العدالة في الإلهام والتطبيق الإصلاحي

العدالة في الإلهام والتطبيق الإصلاحي

إبراهيم غرايبة
يدور العمل الإصلاحي أساساً حول العدالة، وعلى هذا الأساس، يمكن تفسير المعارضة والاحتجاج والتمرد كما الجدل حول الإصلاح، وعلى الرغم من أن العدالة يفترض أن تكون مفهوماً جميلاً واضحاً ومثالياً يلهم الإصلاحيين والمجتمعات والحركات السياسية والاجتماعية والطبقات وجماعات المصالح والأعمال، فإنه يلتبس غالباً بالشعور بالظلم والدفاع عن المكتسبات، ويبدو، عند محاولة تطبيقه في الإدارة والاقتصاد، مفهوما معقدا ومتعددا.

ببساطة، نحن نبحث عن العدل، ونناضل لأجل ذلك، إلا أن كل مواطن يرى العدل على نحو يختلف عن الآخر. فالعدل هدف مثالي، نحاول الاقتراب منه، ولا نصل إليه، لأن العدل هو الله.

وتوافقت الأمم والحضارات على أن الاقتراب من العدل يكون بالقانون، ويفترض أن القانون يعكس تفكير الأغلبية واتجاهها، فنلتزم بما تقرره الأغلبية، ليس لأنه العدل، ولكن، لأننا لا نعرف العدل أو لا نتفق عليه، فيكون القانون مخرجاً من جدالنا واختلافنا. وفي ذلك، تكون الانتخابات لنحدد الأغلبية، ونكرر الانتخابات لنراجع أنفسنا. وهكذا نبحث عن الصواب في الظلام والخوف، وربما تضيع الفكرة المنشئة، ويدخل الجدل في صراعات ومتاهات، ولا يعود المحرك الأساسي للعمل والجدل والصراع حاضرا.
يساعدنا المفكر والفيلسوف الاقتصادي، أمارتيا سن، والحائز على جائزة نوبل، في استيعاب فكرة العدالة من منظور اقتصادي وفلسفي، وقد سبقه في ذلك جون رولز في نظريته للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، والموسومة بالترجمة العربية بعنوان"العدالة كإنصاف".
كانت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم عام 2008 فرصة كبيرة لاستعادة الأفكار والنظريات في العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وربما يكون كتاب رأس المال لماركس، كما قال أحد المعلقين الصحافيين قرئ في الأزمة أكثر من أية فترة سابقة، كما أعيد نشر كتب ودراسات ظهرت، في أزمة الثلاثينات، مثل كتاب التحول الكبير لكارل بولانيي، وقدم مفكرون اقتصاديون كتباً ودراسات تساعدنا كثيراً في استيعاب الدروس والأفكار والمناسبات التي تشكلت في عالمنا العربي، منذ أواخر عام 2010.
"يقول سن إن إدراك المظالم التي يمكن رفعها لا يدفعنا إلى التفكير في العدل والظلم فحسب، بل هو لب نظرية العدالة أيضا"يتساءل أمارتيا سن في مقدمة كتابه: كيف يمكننا الانتقال إلى معاينة مسائل إعلاء العدل ورفع الظلم، بدل تقديم حلول لمسائل تمس طبيعة العدالة الكاملة؟ ويشير إلى ثلاثة فروق تتطلب اهتماما دقيقا: أولاً، كي تصلح نظرية ما في العدالة أساساً للتفكير العملي، لا بد لها من أن تتضمن طرقاً لتقدير كيف يمكن إنزال الظلم وإعلاء العدل، بدل التوجه فحسب إلى وصف المجتمعات التي تتسم بعدالة كاملة، وهذه الممارسة الأخيرة سمة طاغية على نظرياتٍ كثيرة للعدالة في الفلسفة السياسية اليوم، وإن لممارستَي تحديد ترتيبات العدالة الكاملة، وتحديد ما إذا كان تغير مجتمعي ما سيعزز العدالة أم لا، صلات بالدوافع، لكنهما ممارستان منفكتان عنها تحليلياً. هذه المسألة الأخيرة ذات أهمية مركزية في صنع القرارات المتصلة بالمؤسسات والسلوك وغير ذلك من محددات العدالة. ولا يمكن أن تكون الكيفية التي يتوصل بها إلى هذه القرارات إلا حاسمة لنظرية عدالة، تهدف إلى إرشاد التفكير العملي إلى ما ينبغي القيام به، ومن الخطأ البائن، ويمكن إثبات ذلك، افتراض أن هذه الممارسة النسبية لا يمكن مباشرتها من دون تحديد متطلبات العدالة.
يبدو واضحا بما فيه الكفاية في حياتنا اليومية، لا من أشكال الظلم والاستبعاد التي يمكن أن تقع علينا نحن، ولدينا سبب وجيه للاستياء منها فحسب، بل ومما نراه من هذه الأشكال في العالم الأوسع الذي نحيا فيه، ولم تكن الثورة الفرنسية، أو حركة غاندي في مواجهة الاستعمار الإنجليزي، أو حركة مارتن لوثر كنغ في مكافحة سيادة العرق الأبيض، ما كان لمثل هذه الأعمال والإنجازات، وغيرها، أن تقع، لولا الشعور بالظلم. لم يكونوا يحاولون التوصل إلى عالم من العدالة الكاملة، لكنهم أرادوا أن يرفعوا المظالم الواضحة بالقدر الذي يستطيعون.. يقول سن إن إدراك المظالم التي يمكن رفعها لا يدفعنا إلى التفكير في العدل والظلم فحسب، بل هو لب نظرية العدالة أيضا.
يظهر تشخيص الظلم غالبا نقطة البداية للنقاش النقدي، ولكن، إذا كانت هذه نقطة بداية معقولة، فلمَ لا تكون نقطة نهاية جيدة كذلك؟ ما الداعي إلى وجود نظرية في العدالة، ألا يكفي إحساسنا بالعدل والظلم؟ ببساطة، لم يكن فهم العالم قط مسألة تسجيل لانطباعاتنا المباشرة. الفهم ينطوي حتما على التفكير، وعلينا أن نقرأ ما نشعر به، وما يبدو أننا نراه، ونسأل إلام تشير تلك المدركات، وكيف يمكن أن نأخذها بعين الاعتبار، من دون أن تسيطر علينا، وما موثوقية مشاعرنا وانطباعاتنا؟ قد يفيد الإحساس بالظلم كإشارة تدفعنا إلى التحرك، لكنها إشارة تتطلب معاينة دقيقة، ولا بد أن يكون هناك تدقيق في سلامة الاستنتاج القائم على هذه الإشارات.
كانت طبيعة الحيوات التي يمكن أن يحياها الناس موضوع اهتمام المحللين الاجتماعيين، على مر العصور. وعلى الرغم من ميل المعايير الاقتصادية الشائعة للتقدم، لا يمكن تبرير ذلك التركيز جوهرياً بقدر ما يمكن تبريره، إلا من خلال ما تقدمه هذه البنود للحيوات البشرية التي تمسها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وصارت مسألة استخدام مؤشرات مباشرة لنوعية الحياة وصلاح الحال والحريات التي يمكن أن تحملها، أو تأتي بها الحيوات البشرية، بدلا من المؤشرات غير المباشرة، محل اعتراف واسع ما ينفك يتسع. ففي تقييم حيواتنا، هناك سبب للاهتمام، ليس بنوع الحياة التي نستطيع أن نحياها فحسب، بل بما نملك كذلك في الواقع من حرية اختيار بين أساليب وطرق العيش المختلفة بالفعل، فحرية تحديد نوع الحياة التي نريد أن نحيا هو أحد الجوانب القيمة للعيش التي يكون لدينا لتقديرها سبب، وكذلك يمكن أن يوسع إدراك أهمية الحرية شواغلنا والتزاماتنا.

عن العربي الجديد