من جرائم 8 شباط .. هكذا قتل المجرمون جلال الأوقاتي

من جرائم 8 شباط .. هكذا قتل المجرمون جلال الأوقاتي

د. عقيل الناصري
اجمع رواة وقائع اليوم الاخير من حياة الزعيم قاسم ومهندسو ومنفذو الانقلاب، ان ساعة الصفر بدأت بقيام العديد من لجان الانذار الحزبية باغتيال مجموعة من اقرب المساعدين للزعيم قاسم والمنتمين الى تيار اليسار وبالاخص جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية وطه الشيخ احمد وفاضل عباس المهداوي وسعيد مطر ووصفي طاهر وعبد الكريم الجدة وماجد محمد امين وغيرهم.

إذ كلفت (على سبيل المثال زمرة بقيادة صلاح سالم مهمتها دار عبد الكريم الجدة، وزمرة اخرى مهمتها مهاجمة دار سعيد مطر في الفحامة (الصحيح في المأمون الناصري)، وكان طارق عزيز دليل المجموعة التي تضم صلاح مكي وحسن غافل وحسن علي ومهدي نجم الى دار العقيد فاضل عباس المهداوي). كما كانت هناك زمرة اخرى مهمتها اغتيال زعيم الجو الركن جلال الاوقاتي / قائد القوة الجوية..
وقد تم لها ذلك، إذ كانت قد رصدت تحركاته ونظام عمله اليومي، منذ فترة طويلة نسبياً، ساعدهما في ذلك مدير الادارة في قيادة القوة الجوية صالح مهدي عماش وبعض الضباط البعثيين وانصارهم في مقر نفس القيادة، وكذلك التنظيم الحزبي المدني في كرادة مريم. ويعتبر الاوقاتي من اشد انصار النظام الجمهوري ومؤيدا للزعيم قاسم، ويتوجس الانقلابيون وخبراء الانقلابات العسكرية الامريكان من منصبه وامكانياته العسكرية في احباط محاولتهم الانقلابية في حالة نجاته من الاغتيال، خاصة، كما مر معنا، ان هؤلاء الخبراء كانوا قد اعتمدوا الطيران كعنصر اساسي في انقلابهم، ولهذا ليس اعتباطا ان تكون ساعة الصفر هي اغتيال الاوقاتي. تمت عملية الاغتيال، كما يصفها رئيس الزمرة المنفذة المدعو غسان عبد القادر، في مقابلة اجريت معه في 24/1/1985، بالشكل التالي: (كلفت مجموعتي باعتقال جلال الاوقاتي، قائد القوة الجوية ومن قياديي الحزب الشيوعي، واذا مانع بذلك فيتم قتله، وفي ساعة الصفر قامت المجموعة المكلفة بذلك بعمل دورية حول داره الكائنة في كرادة مريم، وبعد خروجه من داره وفي احد الشوارع الفرعية القريبة من داره حوصر من قبل المجموعة، مما ادى به الأمر الى ترك سيارته والهرب، فقامت المجموعة المنفذة بفتح النار عليه وقتلته في الحال، وبهذا استطاع الحزب ان يتخلص من احد اقطاب السلطة المهمين والذي لو قدر له البقاء لكان له تأثير كبير في تغيير موازين القوى لصالح سلطة عبد الكريم قاسم) وبعد ذلك اتصلت المجموعة المنفذة بقيادتها واخبرتهم باتمام التنفيذ وكانت المجموعة تتألف منه ومن (ماهر الجعفري، عدنان داود القيسي، اكرم اسود، ومجيد رجب الحمداني). وكان دليل المجموعة حسب افادة عائلة الاوقاتي، محمد ثامر، اللاعب في المنتخب العراقي لكرة القدم وشقيق مدير الأمن اللاحق انور ثامر حسب استطلاعات الدكتور علي كريم سعيد. وقد تمت العملية بعد الثامنة والنصف وقبيل التاسعة صباحا. يصف حنا بطاطو عملية الاغتيال بالكيفية التالي: (كان الاوقاتي قد قاد سيارته يرافقه ابنه الصغير الى محل لبيع الحلويات قرب منزله، وما ان نزل من السيارة حتى توقفت مركبة آلية اخرج الركاب مسدساتهم واطلقوا النار عليه، واصيب الاوقاتي في كتفه وحاول ان يهرب ليختبئ، ولكنه اصيب ثانية في الرأس وسقط على الرصيف واسرع المهاجمون بالهرب واختفوا).
كانت عملية الاغتيال بمثابة اشارة الشروع للقوة الجوية في الحبانية ولقوى الانقلاب لكي تستولي على المرسلات في ابي غريب وتذيع البيان الأول، الذي كان بدوره إشارة البدء لتحرك كل المساهمين في العملية الانقلابية كل حسب المهام المناطة به والموقع المرسوم له.
ومنذ تلك اللحظة بدأ (مهرجان الدم العراقي) الذي خطط له في الاروقة الغربية، ونفذته اياد عراقية، وباركته اغلب الدول العربية وخاصة مصر الناصرية. وأمسى الدم يسال لمجرد الشبهة او الهوية، بل حتى القتل من اجل القتل. لقد تحول العنف المادي الى نهج وممارسة يومية ذات طابع فاشي لدى سلطة القوى الانقلابية، إذ (كان التعذيب يجري باكثر اشكاله بدائية وثأرية، وفي بعض الاحيان لم يكن بقصد انتزاع مزيد من المعلومات بقدر ما كان تكراراً ثأريا)، كما عبر عن ذلك أحد مهندسي ومنفذي الانقلاب.
وقد شملت هذه التصفيات الدموية، بعد ذلك وطالت حتى القوى التي سبق وان تحالفت مع قيادة الانقلاب ومن ثم اخذت تصفي الحسابات معها، مادياً او معنوياً.
كان اختيار يوم الجمعة الثامن من شباط، من قبل العقول المخططة الاجنبية، ضرورة للانقلاب اقتضتها معرفتهم السابقة بالاحالة الى التقاعد للعشرات من الضباط الموالين لهم، ومما زادها اهمية هو اعتقال بعض القيادات العسكرية والحزبية العليا. يضاف الى ذلك لكونه يوم العطلة الاسبوعية التي يكون فيها كثير من المدافعين، وبخاصة من المراتب والجنود، خارج الخدمة الفعلية، والذين اغلبهم ينتمون معنويا وروحياً الى التيار المؤيد للزعيم قاسم. كما اعتاد كثير من العسكريين السهر في الليالي الرمضانية ليوم الجمع حيث يكون النهوض فيها متأخرا. وعليه ينخفض قوام القوة العسكرية في كل الوحدات. فمثلا في وزارة الدفاع ينخفض عدد العسكريين الموجودين فيها ايام الجمع من 3000 عسكري الى 1200 فقط، اي ان 60بالمئة منهم لا يوجدون في وحداتهم العسكرية. وهذا الاقتراح بالتحرك في يوم الجمعة وفي الصباح، تم من قبل عقول اجنبية استكشفت سبل نجاح الانقلاب من دراستها الدقيقة للمحاولات الانقلابية السابقة والتي رأت ان احد اسباب فشلها يعود لكونها كانت تتم ليلا، حيث الاجهزة الامنية تكون اكثر يقظة من جهة. ومن جهة ثانية راوا صعوبة التحرك الليلي للضباط المتقاعدين والقوى العسكرية المؤيدة وتجمعها لتنفيذ المهمات المناطة بها في الاستيلاء على محطة الاذاعة والوحدات العسكرية التي سينطلق الانقلاب منها. اذ كانت تقتضي خطة الانقلاب تجمع مجموعة من العسكريين، بعضهم كان متقاعدا، ومن وحداث مختلفة في مركز كتيبة الدبابات الرابعة. هذا الفعل سيثير اهتمام القوى الامنية وكذلك المناهضة للانقلاب وخاصة بالنسبة للضباط من الرتب العليا. ومن جهة ثالثة عدم قدرة لجان الانذار الحزبية في نقل وتوزيع الاسلحة على افرادها وتنفيذ مهمات الاغتيال والاعتقال للعناصر المناهضة لهم والسيطرة على معابر الجسور وتقاطع الطرق المهمة. واخيرا من المعروف والشائع ان الزعيم قاسم كان يعمل الى ساعات متأخرة من الليل، ومن ثم يقوم بجولة معتادة في انحاء العاصمة وكان يهجع الى النوم في ساعات الصباح الاولى. وعلى ضوء ذلك، والحث المتزايد لخبراء الانقلابات، تم في السابع من شباط اتخاذ القرار النهائي وحسم التردد في امكانية التأجيل لصالح المضي في الخطة الانقلابية، لأن عملية التاجيل ربما تؤدي الى كشف ابعاد المؤامرة من خلال الاعترافات المحتملة من العناصر القيادية المعتقلة، وبالتالي ستتساوى العاقبة في حالة الفشل. مما ادى بهم الى السير في عملية التنفيذ، خاصة ان هذه الفرصة ربما ستكون الوحيدة لديهم في الزمن المنظور آنذاك، بعد ان رسمت عملية تقليم مخالبهم العسكرية التي كان يفترض ان تتم في شهر شباط، مما يفسح المجال امام حركة القوميين العرب للقيام بانقلابهم المخطط له وهذا ما لا يريدونه لهم كحزب ولا القوى الخارجية المساندة لهم.

*عن كتاب
«عبد الكريم قاسم في يومه الاخير».