من أن يعزم فزع وينفذ عزمه في بناء قلعة على"تل الأربعين"أي على أجداث الأجداد الذين ضحوا بأرواحهم ليدفعوا عن التربة الأجنبي وجوره.
ويبقى الصراع في السر والعلن، فما كان آل عاصي بمن يستسلم إلى أبعد الحدود، وما كان شر الشيخ الجديد بمأمن تام من ملاحقات الخير في حدود محدودة من مستطاع آل عاصي يتميز بها الشخوص جيداً هنا وهناك بمعالم تمنح الرواية قوة يتداخل خلالها ذاكر القيم وراووقه بما يزيد القوة قوة. للصراع مكانه في الرواية لمكانه من الواقع والتاريخ والإنسان، والرواية تزداد رواء بهذا الصراع دون إلحاح يجور على مسيرة الحياة اليومية ويخرجها عن الحد الكائن في التقاليد والعادات وأسباب العيش ونوازع النفوس...
ويتسع الصراع في الرواية عندما تتسع الحياة الحياة اليومية لدى امتداد شخوصها وأحداثها خارج البقعة المحدودة من مقام القبيلة المسمى"الهشيمة». وهذا الاتساع واقع جرّت إليه علاقة فزع بالسلطة العثمانية فيما يأخذ مقابل ما يعطي من مال وجنود وخضوع... وجرّت إليه مستجدات في تاريخ الدولة العثمانية نفسها ضاق أحرارها بعبد الحميد وعملوا سرّاً على إقامة دستور يقيده في الأقل إذا لم ترد فكرة الإطاحة به.
وقد حاول المؤلف أن يربط بين هذه المستجدات في التاريخ العام بالتاريخ الخاص للقرية وكأنه يقصد بهذا الربط ـ الذي رسمه فيما يبدو سلفاً ـ إلى إيضاح ما في نفسه من سوء ظن بالأجنبي عامة وبالدعوات التي تلبس لبوس الإصلاح العام في العدالة والأخوة والمساواة خاصة. وتوسل إلى ذلك ـ ومنذ رسمه الخطة ـ بوسيلة أخشى ألا تعد متينة في التاريخ إذا اكتسبت رونقاً في الفن؛ لقد ورد في الرواية ما معناه أن الشيخ الجديد (فزع) حين تسلط على القبيلة كلها وجرّ ظلمه على آل عاصي مستعيناً بالأجنبي أو مستحبباً له.. جعل ابن الشيخ السابق من زوجته الصغيرة يغادر القرية إلى بغداد للدراسة، وأنا أفهم أن يتخلص الشيخ الجديد المستبد من ابن الشيخ القديم بأية وسيلة، فهذا هو التاريخ، ولكن نزوح الولد (مانع) وحيداً وهو في الثانية عشرة من عمره إلى بغداد وللدراسة ـ ونحن في العهد العثماني ـ ثم انضمامه إلى الاتحاديين العثمانيين في سعيهم إلى الدستور والإصلاح... ما يبدو غير تاريخي جرّ إليه حرص المؤلف على ربط تاريخ القرية بتاريخ جمعية الإتحاد والترقي لبيان ما انتظره أحرار العرب من خير على يدها، ولغرض في نفسه لبيان يأسه من ثمار مثل هذه الجمعيات فيما كان ويكون. ولعله رأى في هذا الربط وهذا الهدف ما يسوغ الخروج قليلاً عن قيد التاريخ بما يضفي على السرد من بُعد وتنويع. ومن يدري فلعله ملك سنداً في الأمر، وإلا فلم نلاحظ عليه في جملة عمله ما يصدم المؤرخ أو يستفز القارئ من إدخال شاذ في قاعدة والوصول بتمرد إلى مبالغة والاضطراب بين تجريد ومباشرة. إنك معه غير ضائق بأمر من نقص أو زيادة، منسجم ترى الأحداث رأي العين و»تعيشها»، ولا بأس بجهد قليل تبذله للم الأحداث وجمع الأسماء ورؤية إلى ما وراء الحروف حيث ذاب التاريخ في الفن، ويسّرب الحاضر إلى الماضي في همس. والرواية تاريخ دون شك ـ ونكرر ـ في حدود ما تصور من حياة قرية عربية عراقية. لكن التاريخ يُطلب في كتب التاريخ ـ كما طلبه عبد الخالق الركابي نفسه ـ ولكن القرية في الرواية تاريخ وفن، والفن يجعل الأجزاء كلاً، ويحيل المواد الخامة سبيكة، وإلا استحال على الرواية أن تهيء لصاحبها صفة من النبوغ.
وفي الرواية التاريخية ـ وأية رواية ـ مفاتيح، أو مفتاح حين تقع عليه تنفذ إلى ما وراء الباب من سر في الرأي أو الرؤية أو القصد. وإذا لمحت أن الروائي ـ هنا ـ على قدر من التشاؤم تفكر في هذا المفتاح أو تبحث عنه في ضوء ما يشي بوجوده عندما تقترب من النهاية فتنبسط نفسك أولاً، كما انبسطت نفس الروائي من قبل، لما ترى من نجاح الاتحاديين في فرض مطالبهم على السلطان فإعلان الدستور (1908م) فخلع الطاغية (1909م)، ومما اتصل بذلك من انتظار خير يشمل البلاد كلها، ومنها"الهشيمة»، وقد لاحت لهذا الخير سمات، فلقد دفع الوضع الجديد الشيخ الفاسد (فزعاً) عن المشيخة وجرّده من نفوذه وأعاد الحق إلى نصابه بترشيحه ابن الشيخ القديم (مانعاً) الاتحادي مكانه، فيئس فزع من عودة الدنيا إليه ومضى يتملق الآخرين ويحاول أن يبدو خيّراً. وشرع المظلومون يتنفسون كما شرعت حالة القرية تتحسن. ولكن ذلك لم يطل فما أسرع ما عادت المياه الآسنة إلى مجاريها وعاد حكم فزع ـ ممثلاً بولده (هدّاد) ـ إلى الاستغلال والابتزاز وكأن لم يكن للسلطة الجديدة فيما آلت إليه، لدى تولي مقاليد الحكم، غنىً عن عملاء السلطة السابقة ـ ولو كان ذلك على حساب جوهر الدعوة التي أعلنوها ـ إذا كان قد بقي عرض من الجوهر. وهنا لا بد من التطرية بخيال من الواقع وبخرافة من العلم ويظهر الملا ذاكر القيم في وقته، وبيده القلم وإزاءه الراووق، ويطل المذنب ختاماً كما أطل بدءً.
وتسأل لمَ التشاؤم يا عبد الخالق الركابي؟ وقد ترى الجواب فيما انبثق لديه بعد دراسة وتأمل للتاريخ وما سيصير تاريخاً فإذا الأمر ليس عبثاً وكلاماً يلقى على عواهنه، وليست الرواية تسلية فقط، وقد تمضي أبعد من ذلك ـ مع المؤلف أو وحدك ـ إلى أن تبصر نوراً خلال الظلام، وتفاؤلاً طي التشاؤم فترى الرواية ـ التاريخ ـ عبرة لمن يعتبر، وتلمس أو تستنبط دعوة إلى بناء ينهض على أسس متينة. وعار على البشرية أن تعجز عن مثل ذلك.
قد تمضي أبعد، وقد تقف حيث وقفتك، وقد تقرأ وتمشي دون اهتمام بالمفتاح شأن قراء كثيرين... لأن أمراً مهماً يبقى أساساً هو الفن وقد يبعثك إعجابك الخاص أو العام إلى انتظار ما سيكون من مانع... والتاريخ... على ألا يقع ذلك إلا في رواية كالراووق وخطوة أخرى إلى الأمام ـ أترى عبد الخالق الركابي يحقق المنتظر؟ ننتظر.
مجلة الفيصل/ع124/ حزيران/1987.