(موبي ديك) الرواية / الفلم

(موبي ديك) الرواية / الفلم

قاسم علوان
كاتب عراقي راحل
توشك أن تكون رواية هرمان ملفيل الشهيرة (موبي ديك) في بدايتها رواية تعليمية بمعنى الكلمة، تعليمية لدرجة مملة، إذ أنها تسهب في نقل تفاصيل كثيرة عن أنواع الحيتان وأسمائها واختلاف أجناسها وأين ورد ذكرها في الكتاب المقدس وعدد المرات وفي أي الأسفار أو أي إصحاح، ومتى ورد أو تكرر فيه ذلك،

إضافة الى المراجع الأدبية والتاريخية الأخرى عن ذلك الموضوع. كما تتطرق الى طرق صيدها وأنواع السفن التي تستعمل لذلك، وعصورها التاريخية المختلفة، وأي البحار توجد فيها تلك الحيتان، وأساليب الصيادين أو الصيد في ذلك، وما إلى ذلك من معلومات أرشيفية عن هذه المهنة ومشاقها وأماكنها، وامتداد ذلك على صفحات طويلة جدا، وهذا قبل أن يدخل في المعالجة الروائية لذلك الموضوع. لكنه لم ينتقل من تلك المعلومات المجردة إلى السرد الروائي بشكل مفاجئ، بل أنسلّ بشكل خفي ملتو بعض الشيء، حتى إننا لم نتفاجأ بوجود إسماعيل وصديقه الأفريقي وهما يبحثان عن سفينة لصيد الحيتان في أحد الموانئ الأمريكية المطلة على المحيط.
وعندما تناولت السينما ولمرات عديدة تلك الرواية، فقد حذت جميع التجارب التالية حذو جون هيوستن عندما أشتغل لأول مرة عليها، بأن تخلص من تلك الفصول التمهيدية، وذلك الإسهاب والإطناب الذي كاد أن يكون مملا وفائضا عن الحاجة والذي شغل جزءا طويلا من الرواية. وتبقى أفضل تلك الأفلام هذه المعالجة السينمائية وأفضلها، عندما أخذ المخرج وكاتب السيناريو رحلة السفينة (الباقوطة) والحيوات التي على سطحها في ملاحقتها للحوت الأبيض (موبي ديك) وبأسلوبه المميز في تقديم الشخصيات وإشباعها باللقطات الكبيرة والمتوسطة، قبل تركها الى موضوع آخر ربما يتقاطع أو يتوازي معها، كل ذلك على سطح السفينة فقط، أو في عنابرها أسفل السطح، كل ذلك بجانب أفق البحر اللامتناهي الذي تخترقه أحيانا نافورات تنفس الحيتان، حيث يستدل بها صيادو الحيتان عليها.. هذه هي حدود المكان الذي كانت تنقلت فيه كاميرا المخرج طول زمن الفلم.
تضمنت الرواية إحالات كثيرة ومباشرة كما أسلفنا إلى الموروث ألتوراتي، ابتداء بتلك الفصول التمهيدية التي تضمنت إستشهادات عديدة من الكتاب المقدس (العهد القديم) تكاد تكون تفصيلية وقريبة جدا من الشريعة الموسوية، والتذكير بمواعظها الأخلاقية التي وردت في التوراة، مثلا نقلت قصة النبي يونان (يونس) الذي ابتلعه الحوت، وكما وردت في تلك الأسفار بكل دقائقها وتفاصيلها، وكذلك التأويلات التي تفترضها الرواية التوراتية، أو يفسر بها المؤلف أو الراوي فيما بعد الموعظة التي تضمنتها أو المستخلصة منها. وحتى أسماء الشخصيات في الرواية فقد دلت وبشكل مباشر على مرجعية توراتية أيضا مباشرة، مثل إسماعيل الشخصية الرئيسية في الرواية.. كابتن السفينة آخاب أو إيهاب…!! ولكن أكثرها دلالة وإيحاءا أسم السفينة التي تلتقي بسفينتنا (الباقوطة) في عرض البحر.. وهي السفينة (راحيل) (لاحظ تطابق هذا الاسم مع أسم زوجة النبي يعقوب أم النبي يوسف والأسباط السبعة..) حيث تلتقي (الباقوطة) بـ (راحيل) وهي في أوج فجيعتها.. عندما فقد قبطانها ابنه غرقا خلال محاولة صيدهم لأحد الحيتان، وهو الآن يبحث عنه ويسأل فيما إذا شاهد أحد أفراد طاقم (الباقوطة) جثته طافية….؟ نلاحظ هنا الاستعارة الضمنية الواضحة من التوراة مع بعض القلب لأطراف الحكاية لتشكيل بناء رمزي جديد مقابل لها من نفس الرموز السابقة، بأن جعل راحيل (السفينة) مفجوعة بابن قبطانها الذي فقده غرقا.. وهذا مقابل رمزي لراحيل زوجة النبي يعقوب في التوراة التي تفقد ولدها النبي يوسف..! ولكن في الوقت نفسه يعود الى مرجعه الأصلي (التوراة) عندما يقود عملية البحث الأب وليس الأم فهو.. قبطان السفينة…! كل هذا إضافة الى أن بطل الرواية إسماعيل الذي يبقى حيا وحده أن بعد غرق جميع البحارة (تضحية دونه) وهو المضحى به كما تقول الرواية…
ان هذا التقارب بدلالات الأسماء وايحاءاتها الرمزية هو من صميم عمل الروائي عندما أشتغل على الرموز الدينية بأن وضعها بأطر جديدة لم تبعد كثيرا عن اطرها المرجعية القديمة. أنها استعارة رائعة حقا، وعندما نقل المخرج هيوستن هذه الاستعارة الى السينما فقد كانت بالقوة نفسها ووضوح الإيحاء والتأثير.
ومن الاستعارات التوراتية الأخرى الواضحة في الرواية، والتي لعبت دورا مهيمنا على صعيد السرد سواء في المنطقة الدينية أو الثيمة المهيمنة في ذلك السرد.. أو في البنية الدرامية في الفلم السينمائي المعد عن تلك الرواية، هو وجود صيادي الحيتان الوثنيين الثلاثة على ظهر السفينة، والذين أستأجرهم بسرية تامة وأخفاهم بحذق أيضا قبطان السفينة آخاب، لكي ينتقم بهم باستغلال مهاراتهم الجسدية من عدوه (الشخصي) الحوت الأبيض (موبي ديك) الذي بتر له ساقه في رحلة هذه السفينة السابقة…! فقد كان وجود أولئك الوثنيين بعد ظهورهم العلني على سطح السفينة نذير شؤم أو حتى خطيئة كبرى..! هذا ما شعر به البحارة الآخرون وخاصة المتدينون منهم على ظهر السفينة، وشعورهم بالإثم من هذا التصرف، والذي هو في حقيقته الشعور الديني بالذنب عند اليهودي، والذي يتأصل بعمق عند المتدينين البروتستانت أيضا كما هو معروف، وبذلك يسود الاعتقاد عند أولئك البحارة بأن هذه الرحلة وهذه السفينة مشئومتين أصلا…! بعد اكتشافهم لأولئك الوثنيين بقربهم، وشعورهم بأن رحلتهم هذه ستكون غير مضمونة العواقب أبدا…!! ولكنهم مضطرون لقبول أولئك الوثنيين كأمر واقع وهم في عرض البحر. هذا إضافة إلى خوفهم من سلطة قبطان السفينة المخيف التي تعززت بوجود أولئك الصيادين المحاربين الأشداء أيضا. وكان آخاب قد فعل ذلك من دون علم مالكي السفينة أنفسهم، وألا لكانوا قد منعوا هذه الرحلة أصلا، كما عرفنا ذلك من أحاديث البحارة المتناثرة فيما بينهم. أما قبول أولئك برفيق إسماعيل moby dick posterالأفريقي الوثني أيضا أثناء التهيئة للرحلة على ظهر الباقوطة، كان لمجرد سد النقص في عدد البحارة من طالبي العمل في ذلك الوقت، وقد كان قبوله بعد تردد واضح منهم ليس إلا.
لقد أشتغل المؤلف على الدلالات والرموز الدينية في هذا الموضوع بشكل واضح وجلي، مثلا خطيئة الانتقام كنزوع فطري لدى البشر، أو عدم القبول بعواقب الأمور كقدر إلهي مكتوب عليهم التسليم به، والتحذير الديني دائما من تحدي أرادة السماء…! وهي هنا الثيمة الرئيسية في الرواية… وكان ذلك بدلالة الإستشهادات المتتالية بنصوص دينية من الكتاب المقدس تتكرر في الرواية كثيرا كما ذكرنا، والتي تنص على تلك المفاهيم والأفكار وتكرار الأمثلة.. وهذا هو ما حصل بالفعل لقبطان السفينة آخاب نتيجة إصراره على إرادته الشخصية بالانتقام والثأر لنفسه، وإصرار آخاب على السير بعكس التقدير السماوي لمصيره المقدر، وبالتالي ما جره ذلك الإصرار على الانتقام من وبال على الجميع.. السفينة ومن على ظهرها، عدا إسماعيل الذي كتبت له النجاة على ظهر التابوت الذي أعد لصديقه الوثني عندما أوشك على الموت بعد مرض ألمّ به إثناء تلك الرحلة المشئومة، ليشفى من المرض قبل نهاية السفينة ومن عليها…!!
أن نجاة إسماعيل في الفيلم تبتعد كثيرا عن الموروث اليهودي وبشكل واضح، ليستعير هرمان ملفيل مضمونا أو فلنقل يعود الى مرجعية أخرى هي من الموروث الإسلامي.. القرآني تحديدا، ألا وهو نجاة إسماعيل من التضحية به، كما تقول الرواية القرآنية بعد استبداله بالكبش…!! وهذا يختلف مع ما تقول به الرواية التوراتية من أن الابن المضحى به كان إسحاق وليس إسماعيل. وحتى شكل النجاة هذا كما رأيناه في الرواية والفلم بذلك (التابوت) الذي هو رمز الموت، والذي تحول إلى أداة إنقاذ حياة…! هو نوع من الحل الديني المفترض، ولكن المشاكس في الوقت نفسه، وسواء من وجهة نظر يهودية أو أسلامية.. هذا الحل الذي أعتمد وسيلة التناقض أصلا بين أداة الموت (التابوت) من جهة، وغريزة حب البقاء أو الحياة والنجاة من جهة أخرى.
كل هذه الاستعارات ذات المضمون الأدبي من الموروث الديني والتي نقلها المخرج حرفيا في فلمه المذكور من الرواية الأصل.. فقد كانت استعارات بليغة سينمائيا في فلم مذهل.