في 29 كانون  الاول 1955  الأميرة جليله وقصة انتحارها المفجع عام 1955

في 29 كانون الاول 1955 الأميرة جليله وقصة انتحارها المفجع عام 1955

نهلة نعيم عبد العالي
في التاسع والعشرين من كانون الأول من عام 1955، أعلن عن وفاة إحدى أميرات الأسرة المالكة في العراق انتحارا، وكانت تلك من الحوادث التي هزت المجتمع لغرابتها وسببا لتقولات عديدة أطلقها خصوم النظام، وعلى وجه التحديد على الأمير عبد الإله شقيق الأميرة المنتحرة.

كانت الأميرة جليلة أصغر بنات الملك علي بن الحسين شقيق الملك فيصل الأول، وقد ولدت عام 1922، وانتقلت مع أسرتها إلى بغداد بعد انتهاء العهد الهاشمي في الحجاز، وتزوجت في عام 1947 من ابن خالها الشريف حازم بن سالم بن عبد الإله، وكان أكبر منها بستة عشر عاما.
وتذكر شقيقتها الأميرة بديعة في مذكراتها المنشورة باسم (وريثة العروش) أن زواج جليلة كان قلقا، وبعد عودتها مع زوجها من فرنسا في السنة الأولى لزواجها، بدأت حالتها النفسية والصحية تتراجع، وقيل إن حالات غير طبيعية ووساوس كانت تداهمها بين حين وآخر ولا تعرف أسبابها، وفي مساء يوم 29 من كانون الأول 1955 سكبت النفط على نفسها وأحرقتها في حمام البيت،على الرغم من المراقبة المستمرة لها. وشيع جثمانها إلى المقبرة الملكية في الأعظمية، وأقيمت الفواتح على روحها في عدد من المدن العراقية، وأعلن الحداد من قبل الحكومة والبلاط الملكي مدة ثلاثة أيام. اخترنا بهذه المناسبة هذا المقال عن رسالة مهمة عن سيدات الاسرة المالكة في العراق.

ولدت الاميرة جليلة في مكة المكرمة عام 1922، وكان والدها الملك علي عاهل الحجاز في ذلك الوقت قد شغل منصب أمانة المدينة المنورة وقائد الجيوش الحجازية فكان بحكم منصبه يتنقل من مدينة الى أخرى، وقد أسماها جدها الملك حسين جليلة الشرف بحضور قاضي القضاة آنذاك الشيخ عبدالله السراج والعلامة الشيخ ياسين بسيوني أحد كبار علماء المسجد الحرام والشيخ عبدالله الشبيبي سادن الكعبة الشريفة. وتربت مع شقيقاتها الأميرات وشقيقها الأمير عبدالإله وهي الأصغر بينهم.
سافرت مع عائلتها الى شرق الأردن في أواخر عام 1924 مكثت هناك مدة سنة ونصف خلال الحرب الحجازية النجدية. حينما لبى والدها الملك علي دعوة شقيقه الملك فيصل الأول بالمجيء الى بغداد مع عدد كبير من الشخصيات على أثر سقوط جده بأيدي آل سعود، جاءت الأميرة جليله الى العراق مع والدها وعائلتها عام 1926 ومكثت في العراق مع أفراد أسرتها، كانت أصغر خالات الملك فيصل الثاني وأدقهن عودا، كريمة وحنون مع صديقاتها وحاشيتها وكل من يحيط بها من أفراد العائلة، وكان عمها الملك فيصل الأول يحبها وكذلك أبنه الملك غازي فقد كان يحضر في بعض الأحيان تلقيها بعض الدروس على يد معلمة كانت تعطيها دروسا ً في الموسيقى، وكان يقدم لها الهدايا تشجيعا ً لها، وعندما سافرت عائلتها الى أوربا للأصطياف إستبقاها الملك غازي في بغداد وسكنت معه في قصر الزهور.
سكنت الملكة نفيسة وبناتها في بيت يعود لأحد اليهود في الباب الشرقي وظلوا فيه نحو سنتين ونصف، أنتقلوا بعدها الى قصر آغا جعفر وهو من وجهاء البصره في كرادة مريم، يقع على نهر دجلة وأطلق عليه العامة قصر الملك علي وهو عبارة عن بيتين متلاصقين أحدهما للنساء سكنت فيه الملكة نفيسة وبناتها والآخر للرجال شغله الملك علي وأثثه بنفسه، وبعد وفاته في 14 شباط عام 1935 أنتقلت العائلة الى دور السكك. و كان الوضع في العراق بالنسبة للملكة نفيسه صعبا ً في بداية الأمر فقد شعرت أنها أقل أهمية بالنسبة لعائلة الملك فيصل الأول الأخ الأصغر لزوجها الملك علي لاسيما وأن معيشتهم كانت على حساب الملك فيصل الذي يقوم بأعالة كل أفراد العائلة المالكة. ولكن بعد زواج أبنتها عاليه من الملك غازي شعرت الملكة نفيسة بأرتياح كبير، لاسيما بعد أن أنجبت الملكة عاليه ولدها فيصل الثاني. وقد أهدى الملك غازي قطعة أرض قريبة من قصر الزهور لبناء قصرهم الذي سمي قصرالرحاب نسبة الى قصرلأجداد العائلة المالكة بني في قرية تحمل الأسم نفسه في الطائف، وبعد تولي الأمير عبدالإله وصاية العرش عام 1939 أزدادت سعادة الملكة نفيسة فأصبحت هي وأبنتها الملكة عالية المرأتين البارزتين في العراق، وقد أسهمت في الكثير من الأعمال الخيرية
أما بنات الملك علي فقد أدخلن في البداية مدرسة الأطفال في الباب الشرقي ولكنهن أنقطعن عنها بعد مدة، وقررت والدتهن الملكة نفيسه أرسالهن الى المدارس الأمريكية في بغداد لتعلم اللغة الأنكليزية. ولما كان من شروط هذه المدارس قراءة الأنجيل قررت والدتهن لهذا السبب عدم أرسالهن الى هذه المدارس، وأقتداءً بتجربة الملك فيصل قرر شقيقه الملك علي فتح صف لكريماته وكانت الملكة عاليه في مقدمة اللواتي أقبلن على الدراسة، وقد سبق للملكة عاليه أن تعلمت على يد الشيخ ياسين بسيوني القراءة وحفظ القرآن كما تكلفت سيدة تركية بتعليمها اللغة التركية قراءة وكتابة وعندما كانت في الشام أدخلها عمها الملك فيصل الأول مدارس البنات في دمشق وفي العراق تولت مهمة تدريسها الست أمت السعيد اللغة العربية. لم يقتصر تعليم الأميرات داخل المنازل بل أدخل الملك علي كريماته الأميرة بديعه والأميرة جليله في المدرسة المركزية للبنات للأنضمام الى الفتيات العراقيات وقد كـُن من المواظبات على الحضور الى المدرسة، ولم تتمكن الأميرات من الحصول على التعليم الكافي حيث لم يتعد تعليمهن ما يمكن الحصول عليه في المدارس من القراءة والكتابة.
كانت الأميرة جليله كثيرة الحركة في طفولتها، كما دربها والدها الملك علي على الفروسية بنفسه وعلمها صفات المرأة العربية). وعندما كبرت أخذت تنكمش وتنطوي على نفسها وغالبا ً ما تتجنب مقابلة الزوار والأصدقاء، ولكثرة قراءتها وإطلاعها على القصص البوليسية، أصبحت تصرفاتها غريبة. ففي بعض الأحيان تتسلل من الشباك مقلدة ما في الروايات والقصص.
تزوجت الأميرة جليله عام 1946 من أبن خالها الشريف حازم بن سالم بن عبدالله الذي عاش أكثر حياته في أسطنبول طبيبا ً ممارسا ً وكان يكبرها بنحو ستة عشر عاماً، وجرى زفافها في احتفال مهيب أذ أقيمت لها مأدبة كبرى في بهو أمانة العاصمة، وجهت فيها دعوة الى مائة سيدة عراقية وما يقرب من سبعين سيدة أجنبية وكانت تلك الحفلة بأمر من شقيقها الأمير عبدالإله، كما أقامت الملكة عاليه حفلاً مماثلاً لها في قصر الزهور.
وقد تعرض هذا الزواج لأنتقادات شديدة وذلك لفارق السن بينهما وتصور الكثير من الناس بأن عائلتها أجبرتها على هذا الزواج وأستمر زواجها ثمانية أعوام لم تكن فيها الأميرة جليله سعيدة فقد كان زوجها أنانيا ً ولا يحبذ خروجها من المنزل، وكان شديد الحرص على صحته، وقد سألها شقيقها الأمير عبد الإله أن كانت ترغب في الأنفصال عن زوجها لكنها رفضت خوفا ً من أن تنشر الصحف خبر طلاقها لأنها تكره البلاغات الرسمية، لاسيما بعد مرض الملكة عاليه فقد كانت الصحف تنشر يوميا ًاخباراً عن وضعها الصحي.
رافقت الأميرة جليله في عام 1947 شقيقتها الملكة عاليه الى لندن بطلب من الملكة عاليه عندما كانت تسكن في لندن بالقرب من أبنها الملك فيصل الثاني
في أثناء دراسته، وبقيت معها حتى ألم بها المرض وعادت الى بغداد. فكانت شديدة التعلق بالملكة عاليه، لم تفارقها حتى في زيارتها الى المدينة المنورة عام 1950).أصيبت الأميرة جليله بعد عودتها من باريس عام 1947 بإلتهاب في الرحم فأجريت لها عملية جراحية منعت فيها من الحمل فبدأت حالتها النفسية والصحية تزداد سوءا ً فأصيبت بلوثة عقلية، وقد نصح الأطباء ذويها بأن يراقبوا سلوكها وتحركاتها خشية عليها من الأنتحار أو قتل غيرها لهذا أحتاطوا للأمر ووضعوا قضباناً حديدية على شبابيك حجرتها وكانت هادئة مستسلمة وعلى ثغرها أبتسامة جامدة، وعندما ماتت الملكة عاليه عام 1950 قالت لأختها الأميرة بديعة بأنها تتمنى أن تبكي عليها لكنها لا تستطيع ذلك لعدم شعورها بأي ألم تجاهها.
بعد أن أخذت حالة الأميرة جليله تتدهور بشكل خطير وضعت عائلتها أحدى الخادمات لمراقبة تصرفاتها وقد أنهت حياتها عام 1955 بحرق نفسها بمدفأة الحمام وعندما جاء أفراد عائلتها وجدوها تتمشى في الصالة بجسد محترق ماعدا وجهها وقد سألها الأمير عبدالإله لماذا فعلت هذا بنفسك فكانت أجابتها مبهمة بأن أحداً ما قال لها بأن تحرق نفسها، فقد كانت تتخيل اموراً ما فضلاً عما يجتاحها من وساوس في رأسها كما تتصور بأن هناك أصواتاً تناديها من مكان بعيد لم تستطع التخلص منها كما كانت تشعر بأن أنقلابا ً سيقع في العراق وكانت تؤشر بيدها الى جهة الغرب قائلة”أنهم سيأتون من هناك ليقتلونا كلنا”.
توفيت الأميرة بعد أن نقلت الى المستشفى، وفي اليوم نفسه أذاعت رئاسة التشريفات الملكية نبأ وفاتها، وقررت الحكومة أعلان الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام، وفي صباح اليوم التالي وعلى وفق المنهاج الرسمي الذي أعد لتشييعها تقدمت مجموعة من المشيعين وفي مقدمتهم الملك فيصل الثاني وشقيقها عبدالإله ورئيس الوزراء نوري السعيد وعدد من الوزراء.
وعن حادثة وفاة الأميرة جليله وملابساتها ذكر بعضهم أن وفاتها لم تكن حالة إنتحار فقد تحدث سامي عبدالقادر مرافق الملك غازي عن تلك الحادثة قائلا”بأن الملكة عاليه قد تركت وصية عند أختها الأميرة جليله محذرة ولدها الملك فيصل من نوايا خاله الأمير عبدالإله وقد أخفت الأميرة جليله هذه الوصية مدة طويلة خوفا ً على الملك الصغير ولما بلغ الملك السن القانوني عام 1953 وحان وقت تتويجه ملكا دستورياً ً على العراق حاول الأمير عبدالإله أن يماطل في تسليمه العرش ومنحه المهام الدستورية فحدث نقاش طويل بينهما تلقى فيه الملك صفعة من خاله وعندما وجدت الأميرة بأن الأمور قد وصلت الى هذا الحد سارعت للوقوف الى جانب الملك وسلمته آنذاك الوصية التي كان مضمونها أن أحذر خالك عبدالإله يا فيصل، ولما علم الوصي بمضمونها، وبأن الأميرة جليله وقفت الى جانب ابن أختها وفوتت الفرصة عليه، ظل يحقد على أخته جليله، وبعد مرورمدة من الزمن أذيع بأن الأميرة جليله أحترقت وماتت متأثرة بحروقها، وقال البعض بأن شقيقها قد دبر الحادث أنتقاما ً منها لأنها لم تعطه الوصية”.
وهذه رواية ضعيفة فالملك فيصل الثاني تسلم المهام الدستورية في الخامس من مايس عام 1953والأميرة جليلة أنتحرت بعد عامين ونصف. وقد أكد فؤاد عارف نفيه القاطع لهذه الرواية بأنه لو كانت هناك وصية بالفعل لقامت الملكة عاليه بتسليمها
شقيقتها الأميرةعبديه التي كانت مربية الملك فيصل وكانت بمثابة والدته وكانت الملكة عاليه قد أوصتها بالعناية به قبل وفاتها وكانت كبرى بنات الملك علي.
وأكدت السيدة لميس محمود صبحي الدفتري أن الأميرة جليله مصابة بلوثة عقلية فكيف تؤتمن على هكذا وصية. وأضافت بأن الأمير عبدالإله كان يحب شقيقاته ويحترمهن وحاول تطليق الأميرة جليله عندما أكتشف بأنها غير سعيدة لكنها رفضت ذلك.

عن رسالة (سيدات البلاط الملكي..)