7 كانون الثاني 1947 .. في ذكرى الراهب العلامة الكرملي.. نصوص جديدة

7 كانون الثاني 1947 .. في ذكرى الراهب العلامة الكرملي.. نصوص جديدة

إعداد : رفعة عبد الرزاق محمد
في صباح اليوم السابع من شهر كانون الثاني سنة 1947 توفي في المستشفى الملكي ببغداد العلامة (العابق بأحاديث الشعراء والأدباء الذين يفدون للسلام والاطمئنان).الأب أنستاس ماري الكرملي الحافي أثر أمراض لازمته منذ مدة من الزمن كان يتغلب عليها بحيويته ونشاطه حتى تغلب عليه فاضطرته إلى دخول المستشفى. وكان وهو يصارع هذه الأمراض داخل المستشفى،

يطالع ما يأتيه من الكتب ويرد على الرسائل التي ترده من الشرق والغرب ويجيب على الأسئلة ويستقبل زواره الذين كانوا يتوافدون للاطمئنان على صحته. حتى أصبحت الغرفة التي ينام فيها مجلسا للشعر والأدب والنقد واللغة! وكان يشترك في بعض الأحاديث - بالرغم من مرضه الشديد ويستأنس بهذا الجو.

وقبل وفاته بثلاثة أيام منعه الأطباء من المطالعة والكتابة ومنعواأيضاً عنه الزيارات فعاش - رحمه الله - أيامه الأخيرة في وحدة قاسية متألما من شدة المرض الذي هجم عليه هجوما عنيفا وترك هيكله الضخم حطاما لا يعرف، ولم يفد عمل الأطباء والعمليات التي أجريت له ومختلف أنواع العقاقير فقضى مأسوفا عليه، وأذاعت نعيه محطة الإذاعة العراقية ثم لجنة الترجمة والتأليف والنشر في وزارة المعارف وتناقلت محطات الإذاعة في الشرق والغرب هذا النعي وأبنت الفقيد بما تستحقه مكانته الأدبية وخدماته للغة العرب وتاريخهم.

وذكر صديقه الصحفي الرائد مهدي القزاز (البلاد 10 كانون الثاني 1947)

يملك الفقيد مكتبة تعد من أنفس المكتبات في العالم العربي بما حوته من كتب مخطوطة ومطبوعات نادرة. جمعها من مختلف بلاد الشرق والغرب وبذل في سبيلها أموالا كثيرة حتى كان رحمه الله يتجشم مشاق السفر في سبيل الحصول على مخطوط أو استنساخه مهما بعد المكان والقطر. ويقال إن مكتبته تحوي في الوقت الحاضر على ما يقرب من (14) ألف مجلد بمختلف اللغات جمعها الفقيد في خمسين سنة.

وحرصاً على هذا الكنز النفيس من الضياع وحرمان الجمهور من فوائده وتمكيناً للعلماء والباحثين والمطالعين من ارتياد هذه المناهل فقد تقرر بعد وفاته تأليف لجنة لتنظيم شؤون هذه المكتبة وإدارتها وإيجاد عمارة خاصة بها تفتح أبوابها للباحثين من الرواد العلم. وتأخذ هذه اللجنة على عاتقها طبع تأليف العلامة الفقيد والمخطوطات النفيسة الأخرى. والمتوقع تأليف هذه اللجنة من صاحبي المعالي الدكتور حنا خياط ويوسف غنيمة وبعض الأفاضل.

وقد علمنا أن اللجنة الثقافية في الجامعة العربية قد عهدت إلى مندوب العراق في الجامعة إبلاغ الحكومة العراقية رجاء اللجنة في أن تقتني الحكومة مكتبة المرحوم الكرملي قبل أن تضيع وتتبعثر.

نشأ الكرملي نشأة دينية وتثقف ثقافة فلسفية، وعكف على دراسة اللغة العربية واللغات الأخرى وانصرف لبحوث التاريخ. وبرع في علوم اللاهوت واشتغل أكثر سنوات عمره بتأليف الكتب التاريخية والفلسفية والدينية. وكان رائدا من رواد اللغة العربية وتاريخها. ولذا تجلت عبقريته في هذا اللون من الأدب وحده.

وكان حافظا وراويا من الطراز الأول لكثرة ما قرأ من الكتب وطالع من الأسفار وتتبع من الحوادث. كان الفقيد يعقد مجلسا أدبيا بداره في (دير الكرملين) في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان يختلف إلى هذا المجلس صفوة مختارة من الشعراء والأدباء والمؤرخين والصحفيين وبعض الأستاذة والطلاب. تختلف أذواقهم ومشاربهم. ولكن تجمعهم رابطة الأدب واللغة وحب البحث والجدل وتذوق هذا الألوان الفكرية التي كانت تدور في هذا المجلس الذي كان دائما يعمر بالرواد فيبحثون في قضايا الأدب والنقد والشعر ويثيرون بعض المسائل الفكرية التي تتخذ في النهاية شكلا من أشكال الجدل يطلع منه المرء على تيارات مختلفة من الأفكار والمنازع والأهواء.

وكان الكرملي يشترك في جميع المباحثات والمناقشات الفكرية التي تدور في مجلسه ويديرها، وإذا لزم الأمر يبرز ما لديه من المراجع والمستندات والوثائق التي تزدحم بها مكتبته العامرة في مختلف اللغات واللهجات للبرهنة على وجهة نظره وتأييد فكرته

وكنت من الذين يحضرون مجالس الكرملي الأدبية هذه ويشتركون في بعض المناقشات التي تثار في قضايا الأدب والفكر فكان لا يرضيني هذا التزمت في الأدب الذي تفرضه أبحاث العلامة الكرملي ومناقشاته، فقد كان يحاول دائما أن يضع للأدب مقاييس وقيودا وحدودا لا يتعداها ولا يرى في الانطلاق والتحرر إلا خروجا وخطا جريمة... وكان تفكيره الرتيب الذي جاء نتيجة دراساته الجافة لا يسمح له بالتجول إلا في آفاق محدودة ودوائر خاصة لا يتعداها ولا يسمح لنفسه بالخروج منها. ولذا كان لا يستسيغ هذا اللون من الأدب الحديث الذي برع فيه ناشئة الأدب في البلاد العربية وتحرروا فيه قيود الماضي وانطلقوا يكتبون في أجواء حرة وأساليب حديثة. لم يكن الكرملي أديبا خلاقا أو باحثا مبدعا، ولم يترك له أثر في الحياة الفكرية فيه هذا اللون المشرق الذي يغذي العواطف ويهز القلوب، ويفتح كوى مشرقة فيها أضواء وأخيلة وأنداء وجنائن مسحورة يعبق جوها بالأماني والأحلام تترك الشعور يخلق في متاهات بعيدة وأبعاد مجهولة فيها أمواج من النعيم وسحر غريب له لذة وفيه نشوة، كما نشاهد في أدب الزيات وطه حسين والحكيم وغيرهم من أساتذة اللغة والبيان.

إن عبقرية الكرملي وإشراق ذهنه في اللغة العربية وتاريخها ودراسته المتصلة للغات القديمة والحديثة ونشاطه المعروف في التتبع والبحث والتأليف لو أضاف إلى كل ذلك إشراق العبارة وذهنية تشرك عقلها وقلبها فيما تنتج وتفكر لعد من العباقرة الخالدين في الأدب العربي. ولكن هذا التحنيط والجمود في أسلوبه قلل من أثره في الحياة الفكرية وجعله أشبه بمعجم لا يراجع إلا عند الحاجة إليه.

إن اسم (الكرملي) سيخلد في مجامع الشرق والغرب كعلم من أعلام اللغة والدين والفلسفة خدم بتتبعه لغة العرب وترك فيها آثار عديدة ونور عقولا وأذهانا، وكان فخر أمته، وعقلا عبقريا من عقولها في الخارج.

محمد مندور يهاجم الكرملي

لو أن الأب أنستاس ماري الكرملي العالم النحرير والروحاني المتواضع زف إلى ما يقول (كرملة) يستسيغها الذوق لقبلتها، ولكن كرملته حصرم تمجه النفوس. إن في نفسي إيماناً بأن العلم والروحانية لا ينزلان بنفس إلا هذباها، ونحن كلما ازددنا توغلاً نحو آفاق المعرفة ازددنا دنواً من حدودها وإحساساً بتلك الحدود، فتهدأ جوارحنا ويسكن غرورنا. وأنا قد أقبل من رجل أن يعتز بماله إن كان صانعاً أو تاجراً، وأما العالم فالزهو منه ممقوت إن روح العلم الصحيح لا تعرف نغمات الكرملي. العلم تواضع كما أن الدين محبة؛ وأين هذا من كلام الأب؟ أنا لا أعرف التأكيد في أي شيء ولذا قلت - أيها الأب أنستاس ماري الكرملي - إذا صح هذا أو ذاك. والأب الجليل العالي الكعب في كل أمر لابد قد قرأ أفلاطون، ولابد أن أستاذه قد قال له سنة 1887م إن موضع الجمال في أسلوب أفلاطون موضع السحر، موضع السمو، كثيراً ما يتركز في الحرفين اللذين يضافان إلى الأفعال اليونانية لينقلا التأكيد إلى الاحتمال، والأب الخطير يستطيع بلا ريب أن يترجم ب إذا صح الخ...

ثم إنني أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لم أستنجد بعلم الأستاذ كراوس كما أني لم أغتصب منك أسلابك العلمية الثمينة، وإنما الذي حدث أن مجلة الرسالة لم تنشر مقالي كاملاً كما تستطيع أن تلاحظ ذلك من ابتدائه بنقط، ولو أنها نشرته كاملاً لرأيت أني سلمت لك بأنك تعرف أسماء أتيقوس وتيودسيوس وغيرهما ممن لا يعتبرون إلا قطرة في بحرك الملح الأجاج. ولو أنها نشرته كاملاً لعلمت أني لم أنشر هذا المقال رداً عليك وأنا لا صبر لي على قراءة تحقيقاتك التي تبعدها عني روحك الوديعة الطاهرة، وإنما أردت أن أحاج الأستاذ كراوس لأننا اختلفنا في هذا النص قبل أن ينشر الكتاب. وأنت أيها الأب أنستاس ماري الكرملي لا ريب مرهف الحس لطيف الذوق فكيف غاب عنك أن قولي: (اللهم إلا أن يكون لدى الأستاذ كراوس علم آخر... الخ) لا يفيد طلب النجدة

سلمت إذن للأب الكبير بأنه قد عرف اسم أبيقوس، ولكنني أنكرت عليه أن يعرف عنه أكثر من ذلك بدليل أنه زعم أنه روماني وهو يوناني. ولقد فطن إلى هذا الأب نفسه عندما راجع دفاتره وراجع العلماء الأفاضل الذين يجتمعون معه فوضعوا خطاً - كما يقول - تحت جملتي التي تحمل هذا المعنى، ووضع الخط هذا وتأمين الأب على وضعه هو طريقة العالم الفاضل في الاعتراف بخطئه. وإذن فقد كنت محقاً في أن أصحح له هذا الخطأ

بقيت مسألة الكراكي التي لم أعثر بها فقلت (إنها خرافة لا نعلم عن نسبتها إلى قومودس وأتيقوس شيئاً). وهذا حق، فأنا لم أعثر بها في حياتهما؛ وأعود فأكرر أنني لم أعثر بها ولا أقول لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن أعبر عنه هو أنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها. وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة وفقاً للمعنى الذي في قلبه

وأما مسألة أبيقوس ونسبه الكراكي إليه، فهذا لن يفيد الأب الكرملي في شيء، لأن النص يقول: (إن تودورس أو قومودس ملك يونان كتب إلى أينقس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية)... وإذا كان من الثابت أن قومودس قد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، وأن أبيقوس الذي فرح الأب باكتشاف أحد أصدقائه لوجوده قد عاش في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه يكون بين الرجلين ثمانية قرون. أيريد الأب الشيخ أن يطير في طائرة عصرية ليجمع بين العصرين!

لم يكن لي أن أتجه نحو أبيقوس ما دمت قد رجحت كومودس

هذا ما يستحق الرد في كلام أوفى كرملة الكرملي، وأما ما دون ذلك، فالعلم منه بريء.

محمد مندور ــ مدرس بجامعة فاروق الأول

وكان الاستاذ الكرملي قد نشر في المجلة نفسها وهي الرسالة (سنة 1942) لاحمد حسن الزيات مقالا انتقد فيه مقالة لمحمد مندورعن ابيقوس الشاعر اليوناني فقال فيه :

بحثنا عن إيبيقوس في سائر المعاجم التاريخية، من فرنسية وإنجليزية، وإيطالية وغيرها، فرأيناها جميعاً تذكر هذا الشاعر اليوناني، وعصره، والكراكي التي استشهدها على قتله. ولاروس الكبير - وهو معجم ضخم في أكثر من عشرين مجلداً - تكلم عليه أكثر من جميع المعاجم. ومن أراد التوسع في هذا الموضوع فعليه به؛ فإنه في غاية الإفادة التاريخية، ونحب بنوع خاص أن يطالعه حضرة الأستاذ (محمد مندور) المدرس بكلية الآداب في مصر المحمية، من كل شر وبلية..

الكرملي يصف مجلسه الاسبوعي

جرت لنا عادة أن نرحب بأصدقائنا، وأحبائنا، وأدبائنا في كل صباح جمعة من الأسبوع، وذلك منذ سنة 1911، فيجتمع في نادينا الكتّاب والصحفيون والشعراء والمؤرخون، ووصاف البلدان، ويختلف عددهم بين العشرين والثلاثين، فتلقى الأسئلة، وتجري المحاورات والمطارحات على أحسن وجه، وأسلم طريقة، بشرط ألا يلقى سؤال في الدين ولا في السياسة. وإن وقع شيء من هذا القبيل، ينبه صاحبه على أن مثل هذا الأمر ممنوع، فيسكت بكل حشمة ووقار وأدب من غير أدنى امتعاض

ويوضع بين أيدي الأدباء جميع جرائد المدينة، وما يأتي إلينا من الصحف والمجلات والكتب الجديدة الواردة من العراق وخارج العراق، فيطالعها المنتمون إلى هذا الديوان المتواضع. ويتفق لنا أن نخط خطاً أزرق تحت كل غلط نقع عليه فيما نقرأه فيأتي بعدنا من يقف عليه فيعرف ما فيه من الزلل والخلل. ولما طالعنا نبذة الأستاذ (مندور) المدرس بكلية الآداب خططنا خطوطاً زرقاً تحت بعض الألفاظ، وأشرنا بعض الأحيان بالنص إلى ما فيها من الأغلاط بكلمات وجيزات، ولا سيما أشرنا إلى قوله: (إن هيرودس أتيقوس) روماني، لا يوناني، فهذا أبعد في الخطأ من استنكاره أن يعتبر (ثيودوسيوس) يونانيا...) استحسنها الجميع واستصوبها الكثيرون

بقي علينا أن نعرف الاسم الحقيقي للشاعر اليوناني (إبقوس) أو (إتقوس) أو (إنقوس) أو (إيقوس)؛ إذ كل هذه الروايات وردت مصحفة للاسم الحقيقي المصحف، فتذكرنا أننا لما كنا ندرس اليونانية في جامعة بيروت اليسوعية، إن أحد معلمينا ذكر استطراداً اسم شاعر يوناني مشهور سماه (إيبيقوس)، وكان قد ذكره من باب العرض، من غير أن يتصدى له تصدياً مقصوداً، فبقي اسمه هذا مطبوعاً في ذاكرتنا، وكان عمرنا يومئذ 21 سنة: (أي كان ذلك في سنة 1887م)

فسألنا أحد الحاضرين في الجمعة التي وقعت في 28 أغسطس (آب) من هذه السنة المستشرق الإيطالي سيريني والأستاذ مير بصري منشئ مجلة (غرفة تجارة بغداد): أتعرفان شيئاً عن (إيبيقوس)؟ فقالا: وكيف يكتب هذا الاسم بالحرف الروماني؟ فقلنا: لعله فقال الأستاذ سيريني: سأنظر غداً السبت في المعلمة البريطانية وأفيدك عنه الإفادة الصادقة، وكذلك قال الأستاذ مير بصري.وفي اليوم الثاني - بعد أن مضت أربع وعشرون ساعة على سؤالنا - هتف الأستاذ بصري قائلاً: وجدتُ ضالتكم في المعلمة البريطانية، ويكتب العلم هكذا لا كما كتبتموه ثم قال: وهأنذا أنقل إليكم بالعربية ما ورد في المعلمة المذكورة، وأبعث به إليكم في هذه الساعة. وبعد عشر دقائق،