من ذكريات عبد العزيز القصاب.. الادارة بين بغداد وسامراء في اواخر العهد العثماني

من ذكريات عبد العزيز القصاب.. الادارة بين بغداد وسامراء في اواخر العهد العثماني

وصال عبد العزيز محمد
بعد ان أنهى دراسته الاولية في المدرسة الرشدية ببغداد هذه،اخذ عبد العزيز القصاب يتطلع لاكمال دراسته في اسطنبول، وواجه رفضاً من اخوته طالبين منه اتباع مسلك ابائه واخوته في تحصيل العلوم الدينية والعربية في بغداد، الا انه اصر على تحقيق هدفه بالذهاب الى اسطنبول التي كانت في ذلك الوقت مركزا حضاريا وفكريا متقدما

وكان الكثير من الشباب العرب يطمح الى زيارتها ومواصلة الدراسة في معاهدها، فسافر الى اسطنبول برفقة صديقه صديق مظهر. في 16حزيران1901 وكان صديق مظهر هذا قد ولد في كركوك واكمل دراسته في بغداد فنال شهادتي الرشدية والاعدادية وذهب الى اسطنبول فدخل مدرسة الحقوق وشغل عدة وظائف حقوقية إبان العهد العثماني في العراق من بينها وكالة رئاسة بلدية بغداد فحاكما لمحكمة الاستئناف في بغداد ثم تقلد عدة وظائف عدلية على عهد الحكم الوطني.
في 18 تموز 1901 وصل عبد العزيز القصاب اسطنبول بعد ان امضى في رحلته ستة وثلاثين يوما من مغادرته بغداد، وما ان وصل اليها حتى ابهرته هذه المدينة”بروعة جمالها وموقعها الجغرافي وأثارها الخالدة وقباب جوامعها الزرق المحاطة بمنائرها المدببة وتلالها المرتفعة وزحامها وضجيجها تركت في ذاكرته”صورة خلابة لم يكن لينساها طيلة حياته"، وسرعان مااخذ بالتأقلم مع هذه الانتقالة الكبيرة في حياته ظهرت اولى مؤثراتها باستبدال ملابسه التقليدية من زبون وجبة ببدلة افرنجية.
وهكذا حقق ما نفسه تطمح الى تحقيقه إذْ تخرج عبد العزيز القصاب من الكلية الملكية الشاهانية في تموز 1905.حاملا شهادتها ومفتخرا بذلك لانها ستؤهله للدخول في سلك الخدمة المدنية، وكان من زملائه الذين تخرجوا من هذه الكلية، عبد القادر بن الشيخ ظافر الذي اختير بعد تخرجه استاذا للغة العربية في جامعة كامبردج في انكلترا، واسعد البيروتي الذي عين بعد تخرجه مامورا بمعية ولاية الشام وبعد احتلال الفرنسيين لها نقل الى بيروت واختارته الدولة المحتلة وزيرا لداخلية لبنان ثم اغتيل لاسباب غير معروفة. وكان هذان الاثنان من اكثر الطلبة الذين جمعته معهما زمالة متينة في الدراسة والتحضير للامتحانات وتفرقا بعد التخرج ودامت المراسلات بينهم حتى اندلاع الحرب العالمية الاولى.

بعد تخرج عبد العزيز القصاب من المدرسة الملكية الشاهانية عام 1905 قدم طلبا لتعيينه موظفا في ولاية بغداد، فصدر امر تعيينه المرقم 77 في 11 اب 1905. موظفا في وظيفة ادارية بسيطة في قلم ولاية بغداد (قلم المكتوبـﭽي) وهي دائرة تابعة لمكتوبجي الولاية،وتقوم باجراء المكاتبات بين الولاية ومختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية.
باشر عبد العزيز القصاب عمله بشكل فعلي في يوم الاربعاء 5 تشرين الاول 1905 ورحب به والي بغداد عبد الوهاب باشا الارناؤوطي. واصدر امرا بتنسيبه للعمل مع المكتوبـﭽي طاهر بك واختص عبد العزيز القصاب في قلم المكتوبـﭽي بالمراسلات الواردة من الاداريين في اقضية بدره وسامراء والاوامر الصادرة لهم من الولاية، وكان رفاقه في قلم المكتوبـﭽي كلا من عبد الله خنده، رشيد مامو، رشيد جمعة، محمود الشاوي، عزت الفارسي، عبد الرزاق الحكيم و منير عباس يساعدونه في الاطلاع على مكاتباتهم الرسمية. ومنحه ذلك خبرة عملية في الامور الادارية، فضلا عن معلوماته النظرية التي درسها في المدرسة الشاهانية، وقد حدد راتبه الشهري بخمسمائة قرش. وكانت الليرة الذهبية تساوي مائة قرش صاغ. اي ان راتبه كان معادلا لخمس ليرات.
ولكن بعد مرور شهر من عمله في قلم المكتوبي صدر امر من نظارة المعارف يكلفه بعمل اضافي وهو قيامه بتدريس (الماكنة) اي الفيزياء و(القوزموغرافيا) أي علم الفلك في المدرسة الاعدادية براتب شهري قدره ثلاثون قرشا.
وقد استمر بتدريس هذه المادة مدّة شهر واحد كلف بعدها بتدريس مادة الكيمياء وهي المادة المفضلة لديه منذ ان درسها في كلية الطب في اسطنبول.
وفي خلال هذه المدة وبالذات في عام 1906 اصاب بغداد فيضان عظيم ارتفعت فيه مناسيب نهر الفرات مما تسبب في انكسار سدة السرية وهي سدة سميت بذلك نسبة الى والي بغداد سري باشا (1889-1890) وهي سدة انشئت لمنع تسرب مياه الفيضان إلى وادي الصقلاوية القديم. فاغرقت الجانب الغربي من بغداد. فاتخذ السكان التدابير لانقاذ جانـب الكرخ من الغرق، ومن تلك التدابير تقوية السداد بالحصران والاتربة والاخشاب. كما شكلت الحكومة لجنة برئاسة عبد الرحمن النقيب. وعينت عبد العزيز القصاب سكرتيرا لها، لتقدير اضرار الفيضان وكانت الاحصائيات التي توصلت اليها اللجنة تشير الى انهيار اكثر من مائة وخمسين دارا ووفاة سبعين شخصا، واقترحت اللجنة تقديم تعويضات للمنكوبين، وقد اقرت السلطات الرسمية في الاستانة اقتراحات اللجنة. ولكن لايوجد مايؤكد ان السلطات الرسمية قد نفذت ماورد في اقتراحات اللجنة.

تعيينه قائمقام سامراء :
بعد سنة ونصف من عمله الوظيفي في قلم المكتوبي، عينه والي بغداد ابو بكر حازم. قائمقاما لسامراء عام 1907..ترك القصاب بغداد الى سامراء مستخدما وسائل النقل المالوفة حينذاك حيث اخذته عربة سفر تجرها الخيول من بغداد الى سامراء واستغرقت هذه الرحلة من الفجر حتى المساء. وبعد وصوله الى سامراء واستقراره ذهب الى سراي الحكومة يوم 15 تشرين الاول 1907.وهنا يذكر عبد العزيز القصاب قائلا”وجدت غرفة القائمقام خالية من الاثاث، وفيها دكة وعليها مقعد صغير ملطخ بالحبر وقديمة.
وفي بداية عمله واجه عبد العزيز القصاب بعض المشكلات الملحة، منها قضية مقتل مامور جباية تفتيش الاغنام حسين افندي وهي اول قضية تعرض عليه و حدثت قبل وصوله بيوم واحد. وفي اثناء التحقيق وجد ان المامور هو من موظفي الجباية المرتشين، ارسلته الولاية مع قوة مسلحة للاشراف على تعداد الاغنام عند العشائر في منطقة سامراء لاخذ الرسوم عليها. فطلب ذلك المامور رسوم من عشيرة (البو عباس) دون ان تكون لديهم مواشٍ يدفعون عنها الرسوم وعندما رفضوا ان يدفعوا اي شئ تعرض رجال هذه العشيرة (البوعباس) للاعتداء من قبله فثاروا عليه وقتلوه مع جنديين من القوة المسلحة المصاحبة له.فقام عبد العزيز القصاب بتعقب القتلة والقى القبض عليهم وارسلهم الى بغداد تمهيدا لمحاكمتهم.
وبعد القضية السابقة تسلم عبد العزيز القصاب من مدير الجباية في القضاء طلبا يطلب فيه تعيين لجنة لتخمين الحاصلات الصيفية كالرقي والبطيخ في وقت كانت فيه المياه قد غمرت الاراضي ولم يكن هناك زرع اوحاصلات كالرقي والبطيخ.
ابرق عبد العزيز القصاب الى ولاية بغداد حول ذلك الموضوع طالبا ان يستوفي العشر فقط دون الحاصلات الصيفية ويقوم بمهمة جمع ضريبة العشر اشخاص امناء يعينون من جهته على ان لايلحقوا بالزراع أي ضرر.
وبعد ايام من قيام مدير الجباية بمهمته في جمع ضريبة العشر تبين لعبد العزيز القصاب تواطؤ هذا المدير مع مجلس الادارة في القضاء لتحقيق المغانم عن طريق ابتزاز الاموال من الزراع بطرق غير مشروعة. الا انه لم يتمكن من معاقبتهم وعزلهم واكتفى بمراقبة عملهم وحصر الموارد المتجمعة من هذه الضريبة وبذل جهدا لغرض تحقيق العدل والنزاهة الا انه لم يوفق في هذه المهمة لان تيار الفساد والرشوة والمحسوبية كانت اقوى منه.
ومثال اخر على الفساد المالي والاداري في ولايات العراق انذاك قيام مـدير الجبايـة وبدعم من قوة الخيالة من الولاية من بغداد لاستيفاء ضريبة الاغنام من عشيرة البوصكو فـي شمال تكريت. وكانت القوة بقيادة الضابط كيلان افندي لترافق مدير الجباية في مهمته. وبعد فترة عاد مدير الجباية دون ان يقدم تقريرا عما حصل وابقى تفاصيل ماجرى بينه وبين الضابط كيلان المسوؤل عن قوة الخيالة سرا.
وبعد التحقيق تبين لعبد العزيز القصاب بان مدير الجباية والضابط كانوا قد قبضوا رسوما عن اربعة عشر ألف راس من الاغنام وقد اقتسم الضابط مع المدير المبلغ وهم عازمون على تقديم تقرير عن خمسمائة راس من الغنم فقط. لذا قام عبد العزيز القصاب باستدعاء المدير واجبره على تقديم تقرير كامل. فاضطر المدير مع الضابط على جمع افراد القوة العسكرية وامرهم بارجاع الاموال المقسمة عليهم وفيما بعد قدم تقريرا صحيحا بالمبـــالغ المستوفاه. ولم يكتفي عبد العزيز القصاب بذلك بل طلب من ولاية بغداد بعزل مدير الجباية عن وظيفته ونفذت الولاية طلبه.
ومن المشكلات الاخرى التي واجهت عبد العزيز القصاب خلال مسوؤليته الادارية في سامراء احتواء الصراع بين عشيرة (البوعيسى). وعشيرة (البوعباس). وهي جزء من الصراع العشائري الذي كان من سمات العلاقات الاجتماعية العامة في المجتمع العراقي. اذ قام افراد من عشيرة البوعيسى بشراء خمسا وثلاثين بندقية يونانية من احد تجار الكويت، استعدادا منهم لقتال عشيرة البوعباس والانتقام منهم نتيجة لحادثة قديمة كانت قد وقعت بينهم. لذا قام عبد العزيز القصاب باخبار ولاية بغداد، وطلب ارسال قوة من الخيالة لجمع الاسلحة لتجنب وقوع صدام مسلح بين العشيرتين. وصلت القوة من بغداد وحاصرت بيوت عشيرة البو عيسى وتمكنت من جمع البنادق وارسلتها الى بغداد. كما احتجز بعض عناصر هذه العشيرة. وقد اعترف رؤساء البو عيسى بعد ان اطلق عبد العزيز القصاب سراحهم بخطئهم وشكروه على عمله حفاظا على ارواح الأبرياء من العشيرتين.
وبعيدا عن قضايا الضرائب والفساد الاداري امتهن بعض الناس وبسبب من الضيق وتدني الحالة المعاشية التهريب والسرقة. ومن بين هؤلاء جماعة تنتسب الى عشيرة البيجات في تكريت إذْ اعتدى قسم منهم عام 1907 على عربة وهي في طريقها الى الموصل وسلبوا كل مافيها. وعلى اثر ذلك صدر الامر بتعقبهم واسترداد المواد المنهوبة حيث امر عبد العزيز القصاب قائد الجندرمة في سامراء، عبد الرحمن افندي بجمع قوته المكونة من ثلاثين خيالا للقيام بهذه المهمة. فطالب قائد الجندرمة من رؤساء البيجات بتسليم جميع الهاربين من الخدمة العسكرية واسترداد المسروقات. ولما امتنع رؤساء البيجات عن تحقيق هذه المطالب قام قائد الجندرمة عبد الرحمن افندي الذي كان يعسكر في وسط تكريت بضرب تجمع لافراد من هذه العشيرة ووقع اشتباك مسلح قتل على اثره قائد الجندرمة عبد الرحمن افندي.
وبعد التحقيق تبين ان القتال كان نتيجة المبالغة من قبل الجندرمة في طلباتها ومضايقتها للبيجات وطردهم من المدينة. وفي نفس الوقت تلقى عبد العزيز القصاب امرا سريا من الوالي ناظم باشا بانهاء القضية بمناسبة اعلان الدستور العثماني الجديدكأشارة لدخول الدولة العثمانية والاقاليم التابعة لها عهدا جديدا وهو عهد المشروطية.
مشروع للبرق والبريد :
وفضلا عن القضايا العشائرية فان عبد العزيز القصاب قد حقق بعض الانجازات ذات الطابع الاداري خدمة لمواطني سامراء فقد سعى الى تاسيس دائرة برق وبريد لعدم وجود خدمات للبرق والبريد في سامراء. اذ كانت البرقيات والرسائل ترسل الى الكاظمية ومن هناك ترسل الى بغداد. فقدم عبد العزيز القصاب طلبا الى الولاية (بغداد)، بتاسيس دائرة برق وبريد. وقد نفذت ولاية بغداد طلبه فشرع بمد الخط وعين عزيز افندي على اثر ذلك مامورا في دائرة برق وبريد سامراء و باشر بعمله بعد ان تم الانتهاء من تاسيس تلك الدائرة في 29 تشرين الثاني 1908.
وبقي الناس يذكرون بالخير لعبد العزيز القصاب هذا الانجاز الذي يُعدُّ انجازاً كبيرا ومهما في وقته وزمانه انذاك.واستمرت خدمته في سامراء سنة وخمسة اشهر وكان يتقاضى راتبا قدره مائتان وخمسة وعشرون قرشا اعتمادا على وثيقة محفوظة عند ورثته في حين يشير عبد العزيز القصاب الى ان راتبه كان سبعمائة وخمسة وعشرون قرشا، منها مائتان وخمسون قرشا عن وكالة القائم مقامية).
وقبل تركه لمنصبه اكتسح الجراد مدينة سامراء عام 1908 حيث اتلف المزارع و النخيل وهجم الجراد على البلدة واحدث اضرار كبيرة واستمر ذلك لمدة خمسة عشر يوما. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها عبد العزيز القصاب مستعينا بالاهالي لمكافحة الجراد الاان تلك الجهود لم تؤدِ الى نتيجة تذكر.أصدرت الارادة السنية من نظارة الداخلية في اسطنبول أمراً بتعيين عبد العزيز القصاب قائمقاماً اصيلا في السماوة في 9 شباط 1909 ووصلها يوم 8 اذار 1909 في عهد والي بغداد نجم الدين منلا.


عن رسالة (عبد العزيز القصاب ودوره الاداري والسياسي)