من تاريخ الموسيقى والغناء العراقي..صراع حاد بين القندرجي والقبانجي لزعامة قراءة المقام

من تاريخ الموسيقى والغناء العراقي..صراع حاد بين القندرجي والقبانجي لزعامة قراءة المقام

حسين الاعظمي
كان المغنون المقاميون الابداعيون المتميزون في غنائهم للمقام العراقي , احـــد الاسباب الرئيسة في ظهور الطرق الغنائية الكبيرة في الغناء المقامي الدنيوي.. اضافة الى ان بروز التيارات الجمالية وتأثيرها على الواقع الادائي وتكوين تيارات ادائية غنائية جماعية , من شأنها ان تساعد على ظهور مغنين كبار يشار لهم بالبنان ,

فقد حاول العديد من المغنين والعازفين على الآلات الموسيقية التراثية (الجالغي البغدادي) 1* الجوزة 2*والسنطور 3* كآلتين موسيقيتين تراثيتين , تحسُّسْ طريقهم للوصول الى لغة اسلوبية اصيلة يؤدون بها , لغة اسلوبية يحسُّون انها لغتهم الغنائية الخاصة.. إلا أنهم لم يتمكنوا كلهم من الوصول لهذا الهدف سوى البعض منهم ممن استطاع تأسيس طريقة انفرادية جديدة تبعها اكثرية المغنين الآخرين , وبذلك فإننا لم نزل حتى هذا الحين نعيش حالة (عبادة الفنان الفرد) كما يعبَّر عنها في الكتابات الاكاديمية المختلفة , أي ان هناك رمزا غنائيا ابداعيا يتميز بطريقته والغالبية يتبعوه متأثرين به , وقد يظهر اكثر من رمز غنائي في فترة متقاربة.
لقد حاول الجميع تنظيم لغة اسلوبية منفردة لهم في محاولة لوضع الاسس لغناء وطني اصيل.. ولقد كانت اداءاتهم الغنائية للمقام العراقي.. تحسنا كبيرا في مجالات اللغة الاسلوبية الكلاسيكية الحديثة التي ورثوها.. إلا أن محاولاتهم لم تكن كلها واعية بالقدر المطلوب , بالرغم من محاولاتهم بجهود اكبر , تقليد لغة اسلوبية لم يعرفوا التحدث عنها بصورة وافية , وبالنتيجة اصبح غناؤهم في معظمه تقليد , ولم يعبِّر سوى القليل عن شخصياتهم الحقيقية..

على الاجمال , فإن المقام العراقي الذي تمَّت تأديته في القرن العشرين , يدين بالفضل الكبير لغناء واساليب القرن التاسع عشر , واستطاعت حقبة التحول تتبع العديد من مظاهر القلق والحد منها , على انه من الواجب ان لا نغفل , من ان معظم مغني المقام العراقي المعاصرين لهذه الحقبة كانوا قد ولدوا او نشأوا وتعلموا الشكل المقامي وامتلكوا مضامينه التعبيرية من القرن التاسع عشر , وهذا يدلنا الى حقيقة , هي ان الاصول المقامية ومضامينها التعبيرية عميقة في احاسيسهم ومشاعرهم , اضافة الى ذلك لم تتغير معظم المواضيع الرئيسة والاساســية في غناء وموسيقى العراق التراثية تغيُّرا جذريا , ولكن جرت محاولات لدراستها والاهتمام بها , مما يؤكد لنا وجود العادات الفكرية المتأصلة الخاصة بالشعب العراقي , ولا يمكننا تفهُّم هذا الغناء وهذه الموسيقى التراثية في القرن العشرين تفهُّما كاملاً... بدون ان نلقي نظرة ولو سريعة على الفترة التي سبقته..

محاولات الموصلي وغيره
على الكـتَّاب والمؤلفين والمغنين والعازفين إذن , أن يحاولوا تنقيح التاريخ في محاولة اخرى لتوكيد تراث البلاد الطبيعي , خاصة وقد برز تيار وطني جامح في هذا المنحى وبرعاية فنان عبقري فرد هو الموسيقار الملا عثمان الموصلي (1852هـ1923م) الذي دعى الى تنقية التراث وتنقيحه , فكان اول البادئين بذلك , فإذا كان لبلدنا شخصية وتراث , فإننا نجدها ليس في تعابيرنا الرافضة للفترة المظلمة ذات القرون الســـبعة فحسب.. بل في اكتشاف واستنطاق ازمات ما قبل هولاكو والمغول..
بصورة عامة , استدعى النقاش , لاكتشاف وتوكيد الشخصية , شخصية المجتمع ,شخصية الامة , الشخصية الوطنية.. محاولات قام بها الكثير من الكتَّاب والمؤلفين المقاميين , اضافة الى المغنين والعازفين ومن يعنيهم المقام العراقي بصورة مباشرة , فبالنسبة الى هؤلاء في القرن التاسع عشر وعلى الاخص في بغداد , تكون القضايا اكثر حدة , الى حد لا يوجد مجال للنظر في مدى تعقيدات الشكل المقامي form الكامن في كيان المقام العراقي , فمعظم المغنين المقاميين اناس بسطاء الثقافة , حد العفوية , كما ان غناءهم وسيلة نافعة لكشف وجهات نظر المجتمع , اكثر من الكشف عن وجهات نظرهم الشخصية , ان الهدف حفظ التراث وحمايته.. مجال للنقاش.. وبدون نقاش ايضا..!!

شهرة القندرجي واثره الادائي
وقد لا يكون مغنيا من مغني بداية القرن العشرين , من الذين ولدوا في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر , اعظم شهرة في طريقته الغنائية وبنائه اللحني للمقامات , اكثر من رشيد القندرجي , ويمكن للمتتبع تخمين تأثيره المباشر وغير المباشر في تسجيلاته الصوتية الاولى , اضافة الى باقي المغنين المقاميين من اتباع طريقته , امثال رشيد الفضلي وعبد القادر حسون وشهاب الاعظمي والحاج هاشم محمد الرجب واحمد موسى وغيرهم.. وكذلك في كتابات العديد من المقالات والدراسات والكتب المطبوعة في شأن هذا الموضوع في بغداد اكثر منها في باقي المحافظات الشمالية حتى الوقت الحاضر.. وفي الواقع يجد المتابع لهذه الامور في طريقة رشيد القندرجي وتسجيلاته المباشرة كثير من الموضوعات المكررة , وعزاؤنا في ذلك.. ان هذا التكرار سواء في الجمل الادائية المتشابهة او في التعابير المعبرة عن الشكل المقامي كان مقبولا لدى الاوساط المقامية المتخصصة والمستمعة للمقام العراقي في تلك الفترة الزمنية , وهكذا فإن
رشيد القندرجي ومن خلال تسجيلاته للمقامات بصوته , يحث اتباعه المتمسكين بطريقته التي سادت زمنذاك , على التمسك بالاصول التقليدية والجذور التاريخية سواء في شكل المقام او مضمونه التعـــــــبيري واستحضار الالهام الخيالي الرحب فيها..
وعلى الاجمال , فان الطريقة الغنائية التي اعدها رشيد القندرجي كانت خلاصة مقامية فنية غنائية لطرق ادائية كانت منتشرة في الاوساط المقامية , وما كان لهذه الطريقة , إلا أن تبعها الكثير من المغنين المعاصرين واللاحقين لرشيد القندرجي , وتأسروا بها , بوعي او بدون وعي منهم او ادراك..
وعندما شرع رشيد القندرجي واتباع طريقته من المغنين والمستمعين في بداية القرن العشرين للاحتفاء بحقيقة وانتشار وسيادة هذه الطريقة والاسلوبية الكلاسيكية الرصينة فيها , وواقعية أُسسها الشكلية والتعبيرية , استمر هؤلاء المغنون في سير تقليدهم لها واعطوا لها قيمة اخرى ينتبه اليها..

ينابيع الطريقة القندرجية وسماتها
استقت الطريقة القندرجية في الغناء المقامي ببغداد , من ينابيع عديدة , كانت منتشرة في العديد من الطرق والاساليب الغنائية الممتدة اسسها من اوائل القرن التاسع عشر التي كانت اهمها الطريقة الشلتاغية ومؤسسها المطرب رحمة الله شلتاغ والطريقة الزيدانية ومؤسسها المطرب احمد الزيدان وهي الاقرب الى حقبة التحول والى رشيد القندرجي.. وكذلك كان هناك مطربون اخرون تميزوا بأساليب خاصة بهم مثل خليل رباز (1824هـ1904م) وحمد بن جاسم ابو حميد (1233هـ1298) حيث استطاع المطرب المقامي المخضرم رشيد القندرجي من توحيدها وتنظيمها في منهج واحد مستفيدا من كل التجارب السابقة له وامسى صاحب طريقة خاصة به اسميناها (الطريقةالقندرجية) , وقد ازدهرت هذه الطريقة في بداية القرن العشرين فصاعدا.. وهي ايضا فترة عنفوان ظهور رشيد القندرجي كمطرب مقامي يحسب له الف حساب.. وقد تمتعت هذه الطريقة بشعبية كبيرة في مراحلها الاولى بشخص مؤسِسها رشيد القندرجي نفسه وشخوص اتباعه من المغنين المقاميين المعاصرين لتلك الحقبة وما تلاها..
وتشير هذه الطريقة الى عالم الالتزام الصارم بالشكل المقامي (form) المثالي المتماسك الى الحد الذي وصل فيه الامر الى تفضيل الشكل المقامي على مضمونه التعبيري , حيث لم توجه اية عبارات نقدية لهذه الحالة , على اعتبار انها جماليات وسمات كانت مقبولة في تلك الفترة الزمنية , ولكن الطريقة القندرجية كانت من ناحية اخرى , قد قامت بدور رئيسي وكبير للمقام العراقي ولا يقتصر هذا على بغداد وحدها , بل كل المدن المقامية في العراق , فقد اغنت هذه الطريقة , بدءا من مؤسسها رشيد القندرجي وحتى جميع اتباعه , المقام العراقي بالتزامهم بالشكل المقامي , أي الاصول التقليدية التاريخية , حيث نجا هذا الشكل من احتمالات الضياع والتشتت , فقد واجهت هذه الطريقة , المد الصناعي وادركت التسجيل الصوتي وسجل معظم اتباعها مقاماتهم باصواتهم متمسكين بالمبادىء الاساسية التي بنيت عليها دعائم هذه الطريقة , واهمها تثبيت الاصول المقامية التاريخية لغناء المقام العراقي ومن ثم المحافظة على المضامين التعبيرية لهذا الكيان التراثي الغناسيقي..
وقد يبدو مثل هذا الحديث في ضوء نقدي لسمات هذه الطريقة , ولكننا نتحدث الآن برؤية ولسان حال تلك الحقبة التي ظهرت فيها هذه الطريقة , فمن سماتها ايضا الغموض المنتشر خلال الغناء في لفظ الكلمات ومخارج الحروف بحيث يصل الامر الى عدم فهم مفردات القصيدة المغناة وتحديد الفاظها.. فقد كان الانشداد نحو المسار اللحني التاريخي العريق لشكل المقام العراقي كببرا , ويأتي الكلام المغنى والمضمون التعبيري بعد هذه الاهمية..!! وهذه الملاحظات تقودنا الى ملاحظة مهمة اخرى , هي ان القندرجيين لا نراهم يهتمون بعدد ابيات القصيدة المغناة , وفي الاعم الاغلب لا تتعدى الابيات المغناة ثلاثة او اربعة او خمسة في الحد الاكثر , وعليه فهم لا يهتمون بمعاني القصيدة بصورة مباشرة ويضعون جل اهتمامهم بالمسارات اللحنية التقليدية والتاريخية بحيث يجعلون كل الامور في خدمة اهدافهم التاريخية هذه.. ومن هذه الناحية علينا ان نعترف بجمالـية ورصانة وعراقة وصدق هذه المسارات اللحنية التي نذر القندرجيون وسابقوهم حياتهم من اجل الحفاظ عليها وحمايتها من الظروف المختلفة..

ظهور القبانجي وطريقته
على كل حال , , تكون هذه الطريقة بصورة او باخرى , حلقة الوصل المناسبة للانتقال الى حقبة اخرى تالية تغيرت فيها معظم هذه السمات مع تطور شؤون الحياة بصورة عامة , حتى اخذت بالافول ليتوقف رويدا رويدا مدَّها الجارف بظهور المطرب المقامي المعجزة محمد عبد الرزاق القبانجي الذي اسس بعدئذ طريقة جديدة، مكملاً ما انجزته الطريقة القندرجية قبله بمزيد من الثقة والنضوج الفكري والفني، حتى اصبح هو واتباعه اكثر انتشارا وتسجيلاً للمقامات بحكم الحقبة التي تطورت فيها الحياة الصناعية وغيرها من شؤون الحياة.. فمغنين امثال عبد الهادي البياتي (1911-1974) وحسن خيوكة (1912-1962) ومجيد رشيد (1915-1982) ويوسف عمر (1918م1986) وناظم الغزالي (1921م1963) وعبدالرحمن العزاوي (1928م1983) وهم ممن تاثروا بطريقتي رشيد القندرجي ومحمد القبانجي , استطاعوا ان يعطوا زخما ابداعيا جديدا مستقى من استاذيهما القندرجي والقبانجي للمقام العراقي من خلال نتاجاتهم الغنائية في فترة انتصاف القرن العشرين او بالاحرى (حقبة التجربة).. الواقعـــــة بين منتصف الثلاثيــنات ومنتصف الستينات من القرن العشرين..
يتضح لنا عندما نناقش هذه الامور بشيء من التفصيل , ان رشيد القندرجي ومعاصريه ومن اتباع طريقته , قد خدموا مدة مراسهم , الغناء المقامي من خلال مقومات هذه الطريقة.. فقد تأثر رشيد القندرجي بسلفه احمد الزيدان (1832م1912) مؤسس - الطريقة الزيدانية – في الغناء المقامي ببغداد ومن كان معه من المعاصرين الكبار امثال خليل رباز وحمد بن جاسم وغيرهما.. فقد استطاع رشيد القندرجي واتباعه التعبير بقوة عن الحقائق التاريخية للمقام العراقي , وكذلك استطاع السيطرة على واقع الطرق الغنائية الكثيرة وتوحيدها في طريقة سادت الاوساط المقامية ردحا من الزمن..
وما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها (1914م1918) حتى بدات تأثيراتها الفكرية والجمالية تتغلغل في كيان فناني العراق عامة.. وهكذا اعلن ايضا عن بدء ولادة جديدة لحركة اسلوبية في الغناء المقامي قادها المطرب محمد القبانجي بكل قوة , تلك الحركة التي تمخضت عنها طريقته الجديدة (الطريقة القبانجية) في الغناء المقامي التي طورت معظم السمات الفنية التي كانت مناسبة للطريقة القندرجية في حقبتها..
لقد تمسَّك المغنون القندرجيون باصول غناء المقام العراقي , وحاولوا ايجاد لغة اسلوبية لغنائهم , فكان لهم ذلك بواسطة استاذهم المخضرم رشيد القندرجي , ويجب الاعتراف ان تأثيرهم خارج العراق كان ضعيفا..!! ولكن ليس بسبب خلل في هذه الطريقة , بل بسبب حجم التطور الصناعي الذي لم يكن يكفي للانتشار.. وهو ارجح الظن.. حيث لم تكن هناك علاقات ثقافية تكفي , اوعلاقات فنية قوية بين العراق وباقي البلدان المجاورة.. إلا أن خميرة هذه الطريقة , كان قد استفاد منها محمد القبانجي واتباعه من المغنين في حقبتهم.. من حقبة التحول حتى حقبة التجربة التي كان حجم التطور الصناعي والظروف الاخرى فيها اكبر كالاعلام والثقافة والسياسة وغيرها..
ونظرا لما بدأ به القرن العشرون في العراق من نهضة غناسيقية واضحة , كانت من ظواهرها الطريقة القندرجية , واستلمت منها الطريقة القبانجية واستمر الامر بالتطور حتى وقتنا الحاضر..فقد كانت هذه تجربة المغنين..احساسهم..تصورهم..تضامنهم..ثقافتهم..تطلعاتهم..وهذا هو المهم في النهاية..
وهكذا بدأ مغنون ابداعيون خرجوا من صلب الطريقة القبانجية في تسجيل مقاماتهم الغنائية باصواتهم الجميلة وافكارهم النيرة مستقين كل ذلك من حقبتهم الثقافية واشعاعات الطريقة القبانجية التي اقتنعوا بها واتبعوها بالتعبير عن احاسيسهم الخاصة , ومنهم يوسف عمر وعبدالرحمن العزاوي وعبد الرحمن خضر(1925-1984) وغيرهم.

عن كتاب (محاور في المقام العراقي)