(صفحات من سيرة لم تكتمل)

(صفحات من سيرة لم تكتمل)

عبد الخالق الركابي
في كتاب الباحث السويدي تيتز رووكي (في طفولتي) الصادر في السويد سنة 1997 – وهو في أصله أطروحة دكتوراه مكرّسة لدراسة السيرة الذاتية العربية - يذكر المراجع رمضان بسطاويسي في تقديمه ما يأتي: (تعتبر كتب السيرة من أكثر الأجناس الأدبية انتشاراً في العالم الغربي، وإنْ كان يقل حضورها لدينا، نتيجة لأن السيرة تعتمد على نوع من الكشف الذاتي،

يقوم فيه الأديب أو الكاتب أو السياسي أو المفكر بخلق العديد من الصور المتباعدة التي تلقي الضوء على شخصيته وتجربته في الحياة، ويقبل عليها القراء لأنها تضيف إلى تجربتهم تجربة وحيوات أخرى، ولأنها تقترب من الرواية كجنس أدبي تخيّلي، ذلك لأن الكاتب حين يكتب سيرته الذاتية يستحضر زماناً قد مضى، ويعيد بناء أحداثه من خلال وعيه الآني).
ونجد مصداقاً لذلك بشيوع كتب السيرة ورواجها في العالم الغربي على النقيض مما يحصل في العالم العربي: فمنذ (اعترافات القديس أغسطين) – المولود في 13 تشرين الثاني سنة 354م والمتوفى في 28 آب سنة 430م – تلاحقت كتب في السيرة والاعترافات واليوميات بات بعضها من عيون الإبداع في الغرب كما كان شأن (اعترافات جان جاك روسو) في القرن الثامن عشر، حتى إذا ما حل القرن العشرون اشتهرت كتب في هذا الاتجاه وشاعت في الأوساط الثقافية مثل كتاب (الكلمات) لسارتر، و(اللامذكرات) لمارلو، و(أشهد أني عشت) لنيرودا، و(تقرير إلى غريكو) لكزنتزاكي، و(عشت لأروي) لماركيز وغيرها.
ولم يقتصر هذا اللون الإبداعي على مجال الأدب، بل شمل كبار القادة والدبلوماسيين فضلاً عن أبرز الفنانين والمخرجين السينمائيين والممثلين الأعلام.
وعلى النقيض من ذلك نلاحظ ندرة كتب المذكرات وتأخّر شيوعها لدينا نحن العرب بسبب (التابوات) الثلاثة المعهودة: الدين والسياسة والجنس؛ ولذلك لم تظهر نماذج في هذا الاتجاه تضاهي النماذج الغربية: فعلى مستوى السيرة الأدبية ظهرت كتب قليلة مثل كتاب (الأيام) لطه حسين الذي هو مذكرات على شكل روائي، ومثل كتاب (معك) التي ألفتها زوجة طه حسين سوزان وخصت به حياتها معه. كما أن أدونيس ألف كتاباً في الاتجاه نفسه وهو (ها أنت أيها الوقت)، دون أن ننسى (ذكرياتي) للجواهري. وقد عمد عدد من المفكرين العرب إلى التأليف على المنوال نفسه كما كان شأن المفكرين عبد الرحمن بدوي وعبد الوهاب المسيري. وكان لعدد من السياسين العرب دور في كتابة مذكراتهم.
في ما يخصني شخصياً – إن جاز لي أن أقتحم هذا المجال الإبداعي بعد ذكر هؤلاء العمالقة – لم أجد في نفسي ميلاً للخوض في هذا المضمار لأسباب عديدة أبرزها كوني استثمرت شذرات من سيرتي في أغلب رواياتي حتى لم أبقِ منها ما يستحق الذكر، وكأنني تمثلت بمقولة الشاعر «يفتوشينكو»: (إن سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ماعدا ذلك فليس سوى تعليق(مع وضع كلمة (الروائي) في موضع (الشاعر).
وقد سبق لي – منذ أعوام – أن كتبت شهادة في هذا المجال ورد فيها ما يأتي:
لو لم يكن أبي أمياً لأصبح روائياً؛ فقد كان وريث تاريخ شفاهي موغل في البعد، يستطيع من خلال سير سلسلة أجداد استحالوا إلى غبار ابتكار حكايات مؤثرة، قد تكون حكاية جدي السادس عرفات من أبرزها: فعقب احتدام المعارك بين عشائر عنزة وشمر هاجر بأسرته من منطقة الفرات الأوسط، ليستقر بها بعد حياة بدوية متنقلة في منطقة بدرة الحدودية التي كانت تشذ عن أغلب مناطق العراق الأخرى بخلوها من التقاليد العشائرية المتوارثة، وهي حكاية تشكل إحدى ثيمات رواية (من يفتح باب الطلسم؟) دون أن تكون قد تقيدت بها زمنياً؛ فالهجرة الواقعية سبقت هجرة (آل غافل) المفترضة بعشرات السنين...
منذ طفولتي وجدت نفسي وسط جو عائلي تتحكم به أهواء الموتى أكثر من طموحات الأحياء: فتلك الحجرة المغلقة مات فيها جدي، وهذا التخت المركون جانباً ماتت عليه أختي، وتلك السدرة المسكونة بالأرواح زرعها عمي قبل أن يلفظ أنفاسه بأيام....ولم أرَ أمي إلا وهي في حداد دائم على موتاها، ترثيهم كلما جنحت الشمس نحو الغروب بأرق العدودات..
كان بيتاً بدائياً يعتبر فيه استبدال الفانوس (أبي نمرتين) بالقنديل، ومجمرة النحاس بموقد الطين، والجرة الخزفية بالقربة الجلدية أحداثاً على جانب كبير من الأهمية، والحق أن بيتاً على هذه الشاكلة لا يتخذ سمته الطبيعي بمعزل عن عالم الحكايات، وهنا يأتي دور أبي؛ فعند ولادتي كان قد تجاوز الخمسين من عمره - وهي مرحلة يكون المرء فيها قد أوشك على استنفاد طموحاته فأصبح يعول على ذكرياته - فكان من طقوسه الليلية سرد قصص الأجداد على مسامعنا، فضلاً عن حكايات الطناطل، والجن الذين يختفون بذكر اسم الله، والدراويش السحرة والغجر الذين يختطفون الأطفال، وكانت هناك أيضاً حكايته التي تتمحور حول شخصه هو بالذات، لم لا؟ فقد كان من أبناء ذلك الجيل الذين ولدوا أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ البقاء على قيد الحياة رغم كل تلك الحروب - دكة ابن رشيد، السفربر، ثورة العشرين، الحرب الثانية – فضلاً عن الأوبئة والمجاعات والسيول وقوانين الأسماك الكبيرة التي تأكل الأسماك الصغيرة، البقاء برغم كل تلك الكوارث يعتبر بحق ضرباً من البطولة!
علاقتي بالرواية تبدأ بتلك المرحلة، إلا أنه كان لا بد من مرور أعوام حافلة بالقراءة وكتابة الشعر وصولاً إلى امتلاك الأداة التعبيرية الكفيلة بتجسيد المشاريع المختزنة في الذاكرة...
كانت ألف ليلة وليلة- ولا تزال - أول وأهم كتاب أواظب على قراءته حتى الآن، بعدها توسعت القراءات لتشمل خليطاً غير متجانس يتوزع بين إلياذة هوميروس، وملحمة كلكامش، والكوميديا الإلهية، ودون كيشوت، وروايات دستويفسكي، وشولوخوف، وهيمنغواي، وشتاينبك، ومحفوظ، ومحمد ديب، والطيب صالح، وعشرات الروايات الأخرى العصية على الحصر... إلا أن (الصخب والعنف) تظل أبقاها مذاقاً في الذهن: فهي عمل صاعق لم أقرأ له مثيلاً غير (مئة عام من العزلة)، وعلى كل حال يبقى ماركيز تلميذاً نجيباً لفوكنر، لولاه لما أبدع عزلته!
أول رواية كتبتها كانت تحمل عنوان (الصهيل والصدى) - لاحظوا تشابه عنوانها مع الصخب والعنف - وقد بقيت مجرد مخطوطة لم ترَ النور، أعقبتها برواية (الأحفاد) التي بقيت بدورها أسيرة أدراج مكتبي... وبعد طبع مجموعة شعرية متواضعة - سيئة الطبع- نشرت (نافذة بسعة الحلم) أولى رواياتي التي تبعتها (مكابدات عبد الله العاشق) و(من يفتح باب الطلسم؟) لتستمر رواياتي حتى الوقت الحاضر الذي أصدرت فيه آخر رواياتي (ما لم تمسسه النار).
هذه الأعمال لا أحبذ الوقوف عندها في هذه العجالة فقد حظيت بدراسات نقدية عديدة، سأركز هنا على ثيمة أساسية اكتشفتها مؤخراً بعد إعادة قراءة تلك الأعمال: فبالإضافة للمناخ الفلاحي الذي يجمعها هناك ظاهرة النمو التدريجي التي اتخذت صورتها النهائية بشكل تلقائي وبمعزل عن إرادتي؛ ففي الرواية الأولى نرى بيتاً مفرداً في البرية تدور فيه الأحداث، وفي الثانية يغدو ذلك البيت قرية، فبضع قرى في الرواية الثالثة، بينما هناك مدينة عصرية كبيرة تفترش صفحات روايتي (سابع أيام الخلق)!
أصارحكم بأنني سعيد بهذا الاكتشاف، فقد تأكد لدي أنني ترسمت خطى أبي حين كان يحدثني عن بداية الاحتلال الإنكليزي للعراق.. يومها كان دون العشرين، يعيل وحده أسرة كبيرة، معتمداً في ذلك على ما تدره عليه قطعة أرض متاخمة لأراضٍ تم الاستيلاء عليها عن طريق (اللزمة)... وهنا ظهر قانون الأسماك الكبيرة والصغيرة، فقد جرت محاولات للاستحواذ على أرض أبي...
- وهل تراني استسلمت لهم؟!
كان أبي يتساءل بصوته الرنان الذي كان يتناهى لسابع بيت في الزقاق.. وبعدما يحدق ملياً في نقطة ما فوق رأسي يهز رأسه نفياً، ويسترسل في حكاية صموده، حيث وقف لهم في المحاكم نداً لا يلين...وعلى جري العادة طالت القضية وتشابكت بين تأجيل واستئناف ولجان كشف واستقصاء وتدقيق...وبقي أبي يحضر المحاكم نهاراً ليتسلل ليلاً نحو أرضه، حاملاً بيمناه (الهيم) وبيسراه (الطخماخ) فيقتلع من بساتين الأصدقاء الفسائل ليغرسها في أرضه من فوره، مطلقاً عليها الماء، حتى إذا ما مرت الأعوام وجدت المحكمة نفسها أمام الأمر الواقع: فقد غدا ابي صاحب بستان لا جدال على كونه صاحب نخلاته الفتية!... إنها حكاية كلما تذكرتها قفّ الزغب على جسدي اعتزازاً: فبستان يغرس في الليل ليس بالأمر القليل!..
تلك هي القضية إذن، ففي ضجة الأصوات المنداحة من حولك لا بد لك من أن تُسمع الآخرين صوتك الخاص، وعذراً لو بدا الأمر وكأنني سردت على مسامعكم حكاية أبي لا حكايتي أنا، فالاثنتان واحدة، لا فرق بينهما سوى أن أبي غرس النخيل في الأرض وأنا على الورق!