مؤيد الراوي شاعر منتش بعزلته

مؤيد الراوي شاعر منتش بعزلته

باسـم فـرات
منذ سنوات وأنا أتابع الحالة الصحية للشاعر العراقي مؤيد الراوي عبر زوجته المخلصة فخرية البرزنجي، كانت حالته قلقة ولكن الزوجة المخلصة ورفيقة الدرب التي طالما حكت لي عن مؤيد الراوي الزوج والشاعر والمثقف الحسّاس والمزاجيّ، الشاعر الذي عرفته عبر جماعة كركوك الأثيرة والأقرب إلى ذائقتي الشعرية، ومؤيد الراوي -حسب ما قرأته- كان صاحب الحضور الواضح ضمن هذه الجماعة بكركوك في نهاية الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.

حين انتقل شعراء جماعة كركوك إلى بغداد، كان الشعراء البغداديون والذين سبقوهم بالوصول إلى بغداد، يطلقون عليهم جماعة"التركمان"لم يكن مصطلح"جماعة كركوك"شائعا، وثمة مَن رفض المصطلح وادّعى أنه جدّ متأخر. إن السبب في إطلاق لقب"التركمان"على شعراء ألقاب بعضهم عربية، وآخرون أسماؤهم تدلّ على سريانيتهم، لأن مدينة كركوك كانت حتى الستينات من القرن العشرين بغالبية تركمانية، التركمان الذين أتى بهم المعتصم ثم تكاثروا بعد الغزو السلجوقي (سنة 1055 ميلادية)، لتتحول مدينة عربخا (كركوك) بمرور الوقت إلى مدينة بغالبية تركمانية بعد أن كان السريان والعرب قوام أهلها، وكان ريفها مصيفا لبني شيبان.

جماعة التركمان منها أنور الغساني وجليل القيسي وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي، والأخير من السادة الأشراف، عمّه من رجالات الثورة العربية الكبرى ومؤسسي الحكم الوطني في العراق، حسبما ذكرته لي زوجته السيدة فخرية البرزنجي، وكان سبب سؤالي أن شخصا من أدباء العراق وباحثيه، أخبرني بشيء من الاعتداد والغرور أن مؤيد الراوي تركماني، وزعم أن انتسابه إلى العرب ادّعاء، فاتصلت بزوجة الراحل وأبدت استهجانها لهذا الكلام، مؤكدة ما سمعته من مؤيد الراوي ومنها سابقا.

مؤيد الراوي الذي ناضل من أجل عراق يسع الجميع، حين تحدّث أحد أقرب المقربين إليه من الشعراء العراقيين غير العرب ضدّ العرب في العراق ومرددا جملة لا تليق بشاعر في مثل قامته أن يفكر بها لا أن يقولها، ألا وهي"العرب سبب خراب العراق فليخرجوا من وطننا"جاء ردّ الشاعر مؤيد الراوي بكل صلابة الماسك بجمرة مبادئه"أنا عربي"تأكيد الشاعر لعروبته في هذا الموقف يبرهن أن مؤيد الراوي المناضل اليساري المؤمن بحقوق الأقليات وحق الاختلاف والحفاظ على الخصوصيات الثقافية لفئات العراق جميعها، نضاله ضدّ التطرف والتعصب والإلغاء والإقصاء وكل أشكال التمييز والعنصرية.

كان مؤيّد الراوي من الشعراء المتفردين في جيل الستينات العراقي، وقبل وفاة سركون بولص بسنة تقريبا، كان الراوي محور حديثنا في مكالمة هاتفية استغرقت أكثر من ساعة ونصف، كنت في هيروشيما، وسركون بولص في مستقره الأميركيّ، نتحاور حول تجربة شاعر يعيش في برلين منذ أكثر من ربع قرن، وجدت سركون يدافع عن تجربة صديقه أمام كل سؤال يصدر مني، كنت أورد الأسئلة لأتعلم من شاعر أعتقد أن تجربته الشعرية هي الأقرب إلى ذائقتي، عبر سركون بولص علمت أن مؤيد الراوي لديه نتاج واضح لكنه غير منشور، وأن سركون بولص يلحّ عليه لنشره في كتاب، وتحقق هذا الأمر بعد مدة، إذ صدر الكتاب تحت عنوان"ممالك".
الشاعر العراقي مؤيد الراوي من أهم شعراء الحداثة وقصيدة النثر العراقية عاش بعيدا عن الأضواء
بعد هذا الحديث مع سركون بولص، علمت من مؤيد الراوي نفسه، أنه يهتم بتنقيح القصيدة كثيرا، وقال لي بالحرف الواحد"إنني أكتب القصيدة مثل معمار، أدقّق في ما أكتب وأنقّح كثيرا، وبين فترة وأخرى أعود إليها لأحذف كلمة هنا وجملة هناك".
ثمة أسماء لا تحبّ الأضواء، أو أنها لا تجيد التسويق لأنفسها، وبعضها بسبب عدم حضورها المستمر في الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، حيث كان ذلك سببا رئيسيا لبقائها في الظلّ، وما يميز الشاعر الراحل أنه كان منتشٍ بعزلته، لا يحبّ الأضواء، ولا يجيد التسويق لنفسه، ولا يهمّه هذا الأمر أصلا، وعلى الرغم من أنه بدأ حياته صحفيّا، وعمل في بيروت في الصحافة الفلسطينية، وجاءت هجرته إلى ألمانيا (برلين) لأن النظام وضعه في قائمة الاغتيالات، وبنصيحة من ياسر عرفات حسب ما أخبرتني به زوجته، تركوا بيروت إلى ألمانيا (الشرقية)، ولم يعرف له نشاط بالصحافة، مثله مثل كثيرين ممن هاجروا إلى بلدان اللجوء، لا سيما والصحافة العربية كانت متركّزة في لندن وباريس، ثم تَركّزت بعد ذلك في لندن، وهذا عامل مساعد في تنائي عدد كبير من الشعراء والأدباء العراقيين عن الصحافة.
مؤيد الراوي، شاعر لا يغفل دوره، وجيله حسبما أعتقد هو الأهم في العراق، أكثر من خمسين شاعرا وناقدا وقاصّا وروائيّا لم يتوقفوا عن العطاء إلا مع الموت، معظم الأجيال التي جاءت بعدهم، نصف مبدعي الجيل، وهج إبداعهم يخفت بعد سن الأربعين ومعظمهم يكاد يصمت أو يتحول إلى الصحافة أو الوظيفة الأكاديمية وهو لم يبلغ الخمسين إن لم يكن لم يبلغ الأربعين، إلاّ جيل الستينات العراقي. الموت فقط أوقف تدفق إبداع سركون بولص وحسين عبداللطيف ومحمود جنداري وأنور الغساني والأب يوسف سعيد ويوسف الحيدري وجليل القيسي ومحيي الدين زنكَنة ووليد جمعة ومحمد الجزائري وسواهم، وأخيرا الشاعر مؤيد الراوي.

عن الحوار المتمدن