المسرحي والسلطة في دائرة الفحم العراقيّة

المسرحي والسلطة في دائرة الفحم العراقيّة

حسام السراي
اعتاد ابن الموظف في وزارة المال في الثلاثينيات، أن ينتقل مع والده من مسكن الى آخر في مدن جنوب العراق والفرات الأوسط. يعترف سامي عبد الحميد بأنّه «لا حدث مثيراً في طفولتي سوى هذا التنقّل الدائم». لكن مع حلول عام 1942، تغيّرت وجهة العائلة الى بعقوبة (شمال شرق بغداد). هناك صادف الشاعر حسين مردان. كان مع مجموعة من الطلبة الذين يسخرون منه.

لم يكن أحد يدري أنّه سيصبح الشاعر المشهور الذي سيمثّل شخصيته في فيلم «المنعطف» لمخرجه جعفر علي في منتصف السبعينيات.

بعدها توجّه مع عائلته الى الخالص، وصولاً الى سامراء، حيث أكمل دراسته المتوسطة هناك. «كنت منقاداً ولم أدرك نتائج هذا التنقّل». لكنّه يعود الى هذه الحقبة من حياته وكيف أنّ مدرّس التربية الفنيّة في ثانوية الديوانية حسين أحمد الرضي، وهو القيادي الشيوعيّ الذي اشتهر باسم «سلام عادل» (1922 ــــ 1963)، نبّهه الى أهمية فنّ التمثيل، وما يحمله المسرح من رسالة تنوير وتثقيف.
الوصول الى سامراء كان مختلفاً هذه المرّة. شهدت المدينة صعوده الأوّل الى خشبة المسرح، حين أدّى دور البطولة في مسرحيّة «أنا الجندي». إلا أنّ التجربة التي رسّخت تعلّقه بالمسرح كانت تعامله الأوّل مع الرائد المسرحي إبراهيم جلال (1921 ــــ 1991)، بعدما أخرج له ولزميله محمد منير آل ياسين مسرحية «تاجر البندقية"عام 1948. هذه التجربة شجّعت سامي على الالتحاق بمعهد الفنون الجميلة، الأمر الذي يعود فيه الفضل، بنسبة كبيرة، الى إبراهيم جلال. تخرّج من كلية الحقوق عام 1950، ودخل فرع التمثيل في المعهد. وتشاء لعبة القدر أن يكون بعض متخرّجي الحقوق الآخرين، قد صاروا أيضاً زملاءه في المعهد، وبعدها من رواد المسرح العراقي: بدري حسون فريد، ويوسف العاني، وأسعد عبد الرزاق...
الشعور بالحاجة الى زيادة الثقافة المسرحيّة وافتقاره الى مكتبة في بيته جعلاه يبحث عن مصادر باللغة الإنكليزيّة تتناول فنّ المسرح. وهنا يتذكّر كيف وقع على كتاب «ستانسلافسكي: فن الخشبة"لديفيد ماكارشاك. ترجم الكتاب بمساعدة صديقه من كلية الآداب عام 1954، ثمّ نشره على شكل حلقات في مجلة «السينما» للمخرج كاميران حسني. كتاب «أسس الإخراج المسرحيّ» لألكسندر دين، ترجمه أيضاً ليعتمد لاحقاً في المنهج الدراسي لقسم المسرح في كلية الفنون الجميلة خلال السبعينيات. لكن عبد الحميد يعود الى دور مجلة «الآداب"اللبنانيّة في توسيع ثقافته المسرحيّة. ويتذكر يوم أخرج ومثّل مع ناهدة الرماح مسرحية «المقاتلون» (1959) التي منحتها «الآداب"جائزة أفضل تأليف للكاتب المسرحي يحيى بابان الذي كان اسمه المستعار «جيان».
حين يستعيد المسرحي العراقي تلك الفترة، يصعب إيقافه عن استعادة الذكريات. يتحدّث عبد الحميد عن دوافع تشكيل فرقة «المسرح الحديث"الذي كان يهدف إلى «تغيير المجتمع وانتقاد السلطة». لهذا السبب «منعت السلطة في العهد الملكيّ عروض الفرقة عام 1954، ثمّ ألغت إجازتها بعد عامين، لتستأنف نشاطها بعد عام 1958. لكنّها سرعان ما عادت فواجهت الحصار نفسه من قبل السلطات الجديدة، بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963؛ لأنّّ رموز النظام الجديد كانوا يعرفون سلفاً أنّ هذه الفرق لا تؤيّدها».
بحلول عام 1964، نجح المخرج إبراهيم جلال في الحصول على إجازة للفرقة التي اندمجت مع مجموعة «خليل شوقي» ليصبح اسمها «المسرح الفنيّ الحديث»، واصلت نشاطها متحايلةً على الرقيب. إلا أنّ ذلك لم يمرّ من دون عراقيل ومضايقات. في عام 1967، منعت السلطة عرض مسرحية «الجومة"التي أخرجها سامي عبد الحميد، وكانت من تأليف يوسف العاني، بحجة أنّها «تتعرّض لشاه إيران في وقت كانت فيه الحكومة تتقرّب منه ووقّعت معه معاهدة الجزائر».
سلسلة الإجراءات التعسفيّة لم تتوقف هنا، بل طاولت بعد سنوات مسرحية «دائرة الفحم البغداديّة"التي اقتبسها الكاتب عادل كاظم عن مسرحية بريخت الشهيرة «دائرة الطباشير القوقازية». وهذه المرة، مُنعت المسرحية بحجّة احتوائها على أفكار اشتراكيّة. يروي عبد الحميد كلّ ذلك، موضحاً كيف أنّ «الفنّان العراقيّ مع السنوات صار الرقيب يعيش في داخله، وكلّما أبدع كان يحسب حسابه. وهنا كان الفرق بين مبدع وآخر في طريقة التحايل على الرقيب، وتمرير الأفكار النقديّة والجريئة على السلطة القائمة».
عقد التسعينيات كان بمثابة إعلان واضح عن شيوع هذه الروح في الساحة الفنيّة العراقيّة. تمثّل ذلك في تقديم ثلاث مسرحيات ابتعدت عن المُباشرة في طرحها، لكنّها أوصلت رسالتها في نقد السلطة وهي: «الى إشعار آخر»، و«الكفالة»، و«شكراً ساعي البريد».
وهو يجلس في حديقة بيته في منطقة الحارثية في بغداد، يمرّ أمام عينيه شريط الذكريات التي عاشها، بما فيها من انقلابات وتحوّلات اجتماعيّة: «كنّا نتوقع أن يدخل العراق مرحلة من الاستقرار والرفاه والتقدّم. لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث حتى اليوم». نسأله عن موقعه من السلطة خلال عهد صدّام، فقد عُدّ آنذاك من رموز المسرح الرسمي، وقدّم مسرحيّات تمجيديّة وعدائيّة. يقول: «مع استيلاء البعث على السلطة، كان أمام الفنان ثلاثة خيارات: مساومة السلطة، أو الصمت، أو مغادرة البلاد. لكنّي اخترت البقاء مع محاولة التوفيق بين عدم الاصطدام بالسلطة وعدم الخضوع التام». هكذا يصف وضع الفنّان والمثقف عموماً في ظل نظام صدّام، ليقرّ بأنّه «كان على من يريد العمل والحضور على الساحة الثقافيّة، في المسرح وسواه، أن يؤدّي فروض الطاعة بشكل أو بآخر... وأن ينتمي مكرهاً لا بطلاً الى «البعث» ولو شكليّاً».
وإذا كان سامي عبد الحميد قد اشتهر بوصفه ممثلاً ومخرجاً مسرحيّاً، إلا أنّ ذلك لا يلغي تجاربه المهمّة في السينما، مع أنّها لم تكن السبب المباشر لشهرته لأنّ «الإنتاج السينمائيّ اعتمد على المصادفة والترويج لأفكار السلطة لعقود». القصّة مختلفة مع أدواره في الدراما. يتذكّر العراقيون دوره في مسلسل «النسر وعيون المدينة» (1983). غير أنّ ذلك اختلف مع «هبوط مستوى النصوص والإخراج، وعدم توافر دور يحفر في ذاكرة المشاهد». فوق ذلك، جاءت المسلسلات العربيّة لتغطي على الدراما العراقيّة، مثلما حصل مع «النخلة والجيران"(2009) الذي مثل فيه. كان المسلسل خيبة أمل بالنسبة إليه حين وجد أنّ أغلب العراقيّين لم يشاهدوه بسبب متابعتهم مسلسلات عربيّة أخرى، رغم شهرة الرواية التي اقتُبس عنها العمل وصاحبها الراحل غائب طعمة فرمان. والأرجح أن التجربة نفسها ستتكرّر... لكن رواد المسرح العراقي يحملون صخرتهم على ظهورهم ويمشون في اتجاه المستقبل. سامي عبد الحميد واحد من هؤلاء.