كلية الحقوق ودورها في إسقاط معاهدة ((بورتسموث))

كلية الحقوق ودورها في إسقاط معاهدة ((بورتسموث))

تغريد عباس السعدي
أثبتت كلية الحقوق عبر مسيرتها الحافلة بالأحداث والإنجازات، انها مصدر إشعاع فكري وقانوني وانساني، فقد كان لخريجيها إسهام كبير في بناء الحياة الإجتماعية، وتثبيت ودعم المفاهيم القانونية ومبادئ العدالة في المجتمع العراقي، فقد أمدت البلاد منذ تأسيس دولة العراق الحديث في العشرينيات من القرن الماضي برجال كانت البلاد بأمس الحاجة اليهم، للقيام بأهم الوظائف وأخطرها في الإدارة والقضاء والسياسة والقانون والحياة العامة.

فكان منهم رؤساء وزارات ووزراء وأعضاء في مجلس النواب وقضاة لامعون، إشتهروا بعدالتهم، ومحامون برزوا في مجال القضاء واكتسبوا سمعة طيبة في مواقفهم ودفاعهم عن الحق، وبرز من خريجيها قادة أحزاب سياسية ومنظمات مهنية دافعت عن العراق وحقوق الإنسان، ووقفت في وجه التسلط والإستبداد، وهذا دليل على مدى إرتباطها الصميم بحاجة المجتمع إلى الثقافة وبناء أسس وقواعد العدل.
لذا أسهمت كلية الحقوق في بناء الدولة العراقية الحديثة، لا بل أسهمت بالنصيب الأكبر في عملية البناء، سواء كان ذلك الاسهام من خلال تكوين النخبة السياسية، أو تكوين النخبة القانونية، أو تكوين النخبة الإجتماعية (الحياة العامة)، فخريجو كلية الحقوق هم الذين قادوا عملية انشاء هذه الدولة منذ التأسيس وحتى يومنا هذا، ولم يقتصر تخصص هؤلاء على القانون والسياسة، بل انهم عملوا في مختلف المجالات، كالصحافة والفنون والإقتصاد والادب وغيرها، فخرج من ابوابها حتى علماء الدين.
كانت انتفاضة مايس 1941 التحررية، أهم حدث سياسي شهدته الساحة العراقية بإعتبارها حركة وطنية معادية للوجود البريطاني في العراق، فأول الامر ظهرت معارضة الشعب العراقي بجميع فئاته التي تجمهرت بعد إعلان رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء إستقالته في 31 كانون الثاني 1941، إلى الوصي في الديوانية، سيما بعد أن تأزم الموقف السياسي، فقد شاركت كلية الحقوق والكليات الاخرى مع جماهير الشعب في هذه الانتفاضة، ودعت الاحزاب السياسية الشعب إلى التظاهر والإستنكار بوجه التدخل الاجنبي في العراق... وفي الموعد الذي حدد للتظاهر تجمع المتظاهرون في الاعظمية وساحة كلية الحقوق، وقرب محطة عربات الترامواي في الكرخ، إلا أن الشرطة قامت بتفريق التجمعات.
إستمرت الأحداث السياسية في مد وجزر، فقد قوبلت إنتفاضة العراق بتأييد واسع على الصعيد الشعبي في الداخل وعلى نطاق الوطن العربي، وأدرك العراقيون أن الحرب العراقية- البريطانية تضع المواطن بموقف صعب، فإما أن يكون مع الوطن او مع البريطانيين، ولهذا وقفت غالبية الشعب العراقي ضد البريطانيين، وأصدر رجال الدين فتاوى تدعو لمقاومتهم ومساندة الانتفاضة، وشكلت وحدات من كتائب الشباب التي تضم الفتيان والفتيات من طلاب المدارس العالية والكليات، سيما طلبة كلية الحقوق والموظفين وأرباب المصالح بشكل حركة منظمة، وتدريبهم على السلاح، كما سوندت الحركة من قبل المنظمات والاحزاب القومية....
عانت كلية الحقوق مع بقية الكليات بعد الأحداث، حسب وصف الاستاذ سالم عبيد النعمان عن تلك الايام في مجلة (صدى الجامعة)، إذ قال:
كنت من الذين قُبلوا في كلية الحقوق في العام الدراسي 1941-1942، وكان عام 1941 الذي تخرجنا فيه من الثانوية عام عاصف حقاً، ففيه هرب الوصي على العرش، وهو رئيس الدولة، محتمياً بالقاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وهي قرب مدينة الرمادي، وهرب تباعاً أقطاب الفئة الحاكمة، فقام الإنقلابيون العسكريون القوميون بتشكيل حكومة الدفاع الوطني التي رأسها رشيد عالي الكيلاني، فشن الغزاة الانكليز الحرب عليها، وحظيت حكومة الدفاع الوطني بتأييد شعبي عارم، وبدلاً من أن تستفيد من هذا التأييد وتوجه الشعب توجهاً لمحاربة الغزاة، وبعد إنتهاء مدة الحكومة مهد رشيد عالي الكيلاني ورفاقه الى الهرب... وهكذا دخل البريطانيين بغداد وأعادوا حكومة الوصي بالقوة، وأحتل الانكليز العراق من جديد.
سارعت الفئة الحاكمة للإنتقام من الشعب ومن الطلاب، فحددت القبول في الكليات سيما كلية الحقوق بخمسين طالباً فقط لكل كلية، وقد وصل الحقد على الطلبة نتيجة مشاركتهم في الإنتفاضة الى مثل هذا المستوى من التقيد، والحكومة الوطنية هي التي تشجع التعليم لا أن تغلق عليه الابواب، ويستمر سالم عبيد النعمان بالحديث قائلاً: في هذا الجو القاسي دخلنا الكلية بإعادة إحتلال بلادنا، ثم حرب عالمية ثانية كانت في اوج معاركها، ولم تعرف في تلك السنة ما هي اسباب الحرب ومن سيحسم المعركة، وقد وصف الحالة الشاعر الكبير الجواهري بالبيتين التاليين:

وإنبرى التاريخ في حيرته
أ أماما يتخطى أم وراء
وسرت أنباء سوء تدعي
أن ريحا تنذر الدنيا وباء

كان عام 1948 مليء بالأحداث التي مرت بالعراق والعالم العربي، ففي هذا العام إرتكبت الامم المتحدة أبشع جريمة بحق الشعوب بالقرار الذي إتخذته بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وعبرية، وبعد دقائق من صدوره قبل الكيان الصهيوني دولة عضواً في الامم المتحدة، فعمت الوطن العربي مظاهرات وكان للعراق نصيب كبير فيها، حيث إشتركت فيها جميع طوائف الشعب، وفي مقدمتهم طلاب الجامعات والمدارس الاخرى، وكان لطلبة كلية الحقوق الاثر البارز في تسيير تلك المظاهرات وتنظيمها بالتعاون مع القيادات الطلابية في الكليات والمدارس الاخرى.
تسبب هذا الحدث في إزدياد المرارة ضد الدول التي شاركت في مؤامرة التقسيم، وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة وبقية الدول الاعضاء في مجلس الامن، مما زاد من سخط العراقيين على بريطانيا التي وقعت في 15 كانون الثاني 1948 مع الحكومة العراقية المعاهدة المسماة”معاهدة بورتسموث"، وقد استقبلت الجماهير العراقية المفاوضات وتوقيع المعاهدة بطريقة النضال المستمر لإسقاطها.
فكانت بداية النضال ضد محاولة بريطانيا ربط العراق بمعاهدة جديدة بعد إعلان وزير الخارجية عن بدء المفاوضات الذي نشر في بغداد بتاريخ 4 كانون الثاني، واصبح حديث الاوساط السياسية، فإجتمع طلاب كلية الحقوق في صباح اليوم نفسه في مصلى كلية الحقوق، وقرروا القيام بمظاهرة يوم 5 كانون الثاني، والذهاب إلى مجلس الوزراء والبلاط الملكي والسفارتين البريطانية والامريكية، للإحتجاج ضد تقسيم فلسطين وضد المعاهدة العراقية-البريطانية التي تنوي الحكومة عقدها.
إتُخذت التدابير من قِبل الشرطة لقمع هذه المظاهرة في مهدها بالطرق السلمية، وكانت الشرطة قد وزعت في الطرق المؤدية إلى الكلية، فبقي الطلاب في داخل الكلية وامام ساحتها الخارجية، وكانوا يلقون بعض الخطب والهتافات ضد المعاهدة العراقية-البريطانية، وعندما حاولوا الخروج من الكلية داهمتهم الشرطة وحدثت مصادمة بين الطرفين أدت الى جرح عدد منهم، وتشير التقارير الرسمية إلى أن الطلاب هم الذين بادروا برمي الشرطة بالحجارة وبما يحملون بأيديهم من العصي والقناني الفارغة، ثم تطور الوضع الى إطلاق النار، وذكرت بعض المصادر أن شرطة الخيالة إنهالت بالعصي الغليظة على رؤوس الطلاب الذين إعتصموا داخل كليتهم، وعندما حاولت الشرطة إقتحام كلية الحقوق، إستعمل الطلبة”الحجارة”لصدهم، ولم تنته المعركة إلا بعد تدخل العمادة وإحتجاجها على إنتهاك الشرطة لحرم الجامعة، حيث صدرت الاوامر بسحب الشرطة وعودة الهدوء لحرم الكلية، وبعد ساعتين طلبت العمادة من الطلاب الإنصراف الى منازلهم.
بقي رجال الشرطة يطوقون الكلية حتى الساعة الحادية عشرة والنصف، وقد جرح عدد كبير من الطلبة، كما جرح (28) شرطياً من المشاة و(14) شرطياً من الخيالة.
إتخذت السلطات إجراءات لمنع تكرار المظاهرات بإلقاء القبض على العناصر القيادية الطلابية وعددهم خمسة وعشرون طالباً، وبينهم طالبة واحدة هي المرحومة”صبيحة المدرس"، وقد أُطلق سراحهم بعد زيارة مسؤول كبير في وزارة المعارف ناصحاً ومحذراً من الإنجراف وراء عملاء السوء.
وقد قررت السلطات تعطيل الدراسة في كلية الحقوق بتاريخ 5 كانون الثاني 1948 وإلى اجل غير مسمى، وتشكيل لجنة تتكون اللجنة من (سيد عبد العزيز الخياط عضو محكمة التمييز رئيساً وعضوية كل من السيد مظفر احمد متصرف لواء بغداد، والسيد عبد الله الشواف مدير العشائر العام)، إدارية للتحقيق، وإدعى مجلس الوزراء أن بعض طلاب كلية الحقوق يحملون مبادىء تمنعها القوانين، وأن عدداً منهم يتركون الدراسة في كثير من الاحيان ويقومون بمظاهرات غير مسموح بها، وقرر المجلس الإيعاز إلى وزارة العدلية للقيام بالتحقيقات القانونية فوراً، للوقوف على الاسباب التي دعت إلى التصادم بين الشرطة والطلاب، والتحقيق بصورة خاصة مع المحرضين والمشتركين في المظاهرات لإحالتهم إلى القضاء، وقرر المجلس ايضاً الإيعاز إلى وزارة المعارف لرفع تقرير مفصل عن حالة الكلية وهيأتها وإدارتها والقائمين بشؤونها، ودرجة علاقتهم بهذه المظاهرات، والاسباب التي دعت الى إفساح المجال لدخول بعض المبادىء”الهدامة”إلى هذه الكلية، وعما إذا يوجد بين اساتذتها ومحاضريها من يعتنق امثال هذا المذهب، وكان من نتيجة ذلك نقل وكيل عميد الكلية وبعض اساتذتها الى كلية اخرى.

أما الموقوفين من طلاب كلية الحقوق فهم:
"صفاء سامي الاورفلي، وعدنان فرهاد، ومطاوع الخضري، وخلوق امين زكي، وجمال ايوب صبري، وفاضل حداثة، وعلاء الدين درويش لطفي، وزكي جميل، مؤيد ثنيان، وعلاء الدين صبري البياتي، وسعيد الدجيلي، ومنعم محمد خليل، وعواد مهدي العزاوي، وإبراهيم حمادي الربيعي، ومصطفى الواعظ، وعبد الجبار عبد القادر صالح، وإسماعيل عبد الحميد علي، واحمد عبد الجبار، وعاصم خضير الحاج علي، ونادر الشيخ خزعل، وخليل محمد الحاج سلطان، وحازم توحلة وهادي ثنيان"، أما الطالبات فهن”صبيحة المدرس وآيتين الرحال"، واطلق سراحهما بعد يوم.
كان رد الفعل الشعبي لحادثة كلية الحقوق قوياً، واصدرت الاحزاب السياسية بيانات إستنكرت فيها إعتداء الشرطة على الطلاب، وطالبت بإطلاق سراح الطلبة المعتقلين وإستئناف الدراسة، أما على صعيد نشاطات الطلبة في بقية الكليات الاخرى، فقد أعلن الاضراب عن الدراسة في كلية الصيدلة، ودار المعلمين العالية والهندسة والطب وغيرها بتاريخ 6 كانون الثاني، وحتى تستجاب مطاليبهم التي رُفعت بمذكرات إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية وتضمنت ما يلي:
1- إطلاق سراح طلاب وطالبات كلية الحقوق الموقوفين.
2- فتح كلية الحقوق والإستمرار بالدوام.
3- معاقبة المسؤولين في حادث الحقوق المستنكر.
4- إلغاء المعاهدة العراقية-البريطانية.
5- القيام بالأعمال السريعة لإنقاذ فلسطين العربية من الإستعمار والصهيونية.
أدى إستمرار الإضراب إلى إستجابة الحكومة لعدد من المطاليب، ومنها إستئناف الدراسة في كلية الحقوق إعتباراً من 8 كانون الثاني.
عاد الهدوء إلى الكليات والمعاهد العالية، في الوقت الذي إستمر فيه الوفد العراقي في مفاوضاته في لندن، فتم توقيع المعاهدة في بورتسموث في 15 كانون الثاني، ونشرت في الصحف المحلية في 16 كانون الثاني، فأعلن الطلبة الإضراب العام، وهاجمت الاحزاب السياسية المعاهدة ودعت الشعب العراقي إلى رفضها.
زادت حدة المظاهرات بالشدة يوماً بعد يوم، وكان اعنفها تلك التي حدثت يوم 27 كانون الثاني، حيث أطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين المتواجدين على جسر الشهداء وسقط شهيداً”جعفر الجواهري"، الموظف في كلية الحقوق آنذاك، وفي محاولة للهروب من الرصاص رمى العديد من المتظاهرين أنفسهم في النهر، وإستشهد اخرون تحت الاقدام، ولم تهدأ بغداد والمدن الأخرى إلا بعد أن إستقالت الوزارة، ودعا الوصي عبد الاله الشعب العراقي الى الهدوء والسكينة، وتأليف وزارة اخرى برئاسة السيد محمد الصدر في 29 كانون الثاني 1948، إنضم إليها عدد من قادة الاحزاب السياسية بعد قبول طلبهم لإجراء تحقيق قضائي نزيه، وتعويض اسر الشهداء، وحل المجلس النيابي، وإجراء الانتخابات، ورفض مشروع المعاهدة، فقامت الوزارة بإصدار قرار بعدم الموافقة على معاهدة بورتسموث، لأنها لا تمثل مطالب الشعب العراقي.
ولقد تأثر الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) لإستشهاد اخيه جعفر الجواهري وباقي الشهداء، لذا رثاهم بقصيدة مطولة منها:
أتعلمُ أم انتَ لا تعلم بأن جراحِ الضحايا فمُ
أتعلمُ أنّ جراحَ الشهيدِ تظلُ عن الثأرِ تستفهمُ

ونتيجة للضغط الشعبي وإستمرار المظاهرات، سيما في كلية الحقوق، تم إعادة الدوام لجميع الكليات والمدارس، وعاد الطلبة إلى دراستهم وإلى نشاطهم الاجتماعي، وطلب من هيئة التحرير (مجلة الحقوق) المباشرة بإعداد العدد الثاني من المجلة، وكان العدد الاول قد صدر بتاريخ 30 كانون الثاني عام 1948، (يوم الوثبة)، وساهم في تحريرها عدد كبير من الموظفين والإداريين في كلية الحقوق، وكتب مقالها الإفتتاحي الذي حمل عنوان”الاحزاب السياسية النظام والديمقراطية"، زكي جميل حافظ، وإحتوى العدد على المسرحية السياسية”بنت الرافدين”لعدنان الراوي، وقد مثلت في إحدى المدارس الثانوية، وتضمن ايضاً (صور قديمة) لبعض اساتذة الكلية ورسوم كاريكاتورية، ومقالات قانونية وادبية ومقتطفات من المعلقات السبعة لمشاهير شعراء العصر العربي الجاهلي، وقد لاقت المجلة إستحسان الإدارة والطلبة.
مثلت حادثة كلية الحقوق إيقاضاً للروح الوطنية النائمة في قرارة النفوس، وبقي الناس يتطلعون الى ما سيلد من أحداث، وما يكشف عنه المستقبل... وكانت سبباً في دفع الاحزاب لرسم خططها المقبلة، ومواجهة كل ما يراد بالبلاد من كيد وإستبداد.

عن رسالة (كلية الحقوق 1928 ـــ 1958)