شيء عن عصبة مكافحة الصهيونية

شيء عن عصبة مكافحة الصهيونية

د. وسام هادي عكار التميمي
مارستْ الحكومات العراقية أثناء الحرب العالمية الثانية(1939-1945)، أقصى ما يمكنها من أشكال التقييد على الحريات العامة ضد الشعب العراقي، واستمرتْ وزارة (حمدي الباجه جي) - دامت تلك الوزارة من (29 آب 1944) حتى (3 كانون الثاني 1946)، وهي امتداد للوزارة الباجة جية الأولى التي تألفت في (3 حزيران 1944) - في ممارسة كبتها لتلك للحريات،

عن طريق القوانين الاستثنائية والإحكام العُرفية، حتى بعد إنتهاء الحرب. وفجأة خرج الأمير عبد الأله، الوصي على عرش العراق آنذاك، على الأوساط السياسية العراقية، بخطاب ألقاه في أعضاء البرلمان العراقي في السابع والعشرين كانون الأول 1945، تضمن موافقتهُ على بتأليف أحزاب سياسية في العراق”التي لم يصح بقاء البلاد خالية منها". نتيجة ذلك استقالت وزارة حمدي الباجه جي في أعقاب خطاب الوصي، وحلتْ محلها حكومة توفيق السويدي، التي تعهدتْ في منهاجها بـ"إلغاء الإدارة العُرفية... وسد المعتقل والإفراج عن المعتقلين، ورفع الرقابة على الصحافة... وفسح المجال لتأسيس الأحزاب السياسية". وقد استقبلتْ الأوساط الشعبية والسياسية العراقية حكومة السويدي ومنهاجها بارتياح ظاهر. وأثناء عام 1946 أجازتْ وزارة السويدي خمسة أحزاب هي الوطني الديمقراطي، والاستقلال، و الاتحاد الوطني، والشعب، والأحرار. ورفضتْ في الوقت نفسه السماح لحزب التحرر الوطني بممارسة نشاطه، بحجة أنه يمثل واجهة للحزب الشيوعي العراقي كما صرح لي بذلك (سالم عبيد النعمان) أحد أعضاء الهيأة المؤسسة للحزب.
وفي ذلك الجو وفي مبادرة من الحزب الشيوعي العراقي، قدم عدد من اليهود العراقيين طلباً إلى وزارة الداخلية في (12 أيلول 1945) للسماح لهم بتأليف جمعية باسم”عُصبة مكافحة الصهيونية". وقد أوكل الحزب مهمة تأسيس العصبة ليهودا صديق، عضو اللجنة المركزية للحزب، ويوسف هارون زلخة ومسرور صالح قطان، وإبراهيم ناجي، ويعقوب اسحق، مير يعقوب كوهين، ويوسف زلوف، وكلهم أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي. وقال يهودا صديق بأن المذكورين عقدوا عدة اجتماعات صاغوا أثنائها برنامجاً ونظاماً داخلياً للعُصبة. وعندما أُجيزتْ العصبة من قبل الحكومة العراقية، تألفتْ هيأة إدارية، ترأسها يوسف زلخة، وهيأة رقابة برئاسة يهودا صديق، وتنحصر مهمة الهيئة الثانية في مراقبة مقررات الهيئة الإدارية ومتابعة تنفيذها.
كانتْ الطائفة اليهودية بحاجة إلى تمتين صلتها وتحقيق اندماجها بالشعب العراقي، وإقناع العراقيين بانعدام الرابطة والصلة بين الطائفة اليهودية في العراق والحركة الصهيونية. وبعد حظر العُصبة، واعتقال قدتها، أكد يوسف زلوف، في التحقيق الذي أجرته معه المباحث العامة العراقية، على أهمية وضرورة التضامن بين جميع الطوائف الدينية، التي تؤلف الشعب العراقي بما يعود بالفائدة على مجموع الشعب. أما احتضان الحزب الشيوعي، دون غيره، لفكرة إقامة عصبة مكافحة الصهيونية، فيردها زلوف إلى كون الحزب الشيوعي”المنظمة الوحيدة العاملة في هذا الحقل". ويعني به حقل التضامن بين مختلف الطوائف الدينية.
أصدرتْ عصبة مكافحة الصهيونية العديد من الكراسات والكُتب التي تضمنت أهداف ونشاط العُصبة، كما نشرتْ برنامجها بشكل واسع. وعقدتْ الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات الجماهيرية في مقرها بالكرخ. وأخذتْ تصدر صحيفة"العُصبة"، عند دار الحكمة للطباعة، التي امتلكتها العُصبة نفسها.
وقد نشرتْ صحيفة”العصبة”مقالات متتابعة، شرحتْ وعمقتْ فيها أهداف العصبة، ثم جمعت تلك المقالات في كُتيب، وأصدرته بعنوان”نحن نكافح في سبيل من؟ وضد من نكافح؟"، وفي تلك المقالات فصلتْ العُصبة الدين اليهودي عن الصهيونية، وأكدتْ على ارتباط الثانية بالاستعمار العالمي، وعلى رأسه الاستعمار الأميركي، كما أشارتْ العصبة في كُتيبها إلى إن”ليس لليهود قضية منفصلة عن قضايا شعوبهم". واعتبرتْ عصبة مكافحة الصهيونية، الحركة الصهيونية عميلاً للإمبريالية وأداة لها. كما اعتبرتْ”الفاشية والصهيونية توأمان لهدف واحدة هي العنصرية"، ولكون الصهيونية تخلق وتزرع الفتن والعِداء والعنصرية بين اليهود والشعب العربي، بما يصرف هؤلاء وأولئك عن النضال لإنجاز القضايا الوطنية الكبرى الاستقلال والسيادة الوطنية، وإنهاء التدخل الأجنبي.
أما”الوطن القومي لليهود"، فالعصبة تعلن عداءها لهُ، لأنه"يفرق بين اليهود ومواطنيهم في الوطن الواحد، ولأنه يستهدف شطر فلسطين العربية عن جسم البلاد العربية وإفناء شعبنا العربي". وتحت عنوان”الصهيونية رأسمالية استعمارية”قالتْ العصبة في كراسها، إن الصهيونية تتلون أمام اليهود بما يلائم ويرضي كل فئة منهم “فهي دينية أمام المحافظين، وقومية أمام الشعب المتحمس، واشتراكية أمام العامل". وتنفي العصبة كل تلك الصفات عن الصهيونية”فدينها نفاق ورياء، وقوميتها عنصرية اعتدائية، واشتراكيتها انتهازية". وأكدتْ العصبة إن الصهيونية تطمع فقط في إغراق الأسواق بالبضائع، لتضرب الصناعة الوطنية وتسيطر على التجارة. في الوقت نفسه فسرتْ، تبني الاستعمار للصهيونية، لكون الأخيرة أداته فيقلب الوطن العربي. وأشارتْ إلى إن الاستعمار الأمريكي –الذي أوراثة الاستعمار البريطاني في فلسطين – يحتضن هو أيضاً الصهيونية للغرض ذاته. وعدت العصبة غياب الديمقراطية عن بلدان الوطن العربي عاملاً منشطاً للصهيونية في البلاد العربية. مطالبتاً في كراسها، بضرورة إشراك المنظمات الشعبية في الكفاح من أجل طرد الاستعمار البريطاني، الذي أوجد الصهيونية في فلسطين.
في السياق نفسه، أكدت العصبة في بيان لها بتاريخ 17 تشرين لأول 1945”أن الصهيونية لا تحل، بالمرة، مشكلة ستة عشر مليوناً من اليهود، بل إن المشكلة اليهودية ليستْ سوى جزء، لا يتجزأ، من نضال الشعوب كافة، على اختلاف أديانها، في سبيل حريتها وديمقراطيتها". وفي بيان آخر كشفتْ العصبة عن الأساليب التي يأتيها اليهود لجعل فلسطين وطناً لهم، ومزاحمة العرب فيها والحلول التي يجب إتباعها لمحاربة تلك الأساليب، حفظاً لحقوق العرب في وطنهم الشرعي.
وفي الثاني من تشرين الثاني عام 1945، أصدرتْ عصبة مكافحة الصهيونية بياناً بمناسبة”يوم وعد بلفور"، كما سمته، وأعلنتْ في بيانها”باسم يهود العراق استنكارها لهذا الوعد واحتجاجها عليه". وأكدتْ العصبة فيه إن الإمبريالية تهدف من وراء وعودها للشعوب الضعيفة إلى تثبيت نفوذها وزيادة امتيازاتها على رقاب تلك الشعوب. وضربتْ العصبة مثلاً بوعود بريطانيا للعرب أبان الحرب العالمية الأولى، والمتضمن عهداً بمنح البلاد العربية استقلالها، كما أشارتْ العصبة إلى معاهدة سايكس- بيكو، المعقودة بين حكومتي فرنسا وبريطانيا، والتي قسمتْ الدولتان الاستعماريتان بموجبها البلاد العربية فيها بينهما. وتنتقل العصبة للحديث عن وعد بلفور، فترى إن الاستعمار يستطيع أن يتكرم بفلسطين مئات المرات طالما إنها ليستْ بلاده، وطالما إنه يجد في ذلك ربحاً لهُ ومغنماً. وطالب بيان العصبة الشعوب العربية بالنهوض لرد عاديات الاستعمار عنها، لاسيما وإن غاية الاستعمار وعميلته الصهيونية من وعد بلفور هي تحويل نضال العرب الموجه ضد الاستعمار نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، فيحافظ على امتيازاته ويستمر في استغلاله، وفي التطفل على دماء الشعوب العربية. ورأت عصبة مكافحة الصهيونية في”الدموع التي يذرفها المستعمرون على مصلحة اليهود... دموع التماسيح، لأنهم لو كانوا حقاً يعطفون على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوربا". وعادتْ العصبة لتؤكد في بيانها إن حل المشكلة اليهودية يتم بحل مشكلة البلدان التي يعيش فيها اليهود، أما حل فلسطين، فهو فضلاً عن إنه لايحل المشكلة اليهودية، فهو اعتداء صريح غاشم على حقوق الشعب العربي. واستنكر أعضاء العصبة قي بيانهم، بكونهم”يهوداً وعرباً في الوقت نفسه"، وعد بلفور واحتجوا عليه. ودعوا مواطنيهم إلى النضال من أجل استقلال فلسطين استقلالاً تاماً، وتأليف حكومة ديمقراطية عربية فيها، ومنع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وإيقاف انتقال الأراضي إلى الصهاينة.
وفي شباط عام 1946، أصدرتْ عصبة مكافحة الصهيونية بياناً”إلى الرأي العام العربي والديمقراطيين جميعاً”ذكرتْ فيه”إن مشكلة فلسطين يجب أن تفصل عن المشكلة اليهودية، لان المشكلة الأولى ما هي إلا مشكلة شعب يناضل في سبيل حجريته واستقلاله، فإذا كانتْ المشكلة اليهودية لاتربط بمشاكل الشعوب المناضلة الأُخرى، فلماذا إذن تربط بمشكلة الشعب الفلسطيني العربي المناضل؟!". كما أعاد البيان إلى الأذهان ما كانت العصبة قد طالبتْ به من”استقلال فلسطين ومنع الهجرة... وإن قضية فلسطين لاتحتاج إلى تحقيق، فهي واضحة وضوح الحق، لاسيما وقد مر ما يزيد على ربع قرن والحكومة البريطانية دابة على(لجان تحقيق) و(هيئات تحقيق) ولما ينته(التحقيق)". وأكدت العصبة في بيانها إن”هذا (التحقيق) لن ينتهي ما لم تأخذ فلسطين العربية – تعاونها الشعوب العربية- حقها أخذاً، وتنتزع استقلالها انتزاعاً، لأن الاستعمار البريطاني وكل استعمار آخر قد علمنا بأن سماءه لا تمطر غير النار والدمار". وكرر البيان ما كانتْ الهيأة المؤسسة للعصبة قد ذكرته في مذكرتها للحكومة العراقية، تلك التي طلبتْ فيها إجازة نشاط العصبة، والتي جاء فيها”إن المشكلة اليهودية لا يُمكن أن تحل إلا بقيام نظم ديمقراطية في الأقطار التي يستوطنها اليهود في العالم. وإن ليس يهود العراق وحدهم يناهضون الصهيونية ويقومونها، بل هنالك منظمات يهودية كثيرة في مختلف أنحاء العالم تناهض الصهيونية وتقاومها أيضاً".
من جانب آخر، نددتْ العصبة بقرار الحكومة البريطانية القاضي بالسماح لهجرة لـ1500 مهاجر شهرياً إلى فلسطين. ورأتْ في ذلك القرار استفزازاً من الاستعمار البريطاني بوعوده وتعهداته، كما عدَّ استهانة بوجود لجنة التحقيق نفسها واعترافاً بعدم أهميتها. وتقصد العصبة هنا لجنة التحقيق الأنجلو-أميركية، التي شكلتها بريطانيا وأمريكا في 15 تشرين الثاني 1945، للتحقيق في إمكانات فلسطين على استيعاب المهاجرين اليهود، وفي أسباب الاضطرابات في فلسطين، وتقديم ما تراه اللجنة مناسباً من الحلول، وقد ندد بيان العُصبة”بالأعمال الإرهابية التي يقوم بها عُملاء الاستعمار البريطاني والأمريكان". ورأت العصبة إن تلك الأعمال الإرهابية هدفها”ذر الرماد في العيون"، كي يقدموا حجة للاستعمار البريطاني ليحشد قوات كبيرة في فلسطين، ظاهرها مقاومة هذه الأعمال الإرهابية، وجوهرها ضرب الحركات التحريرية في البلدان العربية كافة، ولاسيما وإن المطالبة بجلاء القوات الأجنبية عن جميع البلاد العربية كان شعار العرب في العراق ومصر وسوريا ولبنان. ودلل بيان العصبة على صحة هذا الاستنتاج بمقال كانتْ قد نشرته صحيفة”دافار”الصهيونية في فلسطين، جاء فيه”إن هذه القوى البريطانية لم تحشد في فلسطين من أجل الشعب اليهودي، وقد أثبتتْ التجارب إن فرقة واحدة تكفي لاقتحام مستعمرتين في يوم واحد. إن هذه القوات البريطانية الكبيرة قد حشدتْ هنا لحاجات بريطانية، ونحن نعترف بحق هذه الحاجات، ومستعدون للاهتمام بها ومساعدتها في تأديتها، كما فعلنا أكثر من مرة. لأننا نعترف بالعلاقة بين مصير الإمبراطورية وبين مصيرنا، ونعترف بهذه الشركة ونريدها. ولكن هذه لم تحشد من أجلنا والحق يُقال". وأكد بيان عصبة مكافحة الصهيونية إن العرب لا يمكن أن يحصلوا على حرياتهم واستقلالهم إلا بالاعتماد على أنفسهم وبالتعاون مع قوى الشعوب المعادية للظلم والاستعمار. وأنهتْ العصبة بيانها بدعوة رؤساء الحكومات العربية إلى قضية فلسطين في مجلس الأمن والمطالبة بإلغاء الانتداب على فلسطين، وبمنحها استقلالاً تاماً.