فلسفة التربية عند جون ديوي

فلسفة التربية عند جون ديوي

منتهى عبد جاسم
مما لا شك فيه ان شهرة ديوي تربويا تفوق شهرته فيلسوفا، لكونه صاحب نظرية تربوية ثورية، ونجد ان اكثر مؤلفات ديوي تركز حول معالجة مسائل التربية وقضاياها، وهذا ما تدل عليه مؤلفاته مثل (التربية والخبرة، الديمقراطية والتربية، عقيدتي التربوية، المدرسة والمجتمع ومدارس المستقبل وغيرها)

ومن المعروف ان علاقة الفيلسوف بالتربية عموما قديمة في الفكر البشري، فالفلاسفة منذ القدم صرفوا جهدهم للتربية والتعليم باعتباره الميدان لتطبيق افكارهم الفلسفية سواء في اصلاح أوضاع مجتمعاتهم السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، او كما نجدها عند افلاطون دعوة لاقامة مجتمعات فاضلة.

يرى ديوي ان جميع الاشياء تستخدم من اجل التربية بقوله :"ان الفلسفة هي النظرية العامة للتربية" ومن المعروف ان التربية بالنسبة لكل مفكر هي اداة تقاس بها صحة افكاره الفلسفية وتلازمها مع متطلبات المجتمع الذي يعيش فيه.
- دعوة ديوي للتجديد التربوي
ان مهمة التربية بحسب ديوي هي اعداد الفرد للحياة، فالتربية بداية ليست مجرد وسيلة نحصل بها على المعارف، بل هي عملية تربوية تهتم بالجانب النفسي والاجتماعي، ووضع الاهداف التربوية على وفق المجتمع، والتربية التي يطالب بها ديوي تتميز بانها تركز على الاهتمام بالتعبير عن الذات، وبرفض القسر الخارجي، وتاكيدها النشاط الحر، والتخلص من الاهداف والمواد الجامدة وذلك بالاطلاع على عالم متطور ومتغير، وقد دعى ديوي الى تجديد التربية لانه راى ان التربية التقليدية ممثلة بالمدرسة التقليدية قد قتلت روح الابتكار بما تدخره من انشطة تعليمية لا تتجاوز الحفظ والتسميع والنقل والتقليد والتكرار...الخ.
لذلك نجده اعتنى بامر التفكير كثيرا وحاول اضافته على اسس من التجريب العملي العلمي، ولم يقبل عملا لايقوم على اساس فكري لان"التفكير الذي لاعلاقة له بزيادة كفايتنا العملية والاستكثار من المعرفة بانفسنا وبالعالم الذي نعيش فيه تفكير منقوص مختل، وكذلك المهارة المكتسبة بمعزل عن التفكير فانها لا تكون لها اية صلة بالاغراض التي تستخدم من اجلها، فتترك المرء اسير لعاداته الرئيسية خاضعا لسلطان غيره ممن لهم فكرة واضحة عن اغراضهم وممن لايرعون ضميرهم في الاساليب التي يستخدمونها لبلوغ مأربهم، وكذلك المعلومات اذا ما انفصمت عن العمل المؤسس على الفكر، وكانت ميتة وحملا ثقيلا ينوء به العقل"
وقد رسم ديوي عددا من الاسس التي ينبغي ان تقوم عليها عملية التعليم، من اهمها ايجاد التلميذ نفسه في وضع خبرة حقيقية ترتكز حول مشكلة تكون بمنزلة حافز للتفكير ويشترط ان تكون هذه المشكلة طبيعية المصدر غير مصطنعة وتخص التلميذ نفسه ليكون التعلم اكتشافا وابتكارا وليس مجرد تكديس معلومات، وبهذا الصدد يذكر ديوي بان التفكير الذي ينطوي على هذه الخطوات، الاحساس بالمشكلة، وملاحظة الاحوال والتكوين او البسط المفعول لنتيجة نقترحها، ثم الامتحان او التجربة بالفعل.
ويرى ان التربية التقليدية قد اغفلت عنصر الطبيعة الانسانية، وقيدت حرية الفرد واهملت دور المتعلم في العملية التربوية، لكنه في الوقت نفسه لا يخفي اعجابه بافكار افلاطون الداعية الى العدالة والخير والفضيلة، على الرغم من رفضه للمسلك الذي اتخذه في تطبيق هذه الافكار، وكذلك عبر عن اعجابه بافكار روسو بقوله"لقد كان للراي الذي نادى به روسو من ان التربية عملية نمو طبيعي، اثر بالغ من الناحية النظرية على التربية منذ عهده الى يومنا هذا".
وان التربية التقليدية تنتج خبرات ضارة في التربية وهذه الخبرات تعيق النمو، ومن هنا فهي تؤدي الى التبلد وتشتت لفكر وعدم التركيز، بينما يرى ان غرض التربية هو تحقيق النمو وزيادته وايجاد السبل الكفيلة في الوصول الى هذا الهدف الذي اشار اليه بقوله"ان عملية التربية نمو متواصل وان غايتها زيادة القدرة على النمو في كل دور من ادوار الحياة".
لذلك رفض المبدا الذي يعد التربية اعداد لحياة مستقبلية سيواجهها المتعلم في المستقبل، فذهب الى ان"التربية هي الحياة، وليست اعدادا للحياة المستقبلية، واعتقد ان المدرسة يجب ان تكون ممثلة للحياة الحاضرة، الحياة الواقعية الضرورية التي يحياها الطفل في المنزل وفي البيئة المحيطة به وفي اللعب مع زملائه".
هنا يظهر الاساس الذي يعتمده ديوي وهو مفهوم الخبرة باعتبارها مرشدا في العملية التربوية، لان نظرية التربية تتلخص في تكوين الخبرة تكوينا جديدا مطردا، وهي فكرة متميزة عن التربية من حيث هي اعداد لمستقبل بعيد، او هي اكتشاف او تكوين خارجي او اعادة للماضي.
ثانيا- الخبرة والتربية
لقد نالت مسالة الخبرة عند ديوي قدرا معتبرا من العناية، فكانت نظرته لها مستفيضة وشاملة، وان اكثر ما تتميز به مجالات الخبرة في فلسفته التربية التي يوجه اليها الكثير من العناية والاهتمام، ويبين لنا مدى وجه الحاجة الى فلسفة للخبرة تقوم عليها التربية لان"ما نريده ونحتاج اليه هو التربية الخالصة البسيطة وسوف نحرز من التقدم ما هو اضمن واسرع اذا كرسنا انفسنا للكشف عن ماهية التربية، وعن الشروط التي ينبغي توفرها كي تصبح حقيقة واقعة وليست مجرد اسم او لفظ تلوكه الالسنة، ولهذا السبب نفسه اكدت حاجتنا الى فلسفة سليمة للخبرة . وعليه فالخبرة هي اساس التربية، وكي يزداد ادراكنا لقيمة هذا الاساس الخبري للتربية يوجهنا ديوي الى اعتبار التربية عملية ترق في نطاق الخبرة وعن طريقها وفي سبيلها
وقد حدد ديوي وجه الحاجة الى فلسفة للخبرة تمكننا من وضع الخطط والمشروعات التربوية لكون ان البحث في ماهية الخبرة يسمح بازالة التناقض الذي قد يلحق بها، ثم تكوين معيار للتمييز بين الخبرات التربوية عن الخبرات اللاتربوية، لان الخبرات ليست كلها متساوية، وتبعا لهذا فلا ينبغي للتربية ان تنهل من كل خبرة وهذا ما اشار اليه ديوي بقوله"الاعتقاد بان التربية الصحيحة انما تتحقق عن طريق الخبرة لايعني ان كافة الخبرات لها قيمة تربوية حقيقية، او انها تتساوى من هذه الناحية..لان بعض الخبران ضارة من الناحية التربوية وكل خبرة تؤدي الى اعاقة نمو الخبرة في المستقبل او انحرافها عن سواء السبيل تعتبر ضارة من الناحية التربوية"
وعليه فان ديوي يرى بان الخبرة ما هي سوى قوة متحركة نحو النمو، لذا فان من واجب المربي العمل على البلوغ بخبرة التلميذ الى تمام نضجها لان مهمة"المربي هي ان يتبين الاتجاه الذي تسير فيه الخبرة فالمهمة الاساسية امام التربية الصحيحة هي ان"ننتقي من الخبرات الحاضرة ما يترك اثرا مثمرا في الخبرات التالية ويطبعها بطابع الابتكار.
اذن ديوي يدعو الى الخبرة التي تؤدي الى النمو وزيادته في جميع نواحيه الفكرية والجسمية والخلقية، وهذا ما اشار اليه بان"التربية في جوهرها هي عملية اجتماعية وتتناسب قوة هذه الصفة الاجتماعية مع قوة ارتباط الجماعة التي يكونها الافراد".
والاتصال هو وسيلة الافراد في الحصول على التفاهم المشترك، حيث ان وجود المجتمع متضمن في النقل والاتصال(1). فالخبرة في اساسها فاعلة ومنفعلة معا وان قيمة الخبرة هي بما تؤدي اليه من ادراك للعلاقات واللواحق من الخبرات التالية لان التعلم بالخبرة هو ايجاد علاقة سابقة ولاحقة بين ما تحدثه للاشياء وما نتمتع به ونعانيه من الاشياء من وراء ذلك.
اذن الاستمرار في الخبرة والتواصل بين الخبرات السابقة واللاحقة هو الذي يمكن الفرد من الحكم واستخلاص النتائج لان المرونه او قابلية التعلم من الخبرة تعني تكوين عادات، والعادات تمنح السيطرة على البيئة والقدرة على استغلالها لتحقيق غايات بشرية.
عن الحوار المتمدن