كامل الجادرجي في الثلاثينيات

كامل الجادرجي في الثلاثينيات

سعاد محمد مرهج
انتمى كامل الجادرجي في بداية حياته السياسية إلى حزب الشعب، الذي اجيز من قبل وزارة الداخلية في 3/كانون الأول/1925م، إذ أصبح له كيان رسمي وكانت شعارات الحزب، الاخلاص والتضامن والتضحية. وذلك لأسباب عدة، ابرزها انه كان يرتبط بصلة قوية بـ ياسين الهاشمي رئيس الحزب عندما عينه الاخير في عام 1926م سكرتيرا خاصا للشؤون البرلمانية،

فضلا عن ذلك ان حزب الشعب كان حزبا معارضا، لحزب التقدم، الذي اسسه عبد المحسن السعدون في 26/حزيران/1925م وكان حزبا سياسيا برلمانيا بحسب التقاليد الدستورية المتبعة في البلاد الديمقراطية، الذي كان في الحكم حينذاك، الامر الذي يؤكد وبدون شك ان الجادرجي قد اختار طريق المعارضة أسلوبا سياسيا لمواجهة سياسة السلطة الحاكمة.
ان منهاج حزب الشعب قد استهوى الجادرجي كثيرا، لا سيما انه تضمن السعي لاسعاد الشعب، وتأمين الاستقلال التام، وبناء الدولة العراقية على اسس وطنية قوية.

ثمة حقيقة تأريخية لابد من ذكرها الا وهي، ان ياسين الهاشمي رئيس حزب الشعب كان يروم من تأسيس حزبه استقطاب الشباب ليكونوا نواة لكتلة برلمانية معارضة في مجلس النواب، الامر الذي حفز الجادرجي إلى ترشيح نفسه عن لواء الدليم، مما مكنه من الفوز في انتخاب عام 1927م، وهذا ما اثار حفيظة حساده، فانبرى الصحفي المعروف إبراهيم صالح شكر يهاجمه في جريدة الزمان ويتساءل عن هذا الفتى الذي اقتحم اسوار البرلمان على اكتاف ياسين الهاشمي واخذ مقعده بين الشيوخ والكهول.
وعندما اصبح ياسين الهاشمي رئيس حزب الشعب وزيراً للمالية في 19أيلول 1929 – 13 تشرين الثاني 1929م، تضاءل دور الحزب، وبدأت”تتقاذفه الأهواء الخاصة»، الأمر الذي ادى بالنهاية إلى”اضعاف الحزب وإضعاف المعارضة».
وعلى الرغم من نهاية حزب الشعب، الا ان الجادرجي ظل على صلة وثيقة بياسين الهاشمي، فعندما اسس الأخير حزب الإخاء الوطني الذي اجازته وزارة الداخلية في 25/تشرين الثاني/1930م وكان صورة مكبرة لحزب الشعب، انضم الجادرجي له، واصبح احد أعضاء الهيئة المؤسسة له، فضلا عن انه تولى مسؤولية جريدة الاخاء الوطني التي اصدرها الحزب دفاعا عن آرائه وتعبيراً عن مواقفه.
ان الهدف الاساس من تأسيس حزب الاخاء الوطني، كان من اجل احباط معاهدة 1930 في العراق، الا ان الحزب لم يتمكن من ذلك، بسبب وجود حزب العهد الذي أقرته وزارة الداخلية في 14/تشرين الأول/1930م، الذي أسسه نوري السعيد، من اجل إبرام المعاهدة المذكورة.
من اجل ذلك رأى حزب الإخاء الوطني ان أفضل سبيل لتقوية دوره، وإضعاف حزب العهد هو توحيد جهوده مع الحزب الوطني العراقي، الذي أسسه جعفر ابو التمن(، إذ تألفت جبهة وطنية وضعت ميثاقا لها في 16/تشرين الثاني/1930م سميت بجبهة التآخي او وثيقة التآخي.
بذل رجال الحزبين كل ما بوسعهم من اجل فضح الوزارة السعيدية الأولى في 23/اذار/1930م – 19/تشرين الأول/1931م، التي ابرمت معاهدة 1930م، إذ قام كامل الجادرجي وعدد من رفاقه بجولة سياسية لمدن الفرات الاوسط وذلك من اجل”تأليب شيوخ العشائر والرأي العام ضد الحكومة والضغط عليها من اجل عدم التصديق على المعاهدة».
لم تستمر الجبهة الوطنية بين الحزبين طويلا، اذ انسحب الحزب الوطني العراقي منها، بعد ان شارك بعض انصار حزب الاخاء الوطني في وزارة رشيد عالي الكيلاني 20/آذار/1933م – 9/ايلول/1933م، الامر الذي دفع الجادرجي الى أن ينسحب من حزب الاخاء الوطني وذلك بسبب مواقف الحزب المتذبذبة.
ان انسحاب الجادرجي من حزب الإخاء الوطني لا يعني نهاية مطافه السياسي، بل بدأ يبحث عن تنظيم سياسي يعبر عن طموحاته الوطنية.
انضمامه إلى جماعة الأهالي :
رأى كامل الجادرجي في جماعة الأهالي ما يلبي طموحه وأفكاره، اذ تُعد أول مدرسة ديمقراطية، طورت أفكارها مواكبة للتحولات الاجتماعية لتحقيق الأهداف الوطنية في جماعة الأهالي، كما اصطلح عليها مدرسة الأهالي. وهناك من يطلق على جماعة الأهالي خطأ حزب الأهالي.
تمثل جماعة الأهالي، تجمعاً وطنياً تقدميا، ضم بعض الإصلاحيين والليبراليين، الذين اهتموا بالإصلاح الاجتماعي، كأساس لأي إصلاح سياسي، كما انهم اول هيئة محلية نشأت في بلد عربي، حاولت ان تربط بين أفكار الجيل الجديد والسياسيين القدماء.
بذل الجادرجي كل ما بوسعه من اجل ديمومة أفكار جماعة الأهالي، اذ اقترح تأسيس هيئة غير سياسية سميت فيما بعد”جمعية السعي لمكافحة الامية»، التي كانت تدعو في الظاهر إلى مكافحة الامية بين المواطنين، الا ان الغرض الاساس منها هو العمل السياسي، ويرجع السبب في ذلك لأن معظم جماعة الأهالي كانوا موظفين مدنيين ولم يكن يسمح لهم، بموجب القانون، الانتساب إلى الأحزاب السياسية، وهي التي اصبحت فيما بعد اساسا لمنهج”جمعية الإصلاح الشعبي».
ينبغي الإشارة إلى ان الجادرجي على الرغم من كونه صاحب فكرة تأسيس الجمعية الا انه لم يصبح رئيساً لها، بل كان احد أعضاء الهيئة الإدارية المركزية.
لقد مثل عام 1931م منعطفا جديدا في حياة الجادرجي حيث شهد انتماءه إلى حزب الآخاء الوطني الذي كان يرأسه ياسين الهاشمي، إذ اختاره الاخير من بين الشباب ليكون عضوا في اللجنة العليا للحزب وأوعز له بتولي مسؤولية جريدة الآخاء الوطني التي كان يصدرها الحزب لطرح أفكاره والتعبير عن مواقفه.
وظهر اسم كامل الجادرجي في العدد التاسع عشر الصادر يوم الاحد 23/آب/1931م بوصفه المدير المسؤول للجريدة، وكتب المقال الافتتاحي لذلك العدد بعنوان”عيد الجلوس الملكي عبر غالية”الذي سلط فيه الضوء على الذكرى العاشرة لارتقاء صاحب الجلالة الملك فيصل الاول عرش العراق في 23/آب/1921م، فقد كانت لهذه الذكرى صداها في النفوس لان يومها ذو قيمة في تأريخ العراق الحديث جاء فيه”يتفانى الشعب في الاخلاص لمليكه اذ يرى في ذاته حاميا لدستوره ويصون بصدور ابناءه عرشه اذ يجد في العرش رمز جهاده وعنوان سعيه في الخلاص من السيطرة الغربية...».
لم يكتف الجادرجي بذلك، فقد حاول ان يعيد الذاكرة عندما توج الملك فيصل على عرش العراق وإثارته موضوعاً في غاية الأهمية تمثل في السيادة والحكم وعلاقة ذلك في العلاقات السياسية بين العراق وبين حليفته بريطانيا والتي يجب ان لا تتعدى صلات الدول المتحالفة المتحدة المصالح.
أراد الجادرجي ان يؤكد في مقاله ان الانتداب هو اللون الجديد من الاستعمار يتقمص ثوب معاهدة التحالف فظل الشعب من ذلك اليوم في نضال عنيف مع حليفته بريطانيا، ويتساءل هل المصائب ان تعقد الوزارة السعيدية بعد ذلك النضال معاهدة 30 حزيران 1930 وترجع بها البلاد من الانتداب إلى الاحتلال وتحكم على العراق بأن يبقى راضخا لسيطرة اجنبية مثلوم السيادة ربع قرن؟.
بينّ كامل الجادرجي في مقال افتتاحي نشر على اربعة اعمدة وكانت الصفحة بأكملها بستة اعمدة فقط تحت عنوان”معنى السيادة في عصر الديمقراطية”دعا فيه إلى ضرورة مشاركة الشعب في ديمقراطية برلمانية صحيحة من اجل تحقيق التقدم.
اشار فيه إلى أنّ وضع الملك في الامم الديمقراطية دقيق للغاية لا يتم له الكيان الا عندما يتمتع الفرد بحقوقه كافة الاجتماعية والسياسية فالملك في الدولة الديمقراطية – ما عدا القيام بواجباته الدستورية – يجب ان يكون ممثلاً لروح العدل بكل ما تشتمل عليه الكلمة من معان دقيقة فيجب ان يحتفظ بحياده التام تجاه الأحزاب والكتل السياسية ويجب ان يراقب تطبيق القوانين بنظر حكيم وامعان تام ويجب ان يقر بالحق وينتصر له دون سواه، ويرأف بزيد كما يرأف بعمرو وبذلك دون سواه يستطيع القيام بواجبه تجاه الامة....
وبعد اندماج الحزبين [حزب الاخاء الوطني والحزب الوطني العراقي] وإصدار وثيقة التآخي بينهما كتب كامل الجادرجي مقالا افتتاحيا تحت عنوان”احتجاج الحزبين حزب الاخاء الوطني والحزب الوطني على تصرفات الوزارة من جمعية اصحاب الصنائع».
«يأسف الحزبان المتآخيان ان يصدفا من وقت لاخر حوادث مؤلمة تأتي بها الوزارة بصورة مخلة بحريات الأفراد المكفولة بالدستور مما تضطر إلى تكرار التصديع لجلالتكم بالاحتجاج عنها، إذ تأسست في هذه البلاد جمعية اصحاب الصنائع لتنظيم امور ارباب المهن وتهذيبهم والمدافعة عن مصالحهم... وذلك لما قامت به ضد هذه الجمعية من المأساة المحزنة منها القاء القبض على رئيس هذه الجمعية، ومنها تدخل الوزارة في شؤون هذه الجمعية».
طلت علينا جريدة الاخبار في العدد (80)، إذ حملت التسلسل نفسهُ لجريدة الآخاء الوطني أي كانت امتداداً لها ونشرت في ذلك مقالا افتتاحيا بعنوان:”عطلت جريدة الآخاء الوطني”وذلك بناءً على امر وكيل وزير الداخلية إذ لم يرق في نظر وزارة الداخلية ان تستمر جريدة المعارضة على معارضتها فرأت في مقالة”ومع ذلك يجتمعون»، تحديا لمجلسهم وذكرت الجريدة (نحن لم نصف هذا المجلس بأقل من حقيقته ولم نقل فيه أكثر من رأي الحزب الصريح، والغريب ان الوزارة القائمة لا تنفك في كل انذار توجهه بأنها تتهم الجريدة المعطلة بأنها تنشر مقالات واخبارا من شأنها اثارة الكراهية على الحكومة والاخلال بسلامة الدول إلى آخر ما هنالك من غرض واتجاهات) فتم تعطيلها لمدة شهر واحد.
انضمام كامل الجادرجي إلى جماعة الأهالي :
تأسست جماعة الأهالي في السنوات الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد قدم حسين جميل طلبا إلى وزارة الداخلية في 16/حزيران/1931م لإصدار صحيفة سياسية يومية بأسم الأهالي، نيابة عن مؤسسي المشروع للحصول على امتياز بإصدار الجريدة.
ان ذلك الاختيار كان رغبة في ان يكون الاسم مشتقا من معنى الشعب، فضلا عن تأثر الجماعة التي اصدرت الجريدة بحزب الوفد المصري، وصحافته التي كانت معروفة بكفاحها الوطني، ومن ابرز جرائد الحزب آنذاك جريدة الأهالي لصاحبها عبد القادر حمزة، والتي كانت تصدر في مدينة الإسكندرية بمصر.
وبالنظر لإعجاب كامل الجادرجي بنوعية الجريدة الجديدة اذ كان المدير المسؤول لجريدة الآخاء الوطني آنذاك كتب كلمة في جريدته الأخيرة يرحب بالجريدة الجديدة ويتمنى لها التوفيق في مساعيها، وبعد مدة قصيرة شعر كامل الجادرجي انه اقرب إلى جماعة الأهالي منه إلى حزب الآخاء الوطني هذا ما اكده رفيق دربه محمد حديد في مذكراته، وروى كامل الجادرجي ذكرياته مع جماعة الأهالي قائلا :”... وقد حصلت رغبة من الجهتين على ما اعتقد فمن جهتي كنت اود الاتصال بهذه الجماعة وكانت نفس الرغبة من جهتهم فاتصلت اولا مع عبد الفتاح إبراهيم ثم عبد القادر إسماعيل وكلما اتصلنا توثقت صلتنا، واجتمعنا يوما بداري وكان الحاضرون عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعلي حيدر وبحثنا في لزوم وضع منهج اجتماعي سياسي يكون اساساً لجمعية سياسية وخطة تسير عليها جريدة الأهالي وكان ذلك في اوائل 1933».
صدرت جريدة الأهالي و كانت تدعو إلى خطة معينة ومبدأ مقرر هو الشعبية وذلك في اوائل عام 1933م إذ اصدرت جماعة الأهالي كراسة صغيرة من ثمان صفحات تحت عنوان الشعبية المبدأ الذي تسعى الأهالي لتحقيقه و كان لعبد القادر إسماعيل دور في اعدادها. اوضحت فيه مفهوم الشعبية ومبادئها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغبتها في ارضاء الشعب من دون تمييز بين الأفراد، حسب الطبقة او المولد او الدين، وإلى ضرورة القيام بإصلاحات اجتماعية سريعة في العراق.
كما اكدت الحرية الشخصية و حرية الرأي و تكافؤ الفرص، وذكر عبد الغني الملاح أن الشعبية هي اقدم وثيقة سياسية واقتصادية معروفة في تاريخ العراق، وربما في تاريخ المنطقة العربية و تصلح لتكون – النواة – التي تحمل شروط النمو كلها من اجل تطور الحركة الاشتراكية والنظرة العلمية لها في العراق وما جاوره.
حوّل الجادرجي ورفيقاه جعفر ابو التمن وحكمت سليمان أفكار جماعة الأهالي، من مرحلة المثالية إلى الواقعية، اذ استطاع هؤلاء ولأنهم أكثر خبرة وتجربة واكبر سنا وأكثر معرفة بأمور السياسة، ان يحولوا جماعة الأهالي من مجرد فكرة سياسية إلى عمل سياسي بحيث اصبحت الجماعة تهتم بالسياسة اليومية، ويمكن القول انها ارتفعت إلى قوة سياسية عن طريق صحيفة الأهالي والموضوعات التي تنشر فيها والإسهامات الكثيرة لكاتبها حول القضايا التي تهم المجتمع.
لم يكن المقال موقعا باسم كاتب معين، وهذا نهج دأبت عليه الجريدة في مرحلتها الأولى التي امتدت حتى عام 1937م، ومما يدل عليه هذا النهج ان كتابة المقالات الافتتاحية في جريدة الأهالي لم يكن عملاً فرديا، وانما كان عملا جماعياً.
وعلى اثر نشرها مقالاً افتتاحيا في العدد 146 الصادر في 6/تموز/1932م، بعنوان”الأصل واحد وان تعددت الالوان”اصدرت حكومة نوري السعيد، امرا بتعطيلها لمدة ثلاثة اشهر، ولما عادت إلى الصدور نشرت في العدد 148 الصادر 8/كانون الثاني/1933م مقالا افتتاحيا بعنوان”نحن شعبيون”فقامت الحكومة بتعطيلها مرة أُخرى لمدة ستة اشهر وتوالت اوامر التعطيل إلى ان توقفت الجريدة عن الصدور في عهد وزارة جميل المدفعي في 12/آذار/1934م.
حصل كامل الجادرجي على امتياز لجريدة صوت الأهالي في 11/شباط/1934، فصدرت جريدة صوت الأهالي بدلا عن جريدة الأهالي ابتداءً من يوم 14/آذار/1934، وهي تحمل اسم كامل الجادرجي كصاحب ومدير مسؤول لها، فخصصت جريدة صوت الأهالي المقال الافتتاحي لعددها الاول للحديث عن تعطيل جريدة الأهالي.
وبسبب تعرض جريدة صوت الأهالي في ابداء الرأي في التطورات السياسية ولا سيما عن العلاقات العراقية – الإيرانية بسبب نشرها مقالين افتتاحيين ذكرت فيها المشاكل الحدودية بين البلدين تعرضت للتعطيل لمدة عام كامل حسب قرار مجلس الوزراء المؤرخ في 22/مايس/1934م لما عُدّ خطرا على سلامة الدولة.
بعد تعطيل صحف الأهالي، وجدوا من الضروري إصدار صحيفة تغذي الرأي العام، وتهاجم الوزارة فصدرت جريدة”المبدأ”إذ نشرت جريدة المبدأ مقالا افتتاحيا”خطورة الوضع الشاذ وما تتطلبه المصلحة العامة”وقد عدت الحكومة ذلك المقال خطرا على سلامة الدولة فأقدمت على غلق الجريدة.
وفي يوم 12/آذار/1935م صدرت جريدة البيان لتحل محل جريدة المبدأ وبعد صدور العدد الاول منها قامت الحكومة بتعطيلها لمدة شهر، وذلك في زمن حكومة المدفعي اذ لم تسمح لجماعة الأهالي بأية صحيفة لهم.
حصل الجادرجي في 16/تموز/1935م على امتياز إصدار صحيفة باسم الفكر الحديث، الا انها لم تصدر.
عادت جريدة صوت الأهالي إلى الصدور ولكنها ما لبثت ان عطلت لمدة سنة كاملة في يوم 12/آب/1936م. وقد كتب كامل الجادرجي مع جعفر ابو التمن وحكمت سليمان، احتجاجاً مشتركاً إلى الملك، وقدمه إلى رئيس الديوان الملكي في يوم التعطيل نفسهُ جاء فيه :
إلى صاحب الجلالة الملك المعظم
«بدلا من ان تتعظ الحكومة من الاستياء العام الناشئ من تصرفاتها في تلك الحادثة [ويقصد بها اغلاق جريدة البيان] فتكفر عن ذلك باحترام القوانين والحريات عادت واصدرت امرها اليوم إلى الشرطة فاحاط أفرادها بمطبعة الأهالي وانتزعوا بالعنف والشدة والضرب اعداد جريدة صوت الأهالي من ايدي المتأهبين لبيعها اثناء خروجها من دار المطبعة».
توقفت جريدة الأهالي عن الصدور اثناء المدة 1937م-1942م أي بعد استقالة كامل الجادرجي وزملائه من وزارة حكمت سليمان واقتصرت العلاقة بين جماعة الأهالي على اللقاءات الشخصية. وفي 23/أيلول/1942م عادت جريدة صوت الاهالي الى الصدور، إذ أشارت في مقالها الافتتاحي”الشعب والحكومة”إلى أهمية الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب بوصفها العنصر الأساس الذي يقوم عليه الحكم الوطني، كما استمرت الجريدة في دعوتها لمعالجة مشاكل البلاد الاقتصادية والإجراءات الواجب اتباعها لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية والدعوة للحريات الديمقراطية والتنظيم السياسي.
دخلت جريدة صوت الأهالي تحت إشراف كامل الجادرجي عهدا جديدا من الكفاح الديمقراطي في مدة الحرب العالمية الثانية ومهدت لقيام الحزب الوطني الديمقراطي، اذ عالجت في تلك الظروف الحرجة، المواضيع الحساسة و المختلفة التي تهم مصالح طبقات الشعب الوطنية منها : العلاقة بين الشعب والحكومة وضرورة اطلاق الحريات الديمقراطية وقيام الحياة الحزبية والسعي لاقرار حقوق الطبقة العاملة وضرورة قيام المنظمات الشعبية لقطاعات الشعب كافة – والدعوة إلى توثيق الروابط بين البلاد العربية وتأسيس الكيان العربي الدولي وغيرها من المواضيع.
لم يركز الجادرجي في نشاطه الصحفي على الواقع السياسي فحسب بل كان نشاطه يشمل كل ما تتناوله الصحافة العراقية يومذاك، فعندما نشرت مجلة المجلة موضوعا طلبت فيه من عدد من كبار الكُتاب رأيهم في الضجة القائمة بمصر حول ابدال الحروف العربية باللاتينية ووجهت لهم رسالة بهذا الصدد إذ”قامت في الايام الأخيرة حركة تدعو إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية اسوة بتركيا ونظرا لما لهذه الدعوة من خطورة نرجو ان تدلوا برأيكم في هذه القضية لينشر على صفحات المجلة تنويرا للقراء وخدمة للغة والادب ونشكركم».
رد كامل الجادرجي”استميح القراء العذر وعلماء اللغة منهم بصفة خاصة في ابداء رأي في هذا الموضوع الخطير، فقد اخذ بعض كتاب العرب منذ قيام الاتراك بهذا العمل يحبذون فكرة استبدال الحروف العربية باللاتينية، اني اخالف استعمال الحروف اللاتينية كل المخالفة، أما اذا اتفق العالم كله من اقصاه إلى اقصاه في يوم من الايام على استعمال حروف موحدة فحينئذ لا يسع الامة العربية الا قبول تلك الحروف العالمية».
قيّم الدكتور عبد العزيز فهمي مقالة الجادرجي إذ إنها تقوم على الفقرات التالية:

1. ان خصوصية الرسم العربي انه اختزالي، ومن مصلحة اهل العربية الاحتفاظ به، إذ انه رسم واضح المعالم يستطيع ممارس العربية قراءة ما هو مكتوب به من زيادة عن الف سنة إلى اليوم.
2. ان رسمنا العربي اذا كان يقبل وضع حروف او اشارات للحركات ملتصقة بهيكل الكلمات، فأن ضرر ذلك منحصر في خفاء حركة الحروف وحركة الاعراب على القارئ.
3. تيسير قواعد نحو اللغة وصرفها لتهوين امرها على الناس التي تقول انها تسهل اللغة من غير مس بجوهرها.
4. لا نغير رسم كتابتنا الا اذا اجمعت امم العالم على رسم واحد لكتابة اللغات كلها، فعندها يكون لا محيص لنا عن متابعتها.
موقف كامل الجادرجي من انقلاب (بكر صدقي) عام 1936م
يعد انقلاب بكر صدقي الذي اطاح بوزارة ياسين الهاشمي اول انقلاب عسكري من نوعه في تاريخ العراق السياسي والبلاد العربية، وقد أدت الخلافات والطموحات الشخصية دوراً كبيراً في قيام الانقلاب.
لم يكن الانقلاب الذي وقع في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1936م، امراً مفاجئاً للجادرجي لأن جماعة الأهالي الذي يعد الجادرجي ابرز اقطابها كانت مشتركة بشكل فعال في الانقلاب والإعداد له بكل تفاصيله، لا سيما ان الأوضاع الشاذة التي مرت بها البلاد في اثناء وزارة ياسين الهاشمي الثانية كانت تنذر بالخطر، اذ ان هذه الوزارة كانت تتبع”سياسة التحزب وتقديم المحسوبين عليها والمنسوبين اليها وتحقيق المصالح الشخصية والمنافع الذاتية مما زاد في الاستياء العام وسخط الجمهور العراقي».
ويذكر عبد الرزاق الحسني عن الوزارة الهاشمية الثانية انها كانت اول وزارة عُنيت بالناحية الأخلاقية في البلاد، وافردتها بالبحث في منهاجها الوزاري، بعد ان وجدت من الفوضى الأخلاقية، وانتشار الفساد بين الشباب، ما يهدد كيان الامة الأخلاقية، فأسست لهذه الغاية الشرطة الأخلاقية.
وبحكم هذه الأوضاع، اشترك الجادرجي في انقلاب بكر صدقي على الرغم من انه”لا يؤمن بالانقلابات العسكرية، ولا بطريقة العنف للتطور الاجتماعي، مالم تستدع ضرورة حقيقية وقوع ذلك العنف».
بتعبير آخر، إذا تعذرت الوسائل الديمقراطية في معالجة الأوضاع الشاذة التي تمر بها البلاد، فأن الأسلوب الثوري، حتى لو كان هذا الأسلوب عسكريا، يعد امرا مشروعا – حسب تعبيره -. ان الجادرجي كان يعتقد ان نجاح الانقلاب سيوفر له ولرفاقه في جماعة الأهالي اجواءً أكثر ملائمة لتحقيق أهدافهم في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الا ان مثل ذلك لم يحصل ابدا، فعندما نجح الانقلاب وشكل حكمت سليمان وزارته في 29/تشرين الأول/1936م. اشترك الجادرجي في وزارة حكمت سليمان بصفة وزير الاقتصاد والمواصلات، الا انه لم يستمر في الوزارة سوى [8 اشهر تقريبا]، وذلك بسبب دكتاتورية بكر صدقي قائد الانقلاب، فتقدم كامل الجادرجي بالاستقالة، الا ان حكومة حكمت سليمان لم تقبل الاستقالة، الامر الذي دفعه إلى تقديم استقالة جماعية في 19/حزيران/1937م مع وزراء آخرين.
في اثناء وجود الجادرجي في وزارة الانقلاب قدم مع عدد من الشخصيات السياسية [جماعة الأهالي] طلبا إلى وزارة الداخلية لتأسيس جمعية محاولة منهم لملء الفراغ السياسي، فوافقت وزارة الداخلية على الطلب في 15/تشرين الثاني/1936، لتأسيس جمعية الإصلاح الشعبي، دعت فيه إلى السعي للقيام بإصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي، يعود نفعه إلى عامة افراد الشعب، عن طريق فسح مجال المساواة للجميع بهذا الاطمئنان والرفاه والتقدم.
إذ كان من أهداف الجمعية تقسيم الاراضي الموات على الفلاحين، وتحديد ساعات العمل للعمال – و التعليم الاجباري – و الجمعيات التعاونية.
كانت صدمة الجادرجي بنتائج انقلاب بكر صدقي قاسية جدا، الامر الذي جعله يراقب الاحداث عن كثب، ويقف موقف اليقظة والحذر من الانقلابات العسكرية، لكنه ايد انتفاضة مايس عام 1941م، لأنها”حركة وطنية ضد الانكليز»، ولم يشترك فيها فعليا، ومما يؤكد ذلك، أن السلطة الحاكمة [الوزارة التي تشكلت – وزارة جميل المدفعي – بدلا من وزارة رشيد عالي الكيلاني]، لم تعتقله عند فشل الانتفاضة.
عن رسالة (كامل الجادرجي والعمل الصحفي)