يوسف عمر.. اللقاء الأخير

يوسف عمر.. اللقاء الأخير

د. هاشم حسن
صحفي عراقي
يوسف عمر، صاحب الصوت الجمهوري العذب وشيخ فن المقام في العراق يرقد الان في مثواه الاخير، بعد ان رقد فوق فراش المرض سنوات طويلة. كنا الى جانبه في اواخر ايامه، وفي اللحظات الصعبة التي اجتازها حاورته، فكان لقاؤنا هذا اللقاء الاخير، وكان هذا المقام آخر مقام غناه.

يوسف عمر، اصبح قارئ المقام الاول في العراق بعد الفنان محمد القبنجي.
وفي ما يلي الاسئلة واجوبته عليها:

- يوسف عمر، الا تشعر بالندم على ما بذلته من عناء طوال السنين؟
* لا.. لست نادماً على انني سلكت دروب المقام واحترفت الفن، ولو قدر لي ان اموت وابعث من جديد، لما اخترت طريقا آخر، الفنان ليس لقبا يناله المرء بقرار، وانما هو موهبة تنمو مع الحياة وتجاربها وتشق طريقها في الصخور ولا تتحقق ذاتها بمجرد رغبة الفنان.
-إلام ترد قلة عدد قراء المقام في الوطن العربي؟
* انه فن صعب يحتاج الى مقدرة صوتية وحنجرة من نوع خاص بالاضافة الى انه يحتاج الى الصبر، بالمقام يستوجب دراسة القواعد والاصول النغمية ووسائل الاداء واداب القراءة الصارمة.
وكل الذين دفعتهم احلام الشهرة السريعة من انصاف الموهوبين تركوا المقام منذ الدرس الاول وراحوا يحققون احلامهم عن طريق الاغاني السهلة، ان الاجيال الغنائية الجديدة لا تجيد اداء ابسط انواع المقامات بالدقة والعناية المطلوبتين، بل ان اعظم الاصوات واشهر النجوم تنهزم دون شك في هذا الاختبار، وهم بدلا من الاعتراف بهذه الحقيقة يتهمون المقام ويشككون باذواق مستمعيه.
- واين وصلت مع المقام؟
* خلال رحلة فنية طويلة انتزعت من عمري عشرات السنين، تمكنت من اداء كل انواع المقامات الاصول والفروع، ويشهد لي الجميع بانني قد اتممت وخضت كل فنون القراءة في هذا الفن.
ولا اعتقد ان هناك من سبقني في هذا الحال سوى معلمي وشيخي الفنان محمد القبنجي.
- ولكن هذا لا ينفي ان هناك نخبة من الشباب تؤدي المقام.
* منذ سنوات وانا اراقب معي مجموعة من الشباب للسيطرة على قواعد المقام واصوله، وقد استمعت لبعضهم، خصوصا طلاب معهد الدراسات النغمية واساتذته وهو الجهة المعنية بهذا الفن وبالاته الموسيقية، اكتشفت ان هناك خامات جيدة تحتاج الى وقت وجهد حتى تتبلور القدرة على الاداء.
- اذا كنت قد ورثت هذا الفن عن القبنجي، فمن هو وريثك او خليفتك؟
* ليس المقام وراثة او عرشا يتطلب وليا المعهد الناس وحدهم هم الذين سيقررون من الاجدر بحمل رسالة هذا الفن، ولست انا الذي اقرر.
لا شك في ان هناك الان قراء للمقام الفنان حسين اسماعيل قارئ جيد متمكن من الاداء.
- ماذا يميزك عن غيرك؟
* حبي الكبير لهذا الفن، واتقاني لكل انواعه، ثم انني وضعت العديد من الاشعار للمقامات.
- كيف كانت البداية؟
* في العشرينات من هذا القرن كنت تلميذا في احدى مدارس بغداد الابتدائية. ولقد لفت انتباهي حينذاك بعض الشيوخ والمعلمين اصحاب العمائم الذين اشتهروا باداء التلاوات والموشحات والمواويل والاناشيد والتواشيح الدينية التي تكثر في مجالس الذكر قادتني الصدفة الى حضور هذه المجالس ورأى بعض المشايخ والقراء في صوتي ما دفعهم لان يطلبوا مني القراءة احيانا نيابة عنهم، وذات مرة تأخر احد القراء المشاهير فازاد احد المتنفذين ان يلهي الناس وطالبهم بان يستمعوا الي وفي اثناء قراءتي حضر القارئ الشهير فاستمع الي ايضا واعجبه صوتي، وانعقدت بيننا اواصر صداقة متينة حتى اخذت منه كل فنه قبل التتلمذ على محمد القبنجي.
الفنان الحقيقي هو الذي يصعد ويثابر ويتحدى كل الضغوط، والمقام كان ولا يزال فنيا رفيعا تصغي اليه نخبة من اصحاب الاذواق الرفيعة، وكانت مجالس المقام تضم شخصيات سياسية لها شان كبير.
-اين كانت قراءة المقامات؟
* كنا نؤدي المقام في اماكن الرياضة التي كانت تسمى في السابق"الزروخانات"وهي الاماكن التي تمارس فيها العاب القوى، فكان قارئ المقام يثير حماستهم ويشدهم للعب الذي تتصاعد ذروته مع تصاعد الانغام، ويتطلب ذلك من قارئ المقام نفسه ان يرتدي ملابس الرياضيين ذاتها.
وفي المقابل يردد الرياضيين الحان المطرب وكلماته.
- ومتى دخلت الاذاعة؟
* قرب نهاية الاربعينات حيث كنت اسجل للاذاعة نهارا، وفي الليالي اقرأ في الموالد ومجالس الذكر.
- هل ثمة اماكن بغدادية اخرى شهدت حفلات للغناء والمقام؟
* كانت بغداد في مطلع هذا القرن، وخصوصا في باب المعظم وساحة الميدان مليئة بالمقاهي الشعبية التي كانت ذات نكهة وطقوس جميلة.. فهي عبارة عن مسارح مصغرة تؤدي فيها شتى انواع الفنون وتجتمع على ارائكها مختلف الشخصيات كالوزارة والصعاليك، وقد التقيت ام كلثوم في احدى هذه المقاهي الشعبية حين زارت بغداد ومن هذه المقاهي تخرج الادباء والفنون ورجال السياسة وكان لكل مقهى مطربه وشاعره ومحاربوه.
- بعض النساء حاولن تأدية المقام اليس كذلك، نتذكر"صديقة الملاية"و»مائدة نزهة"على سبيل المثال؟
* المرأة لا تنجح في اداء المقام ذلك ان الطبيعة الناعمة الرقيقة لصوت المرأة لا تلائم فن المقام الذي يتطلب حنجرة قوية تنطلق منها اصوات عنيفة وعذبة في آن معاً.... تماما كالشلال يسقط ويزمجر بقوة وسرعان ما ينساب بهدوء ورقة.. صوت المرأة ليس شلالا، بل نسمة.
-.. وام كلثوم؟
* موهبة خارقة ذات نوع غنائي خاص وطريقة مميزة في الاداء.. انها عملاقة فريدة، اعتقد انها لا تظهر غير مرة واحدة ربما في عدة قرون وام كلثوم لم تجرب اداء المقام ولكنني احفظ اغانيها وقد غنيت بعضها وخصوصا القصائد.
- انت معجب جدا بام كلثوم؟
* ومعجب ايضا بمحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش.
- والطرب العراقي؟
* انا منحاز للغناء الريفي لانه احتفظ بالنكهة العراقية اما الانماط الغنائية الحالية، فلست اميل الى سماعها.
- ما هو اصعب انواع المقامات؟
- حجاز شيطاني، وله عدة فروع، واسمه يدل عليه، فهو لا يسيطر عليه.
- هل هناك اصوات عربية تتمتع بالقدرة على اداء المقام؟
* هناك اصوات، لو جرب اصحابها المقام لنجحوا كصباح فخري مثلا، وبهذه المناسبة ادعو الى انشاء معاهد لدراسة المقام والموشحات حتى لا تنقرض.
- البعض يدعو لتدوين المقام؟
* مضت سنوات طويلة وانا اسمع عن هذه الدعوات، وكان اصحابها لا يجدون الحبر ولا الورق.
- الاشرطة تملأ الاسواق؟
* ظهر العديد من الاشرطة دون علمي، وهي تسيء الى سمعتي الفنية، فانا لم افكر في تسجيل الحفلات والجلسات الخاصة، الشريط وثيقة لذلك يجب ان يتم التسجيل بشكل علمي غير تجاري.

م. الوطن العربي عام 1986