بورتريه لمؤيد الراوي

بورتريه لمؤيد الراوي

فاطمة المحسن
“بهذه الوردة التي تسقط من يدي، قبل أن تذبل،
يأتي بستاني، بيده فأس يقطع الجذور، ثم ينثر الملح على العمر»
ثمة ما يشبه المكابدات التي تشف عن أحزان عتيقة حاول مؤيد الراوي أن يطلق سراحها في كتابه الأخير”ممالك». ومع أن رهان مؤيد أحد فرسان الستينات العراقية،

هو”الحداثة”المنددة بالعواطف والرومانسيات، فكل شعره بما فيه ديوانه”احتمالات الوضوح”يبقيه على مقربة من الضفة التي عبرها على نحو صاخب. إنه هنا في”ممالك»يقف أمام الزمن كما لو كان يمضي نحو أشواطه كلها.
إن أردنا رسم بورتريت للستينات، فسيكون الراوي في القلب منه، ومهما شحبت تلك الفترة في ذاكرة الأجيال الأدبية الجديدة، فهي تبقى علامة فارقة في تاريخ التمردات الرديكالية في الثقافة العراقية. مؤيد الذي يزم عينية ويحرك يديه في هواء خفيف كي تكتمل صورة الفتى يوم كان هناك، أبرز المتشاوفين. غير ان التشاوف سمة ذلك الزمن الذي وضع الأدب العراقي أمام مرايا النرجسيات، الذوات التي تسري في أكوانها العوالم الشعرية. لقد أدرك الستينيون حاجتهم إلى مساحة يصغون فيها إلى صراخهم خلف الأبواب. كان يطيب لمؤيد أن تكتسي قصيدة النثر لديه طابعها الخاص، ولم يكن يعبأ بما حاوله المحافظون لكسر شوكة توقه وتوق جماعته إلى التحرر من قيود كثيرة، فقد بقي شيوعياً سوريالياً، كما بريتون وصحبه، يمزج الماء بالزيت ليخرج بخلطة عجائبية. ولكنه كان يمسك بالعدم كي يصل الضفة الأخرى من الشعر. أنْ تتجاهل ما تكتب، ترميه أو تتركه وأنت تشعل سيجارتك وكأنك تحرق وقتك، أماكنك، أحلامك المؤجلة. تنتقي ما تشاء من اللحظات التي كتبت فيها، يوم قدمت بغداد من المدينة التي أصبح نبر لفظها، أقرب إلى شعار القطع مع الماضي. تستطيل الألف في مفردة”أيضاً”كي تكون كركوكلية!!
منتصف الستينات أصبح مؤيد محرراً للصفحات الثقافية، متذوقاً وناقداً للفن والأدب، متابعاً أدب الشباب الذين في عمره. وجد نفسه في قلب المد يبحر وفي رأسه مراكب أضاعت صواريها. يكتب قصيدة عنوانها”طلقة للعراق”وفيها حشود من الغضب التي تداهم سوداوية جيله:
أرض الألوان الممنوحة للقادة والجنود
أرض الجدران المرتوية بالبول
أرض الزهرة الكبيرة للمرض
أرض الكهرباء النائية عن الفزع، أرض التباعد، أرض المغفرة»
لم يخفت حضور مؤيد في الثقافة العراقية، مع رحيله إلى بيروت مطلع السبعينات، فقد غدت هذه المدينة أشد قرباً من بغداد. كان هنا وهناك، مثل عدد من أبناء جيله الذين نقلّوا الخطو بين المدينتن. وعندما انتحر ابراهيم زاير وهو على منضدته في الطريق الجديدة ببيروت، أدرك الصحب على حين فجأة، أن الموت الذي طالما كان نصاً يراود قصائدهم، غدا قدراً يترصدهم. يكتب مؤيد للشخص الثالث عندما يرسم صورة لابراهيم :
“بعصاه، في الممر المتشابك الطويل
بمنشفة عتمته يتقدم
وسط الأشياء، وسط ما يتركه غالباً
بين الراحلين في قامات مبهمة، يواجه
حربه
الخاسرة»
كتابه الأخير”ممالك”تكثيف لفاعلية الذاكرة، أو قدرة الاسترجاع، ولن يكون الماضي وحده ميدان تلك الذاكرة، بل الحاضر المرصود بقوة السرد والاستطراد”أشجار الأوهام فائضة بأعمارٍ قديمة”أو”مركونة بالبحر الساكن للزمن». ثمة ما يشبه السعي نحو ما فاته من شعر يحتكم الى توازن المنظورات في أقطاب تتباعد وتقترب من الهدف، حيث الزمان والمكان هنا وهناك، توسّطٌ بين طرفين. ستقوم تلك الثنائيات المرصودة، على مقاسات التداخل والانفصال بين الذات والآخر القرين. في قصيدة”أعمى من قرطبة”ثمة حكاية يكررها الغرباء في محطات المترو :
«أنا لم أعد أتذكر الأمكنة، لكنها أحياناً
صورة من الماضي تناديني»
أو”أنا لا أسمع الأصوات لكنني
ألتقي بها أحياناً فأسمع صوتي».
العازف الأعمى والغريب، يرى قرطبة وقد غيرت مكانها، ونفت صفاتها، حين يخاطبه الشاعر :
“هنا في المحطة الوحشية لن ترانا في الممرات الحشود،
لا تسأل عن مكاننا الأول : في رؤسنا مبضع
تكفي عداوته لنحاور بعضنا».
هذا القرين الذي يعزف دون أن يرى المصغين إليه، أو يعرف انطباعتهم، يحدث علاقة بين مدركين يقترنان في ذهن الشاعر بثيمة”التواصل”، فهو يبدو وكأنه يعزف لنفسه، في مفارقة دالة على حاجته إلى النقود، ولكنه غير مكترث بها، أو لا يستطيع أن يرى من رمى في كيسه قطعة نقد، ومن تجاوزه دون أن يعبأ بصوت غيتاره. في النص يحدث التفاعل أو التلاقي في المشاعر، فيما يسأل الشاعر عن معنى الخسارة :
“ظلمة تقودها جياد مسرعة
يسوط حوذيها العربة نحو الأفق البعيد».
لن نجد في هذا الديوان ما يدل على”سوريالية”يطيب للراوي أن ينسبها لشعره، فهو لا يكتب في سياق قريب الشبه بالتداعي العشوائي، وبعيداً عن المدرسة الفرنسية في الشعر، وهي الأكثر التصاقا بالسوريالية، تبدو قصيدته في”ممالك”واضحة المعالم، ويستغرقها الشأن السياسي، قدر ما تستدعيها المشاعر والحدوس والذكريات الشخصية. لقد احتاج نصه”في غفلة من نوح”الانتقال بين سرديات الصحف عن غرق المهاجرين العراقيين في البحر، وبين أساطير الرحيل في الحضارة الرافدينية. كما كانت قصائده عن المقابر الجماعية،تحمل نبض التجارب العراقية، ويوميات النساء المفجوعات بالفقد.
في الستينات رفضت الرقابة ديوان الشاعر الأول”رجل في غواصة”لأسباب ربما سياسية، ولكنها تذرعت بغموضه. ولو تخيلنا أية رقابة في العالم تحكم على نتاج الشاعر فنياً لاستطعنا أن ندرك كم كان شعراء البعث بعد اقلابهم الثاني، أشد بأساً من سلطتهم. لم يكتب مؤيد عن تجربته في السجن، فقد تركها في كركوك وبدأ حياة جديدة، ولكن الغائب في تلك التجربة، يظهر في منطقة يستدعي الأيديولوجي فيها الخطاب الدعوي، فإعدام محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني ينقل القول الشعري إلى السياسية مباشرة، حيث عُلّق قادة الحزب في العراق على المشانق:
“جميع انتصارتي الماضية انكسرت في أنواركَ ولم يعد لي غير الإصغاء
مخلص أنا للغاية
مثل شيوعي نابذ”
ولكنه في كتابه الأخير يراه :
“بقميص أبيض ملطّخ
يداه موثوقتان
عيناه معصوبتان
وفي رأسه
ثقب
بدم
متخثر».
يضع مؤيد في”ممالك”سيرة شعرية لحياة تقف على مقربة من السرد، تبدأ من”حارس المدينة، جليل القيسي»، ولا تنتهي ب”أناشيد الطفولة»:
“إلى صحن دارك الصخري لجأت ملائكة،
نسيها الله أو أهملها لحكمةٍ،
أخلت قلعة كركوك للجنود
يعقدون صفقة مع التاريخ، يأخذون مخالبه،
يعبرون جسر المدينة الحجري، ليوصدوا أبواب”شاطرلو».
نشر القصيدة المهداة إلى جليل القيسي قبل أن يرحل القاص الستيني الذي رفض مغادرة مدينته. غدا القيسي الشاهد الأخير على ما تبقى من ذكريات، ولكن وظيفته تتغير عندما يصبح شيفرة او كود يدل على موت المدينة او أفولها في ذاكرة الشاعر :
“يمر عليّ.
أصدقاء وغرباء، في حزم كقصب المياه
جرفتها زحافات من الماضي،
يعاتبون قلبي الذي تركته
في البراري يتجول».
مؤيد الراوي أكبر من حياة يتركها للشعر وحده، فهو الستينات مجسدة في غبش أيامها الخوالي.

هذه المادة سبق ان نشرت عام 2014 في صحيفة الرياض