آرثر شوبنهاور  (1788-1860)

آرثر شوبنهاور (1788-1860)

أليستير ماكفارلين
ترجمة: أمجاد المطيري
يعد كتاب آرثر شوبنهاور و الذي يحمل عنوان"العالم كإرادة وتصور"، أحد أشهر الكتب في الفلسفة، حيث توقع فيه آرثر نظريات فرويد ويونجية عن اللاوعي، كما كان له تأثير كبير على العديد من الفنانين من أبرزهم واغنر. ولكن أصبح نادرًا ما يُقرأ هذه الكتاب في هذه الأيام لصعوبة تقبل محتواه، إلا أنه لا يزال بذات الأهمية كونه يحمل رؤية فريدة عن العالم،

مُنفّرة للكثيرين وآسرةٌ للبعض. يعطينا شوبنهاور في هذا الكتاب فكرة واضحة عن الإرادة باعتبارها المحرك الأول بالفطرة لمصائرنا، وبناءً على ذلك، فهو يقدم رؤية كئيبة للحالة الإنسانية، و التي يتوقع من خلالها بشكل قاتم الكثير من ويلات القرن العشرين. ويعتبر هذا الكتاب برجوعه للخيال أكثر من المنطق، تحفة في الميتافيزيقيا (علم ماوراء الطبيعة). ولذلك فمن الصعب تقبل تحفة شوبنهاور تلك، ليس لأنها مليئة بالحجج الكثيفة والمعقدة، مثل كتابات هيغل المعاصر -والذي يمقته شوبنهاور ويسخر منه- ولكن لسبب معاكس ألا وهو: أن الحجة المركزية القائمة فيه بسيطة للغاية، ومصنوعة من قوة لا تنسى، وهي أن على المرء إما أن يقبله أو يرفضه ككل.

بداياته:
ولد آرثر شوبنهاور في 22 شباط 1788، و تنحدر أصوله من عائلة التاجر الهانزي الثرية في دانزيج – والمعروفة حاليًا باسم غدانسك في بولندا. وتعود الأسرة لأصل هولندي، حيث كانت بارزة اجتماعيًا وماليًا لعدة أجيال، كان شعارهم (بدون الحرية لا توجد سعادة)، وهو ما بدى زاخرًا بالسخرية إذا ما سلّطنا الضوء على حياة آرثر فيما بعد. كان لآرثر أخت تدعى لويز اديلايد (’أديل’)، ولدت في 12 من حزيران 1797، ولكنه نشأ وحيدًا بعيدًا عن الجميع، انطوائيًا، ومتحجرًا، بل طور نظرة ظلامية مخيفة للمأزق الإنساني.
كان والد آرثر شوبنهاور -فلوريس (هاينريتش)- تاجرًا ثريًا ومالكًا للسفن. وقضى سنوات عديدة بين انجلترا وفرنسا في شبابه، وكنتيجة تولد لديه حماس مستدام للحياة الإنجليزية، لقد كان يقرأ صحيفة (التايمز) كل يوم – وهي عادة اتّبعها ابنه أرثر فيما بعد-. خطط فلوريس لحياة ابنه بالتفصيل: كان سيصبح آرثر تاجرًا. واُختير اسم آرثر لأنه يُكتب بالألمانية والانجليزية والفرنسية بنفس الطريقة. كما أنه رتب الأمر لتكون ولادته في إنجلترا، حتى يكتسب حقوق المواطن البريطاني. ولكن فشلت هذه الترتيبات بسبب مرض والدته أثناء الحمل، و بهذا ولد آرثر في دانزيغ. تنحدر والدة آرثر -جوانا هنريتا- من عائلة ثرية ومؤثرة في دانزيغ أيضًا. و كانت جوانا شخصية متعلمة، ذائعة الصيت، يغلب على طبعها الأنانية، والطموح. حيث أصبحت روائية شهيرة وناجحة لها مكانة بارزة في المجتمع الألماني الأدبي والفني. كانت تجمع في طيّات شخصيتها ما بين الشدة واللين، ووصفها أحد المعاصرين بمعدومة القلب والروح. كانت علاقة شوبنهاور بوالده صعبة خلال المراحل الأولى من حياته، إلا أنها أشد صعوبة مع والدته فيما بعد، حيث انتهى به الأمر إلى قطع علاقته بها وعدم حضور جنازتها.
انتقلت أسرته حين كان في الخامسة إلى هامبورج بعد أن ضمتها دانزيغ من قبل بروسيا. وزار أوروبا مع أسرته كيافع، وفي سنوات مراهقته عدة مرات في جولات سياحية، حيث قضى بعض من سنوات المراهقة في مدرسة داخلية في ويمبلدون، فأصبح يجيد اللغة الإنجليزية والفرنسية، مستمتعًا بوقته في فرنسا، وكارهًا لمدرسته في انجلترا. إن طفولة آرثر ومراهقته التعيسة جدًا تفسر بغضه الحاد للبشر.
اضطر آرثر في أواخر مراهقته إلى العمل في التجارة مع العائلة، على الرغم من رغبته في الالتحاق بالجامعة. وفي نيسان/أبريل 1805، توفي فلوريس شوبنهاور -والد آرثر- فجأة، وغالب الظن، منتحرًا. وبذلك حصلت الأم والابن على الحرية والاستقلال المالي، سالكين بذلك طرقًا منفصلة بشكل متصاعد. حيث انتقلت جوانا مع ابنتها إلى فايمار لتصبح كاتبة ناجحة جدًا، و قامت بتأسيس صالون أدبي تحت إشرافها، و الذي كان الأديب غوته من أكثر رواده. وبذلك بقي آرثر شوبنهاور شخصًا غير معروف في معظم فترات حياته، بخلاف أنه ابن لروائية مشهورة.
وفي عام 1809، التحق آرثر بجامعة غوتنغن لدراسة الطب، ولكنه سرعان ما تحول إلى الفلسفة وانتقل إلى جامعة برلين. ليتوسع في دراسة الفلسفة، وعلم النفس، وعلم الفلك، وعلم الحيوان، وعلم الآثار، وعلم وظائف الأعضاء والتاريخ والأدب. بدأ بكتابة أطروحة الدكتوراة في سن الخامسة والعشرين تحت عنوان (الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي)، اكتسب الدكتوراة من جامعة ينا، ليكرس بقية حياته لتطوير وصقل نهجه الفريد في الفلسفة.

الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة):
أصبح ماوراء الطبيعة بعد إيمانويل كانط (1724-1804) جزءًا لا يتجزأ من أي نظام متطور للفلسفة. ويمكن تلخيص مشكلة كانط الميتافيزيقية على النحو التالي: كيف يمكن أن تميز عقولنا الواقع، باعتبار أن الواقع هو الأمر الوحيد المتاح لنا بشكل غير مباشر من خلال الإدراك؟ كانت طريقة كانط تقوم على التوفيق بين أوصافنا الذاتية والموضوعية في العالم، أو كما قال:"لن نُمنح الشيء دون الإحساس، ولم نكن لنفكر فيه دون بصيرة. فالأفكار بلا محتوى فارغة، و يصبح البديهي أعمى إذا ما خلا من المفاهيم."أي بعبارة أخرى: نحن بحاجة إلى كل الخبرات المكتسبة من خلال حواسنا لفهم العالم (أي ‘البديهيات’ في مصطلحات كانط)، وبحاجة للقدرة الفكرية لتأمل هذه التجارب (أي باستخدام المفاهيم).
ويطلق كانط على الميتافيزيقيا الخاصة به مصطلح"المثالية المتسامية"– و هو مصطلح مرفوض يخفي بساطته وقوته. يشير لفظ المتسامية لتجربة ليست حسية فقط، أما المثالية فتشير إلى فكرة أن الفكر هو الأساس في الواقع. و تقسم فلسلفة كانط العالم إلى قسمين: العالم الحدسي، و هو الواقع الذي يكون مستقل بذاته عن استشعارنا له، حيث لا يمكننا أبدًا الوصول المباشر إلى هذا العالم، ولكن نستدل عليه من خلال حواسنا ومن خلال تفسير الجهاز العقلي لدينا – أي من قبل مجموعات من المفاهيم التي نحتاجها لتجربة أي شيء. أما ظاهرة العالم فهي تعني العالم كما يبدو لنا. و يميز كانط بين الجزئين بالإشارة إلى الأشياء (التي تمر بها حواسنا)، والأشياء الحدسية في حد ذاتها (باعتبارها السبب أو أساس تجربتنا من الظواهر المقابلة الأخرى).
ادعى شوبنهاور أنه حسّن وبنى على الميتافيزيقيا الخاصة بكانط، وهو مايعد نوع من الخداع، لأن شوبنهاور عرض جانبا مختلفا تماما عن ظاهرة العالم الحدسي لكانط. حيث تنطوي الميتافيزيقية الكانطية على الإشارة إلى الشيء في ذاته بمراسلات مفصلة بين الظاهرة و الحدسية (والتي لا يمكن فهمها لأن الحدسية تتجاوز معرفتنا). إن تصور شوبنهاور للعالم الحدسي مختلف تمامًا : حيث أن الواقع في حد ذاته، و بغض النظر عن ادراكنا الحسي، هو كيان واحد غير متمايز ونستطيع أن نتمكن من معرفته، وأطلق على هذا الكيان مسمى"الإرادة".
كانت إرادة شوبنهاور شيئًا جديدًا وجدّ غريب، حيث تصورها على أنها ساعية، أو ربما قوة للتعبير عن الذات أو الوجود. وكل ظاهرة، على حد زعمه، هي مظهر من مظاهر ذلك. فالإرادة عمياء في كل شيء: فما وراء الظواهر، كان واقع شوبنهاور بدون هدف. و هذه الرؤية تعد فريدة من نوعها، ونفر منها الكثيرون. لقد رأى شوبنهاور العالم مسعورًا يلهث بلا هدف – وهي ربما أكثر نظرة كئيبة استطاع فيلسوف تطويرها.
ولأن شوبنهاور كان ملحدًا صارمًا، فإن الارادة ليست بالمفهوم الديني، كما أنها ليست شكل من أشكال الإدراك الواعي، سواءً بالشخصية أو بالمعنى الجماعي اليونغي. لقد رأى شوبنهار النفس البشرية منشطرة بين التفكير العقلاني وسعيها الموحد العميق دون اتجاه نحو التكاثر والبقاء على قيد الحياة (قارنها بتقسيم فرويد: الأنا العليا، والأنا، والهوية)، وقال أيضًا أنه يمكننا أن ندرك بشكل مباشر الواقع الداخلي للإرادة كلما اختبرنا الإرادات الخاصة بنا في عملها.
العالم كإرادة وتصوّر
طُبع الكتاب الذي أطلق عليه باللغة الألمانية (Die Welt als Wille und Vorstellung) ونُشر في عام 1818، ومر بالعديد من المراجعات والتنقيحات الشاملة على نفقة شوبنهاور. إن أفضل ترجمة إنجليزية للكتاب هي (العالم كإرادة و تصور) من قِبل إي. جي. إف. باين الذي نُشر بواسطته عام 1958. غير أن الكتاب لم يثر ذلك الاهتمام سواء في ألمانيا أو انجلترا حتى آخر حياة شوبنهاور مما سبب له تعاسةً كبيرة على الرغم من اعتقاده في أن العالم بلا قلب وهدف.
إلا أنه حتى الغيوم المتبلدة في حياته امتلكت بارق ضوء، فبعد الانتهاء من تحفته، سعى بكافة الطرق التي من خلالها يمكن أن تحسن الآثار المترتبة على الإرادة غير مهتمة وتحقيق مسافة ذهنية بعيدًا عن تأثيرها. كانت إحدى تلك الطرق تقع في التجربة الجمالية. كان شوبنهاور شخصًا محبًا للموسيقى طوال حياته، حيث كان يعزف الناي تقريباً كل يوم، ويحضر الحفلات الموسيقية والأوبرا والمسرح باستمرار. وبهذه الطريقة شعر أنه يمكننا الانسحاب مؤقتًا من قسوة العالم.
تمكن شوبنهاور من خلال القراءة الواسعة المنتقاة أن يكتشف الفلسفة الشرقية والدين، كان ذلك بعد اكتشافه لترجمة اوبنشاد (للجزء الأخير من الكتاب الهندوسي الفيدا، الذي يعود تاريخه إلى ما بين 800 و400 سنة قبل الميلاد) حيث كان يقرأ أجزاء منه كل يوم تقريبًا لبقية حياته، وهكذا بات أول فيلسوف غربي يدرس هذا الكتاب بعناية واهتمام، حيث أدرك مع الوقت أن الكتاب قد أدرج بعض من جوانب مفهومِه للإرادة. واستنتج من خلاله أن الهروب الدائم الوحيد من الإرادة الكونية يكمن في تحاشي كل أمنيات الإشباع الدنيوي من خلال فقدان الذات في التأمل الباطني، كقديس غربي أو رجل دين شرقي.
وبمستوى أقل تساميًا، كانت نظرته عن الأخلاقيات بأنه ينبغي للمرء أن يبدي الرحمة بشكل موحد، أي:"لا تؤذِ أحدًا … وساعد الجميع بقدر ما تستطيع"، بالرغم من أنه لا يوجد إشارة في حياته بالامتناع عن المتعة الدنيوية، أو السعي للقداسة، أو حتى مساعدة جيرانه، بل أنه في أحد الأيام ألزمته المحكمة بدفع تعويض صيانة لجارته المسنة بعدما زعمت أن شوبنهاور قد اعتدى عليها في لحظة غضب أثناء خلاف نشب بينهما.
آخر حياته:
و أخيرًا بعد نشر عمله الأخير Parerga وParalipomena في عام 1851 تحت عنوان"العمل التابع والإسقاطات"، بدأت مكانة شوبنهاور كفيلسوف كبير بالظهور. حيث بدأت المناقشات حول عمله بالظهور في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا مصحوبة بملاحظات إيجابية، ولقي هذا الاعتراف المتأخر بمكانته بعض من الرضى في نفسه، جاعلاً أيامه الأخيرة أكثر احتمالاً.
وعلى الرغم من فلسفته القاتمة واستياءه من اللامبالاة لأعماله لفترة طويلة، إلا أن حياة شوبنهاور لم تخلو من تعويضاتها. فقد كان ثريًا للحد الذي جعله يستمتع بالسفر بشكل دائم، وتناول الطعام والشراب الجيد، والقراءة على نطاق واسع. كما كان بإمكانه مشاركة الحديث المسلي مع القليل من الأصدقاء على الرغم من تهكمه وسخريته. وعندما أصبح معروفًا ومشهورًا في السنوات التي سبقت وفاته، زاره العديد من الناس من الخارج والذين تفاجأوا بلطافته أكثر بعدما كانوا يهابونه. لقد حقق شوبنهاور نموذجًا خاصًا به من التسوية مع مقتضيات الإرادة.
لقد تمتع بصحة جيدة لمعظم حياته، حيث كان يمارس رياضة المشي يوميًا بغض النظر عن حالة الطقس. وبالرغم من أنه كان قادرًا على القراءة بدون استخدام النظارات، إلا أنه كان يعاني من الصمم بشكل متزايد. وفي التاسع من سبتمبر 1860 مرض للغاية بشكل مفاجئ، وأسرّ إلى صديقه الحميم وكاتب سيرته في المستقبل ويلهلم قوينر، أنه لا يخاف الموت وإنما أن يدفن حيًا، وطلب منه ضمانًا لتأجيل جنازته ليدفن بشكل مناسب. وفي يوم 21 من سبتمبر عام 1860، استدعت له الخادمة الطبيب الذي وجده ميتًا على الأريكة، حيث توفي بسلام بعد نوبة قلبية. يُذكر أنه قد عاش وحيدًا لسبعة وعشرين عاما في فرانكفورت بصحبة حيواناته الأليفة. و بالفعل تحققت رغبته، حيث بقي جسده تحت الملاحظة في مشرحة لمدة خمس أيام. وأعد قوينر مراسم الجنازة بحضورعدد قليل من أصدقائه. لقد دفن آرثر شوبنهاور يوم 26 سبتمبر تحت لوح مسطّح من الرخام الداكن حمل اسمه فقط.
الخاتمة:
يقول وايتهيد أن كل من الفلاسفة اللاحقين كانوا عبارة عن سلسلة من حواشي كانط. وليكون هناك طريقة أقل إثارة للجدل من العودة إلى نفس النقطة دائمًا، يجب أن نقول إنه لا يوجد نظام للفلسفة يمكننا اعتباره كاملاً بدون الميتافيزيقيا. إن الميتافيزيقيا الخاصة بشوبنهاور بسيطة جدا وهي: أن الإرادة هي جميع الأفكار التي ينبغي مواجهتها وفهمها، باعتبارها العنصر الأول الفطري المحرك لحياتنا. إن هذا التبسيط الشديد مبالغ فيه لمعظم الفلاسفة الحديثين، ولكن له جاذبية لا تقاوم لبعض الفنانين. يُعد شوبنهاور عميقًا وليس مفكرًا دقيقًا – هذا ما يقوله البعض رحمة به، بعد قراءة شيء لأحدهم يخص السعادة مقارنة بما فعله مع الكآبة. لقد استمر وحاول بحماس، ولكن لم تلحقه المحافل. لعل أعدل مقولة قصيرة تنطبق على شوبنهار هي حكمة فولتير: ينبغي أن تُغفر الأخطاء العظيمة في العبقرية الحقة.
عن موقع نقاش