كاواباتا في (العاصمة القديمة)

كاواباتا في (العاصمة القديمة)

سعد محمد رحيم
قليلة هي الروايات اليابانية التي تُرجمت إلى العربية، غير أن هذا القليل يمنحك انطباعاً بأن لتلك الرواية مناخها الخاص، ونكهتها المميزة. وهي إلى جانب ذلك تعكس نضجاً فنياً عالياً، وتعبّر عن رؤية وجودية مختلفة، طالما أنها تحكي عن تجربة لها فرادتها، وتترشح عبر مرجعية قيمية وحضارية تتباين عمّا ألفناها، هنا في الشرق (الأدنى والأوسط)، وفي الغرب.

قرأنا (هدير الأمواج) و(اعترافات قناع) ليوكيو ميشيما، و(البحر والسم) لشاساكو أندو، و(المرأة في الرمال) لآبو كابي، و(حزن وجمال) و(بلاد الثلوج) و(البحيرة) و(منزل الجميلات النائمات) لياسوناري كاواباتا، وغيرها من الأعمال التي عرفت طريقها من خلال الترجمة إلى اللغات الحيّة. وفي كل مرّة، كان إعجابنا بالرواية اليابانية يزداد، وتدهشنا التقنيات والأساليب التي تُكتب بها، والعوالم التي تُعرِّفنا عليها.

وقد خلق بعض من الروائيين اليابانيين أسطورتهم الخاصة وهم ينهون حياتهم، أو يختارون شكل موتهم على طريقة الساموراي. وأشهرهم ميشيما الذي انتحر في العام (1970)، احتجاجاً على غربنة اليابان، تاركاً صورة تراجيدية عن نهايته في أذهان قرّائه. هو الذي انتمى إلى حركة الرومانتيكيين اليابانيين الذين يبجلون العاطفة ويرون في تدمير الذات قيمة عليا. أما ياسوناري كاواباتا فقد كان أول ياباني يحصل على جائزة نوبل للآداب بعد أن ترشح لها ميشيما أيضاً ثلاث مرات، وحال انتحاره دون حصوله عليها. وحذا كاواباتا حذو ميشيما في وضع حد لحياته في العام (1972)، على طريقة الساموراي كذلك.
ولد كاواباتا في منطقة أوساكا جنوب طوكيو في 11 حزيران 1899، وفقد والده ومن ثم والدته وأخته وجدّته، فكفله جده الذي توفي وكاواباتا في الرابعة عشرة ليواجه قدره وحيداً. وبطبيعة الحال أثرت هذه الميتات على حالته النفسية ورؤيته للوجود والعالم، ومن ثم على أدبه وهو يكتب أروع النصوص الروائية في مسار الأدب الياباني المعاصر.. التحق كاواباتا بمدرسة داخلية قبل أن يواصل تعليمه في مدرسة خاصة بالنخبة في طوكيو. وفي وقت مبكر نشر كتابه الأول (قصص بحجم راحة اليد) الذي احتوى على 164 قصة قصيرة، أعقبه بكتاب (راقص الإيزو) الذي ضمنّه سيرته الذاتية، وقد جلب له هذا الكتاب الشهرة مبكراً. ومنذ ذلك الوقت نشر قصصاً وروايات عبرت باسمه القارات، وبوأته مكانة عالمية في دنيا الأدب، فاستحق عليها جائزة نوبل للآداب في العام 1968. وقد كتب في النقد الأدبي أيضاً، وأصدر مجلتين هما (الحوليات الأدبية) و (عصر الأدب).
في رواية (العاصمة القديمة، من إصدار دار المدى، وترجمة الأستاذ صلاح نيازي) نتلمس ذلك الهدوء وتلك الرصانة في الكتابة، بالتناظر مع أوضح صفات الشخصية اليابانية التقليدية. فالسرد يتقدم ببطء عذب، مع شحنة شعرية عالية، حتى يخيل للقارئ أن لا أمر مثيراً يحدث ثمة. على الرغم من أن الراوي يعلمنا منذ الفصول الأولى، أن الحدث الرئيس في الرواية سيكون بحث تشيكو عن حقيقة أصلها. وهل أنها لقيطة تُركت أمام باب محل تاجر جملة ومصمم زنانير اسمه تاكيتشيرو، أم أنها سُرقت من قبل التاجر وزوجته كما تؤكد هذه الأخيرة لها، كي لا تشعر البنت أنها كانت منبوذة. وهنا لا يبدو الراوي على عجلة من أمره في كشفه لبقية مجريات القصة وتفاصيلها التي هي قليلة على أية حال، فنجده يأخذنا في جولات ونزهات لرؤية الأزهار وأوراق الأشجار في الربيع، وكذلك المعابد والمهرجانات الكثيرة التي تقام الواحد تلو الآخر، والتي تعكس أثرى ما في الروح اليابانية من نزوع إلى الاحتفاء بالطبيعة والحياة. وهذا كله نراه بعيون شخصيات القصة، ولاسيما تشيكو برهافة روحها وحساسيتها.
"لكن في الجانب الآخر من الجرف في غيضة من الأشجار، أطلعت شجرة أندروميدا أزهارها البيضاء بحياء. فكرت تشيكو بالمدينة القديمة نارا، هناك أيضاً أشجار صنوبر بأشكال حسنة، لكنها ليست طويلة. حتى لو لم تكن هناك أزهار كرز، فإن خضرة الصنوبر تبقى تأسر العين". وتكاد أمثال هذا المقطع تغطي أغلب فصول الرواية، وتتخلل السرد الذي يتابع بروية وأناقة حركة شخصياتها. الحركة التي هي رتيبة وتخلو مما هو عنيف ومثير وحسي ويحبس الأنفاس كما تعودنا في قراءاتنا للروايات الغربية وحتى العربية. هناك عواطف متقدة، لكنها تظل أسيرة النفس، محتجبة لا تتحول إلى سلوك صارخ. والمرة الوحيدة التي نتفاجأ فيها بسلوك غريب وعنيف تكون حين يصفع فيها تاكيتشيرو الشاب أيديو الحائك أمام والده لأنه تجاوز قليلاً في أثناء الحديث معه ونبهه إلى تناشز في تصميمه لزنار أراد تقديمه هديه لأبنته المتبناة تشيكو. أعتذر الأب وطأطأ الشاب خجلاً وندم تاكيتشيرو.
يغادر السرد بعض رتابته لمّا تلتقي تشيكو مصادفة بأختها التوأم ناييكو، التي تعمل في قطع الأشجار في الريف. فتعرف أن عائلتها ضحّت بها بسبب الفقر واحتفظت بأختها، وأن والدهما سقط من فوق شجرة وهو يقفز من غصن إلى غصن وقضى نحبه، وماتت أمهما بعد مدة وجيزة.. تعيش ناييكو حياة الفاقة وتضطر إلى مزاولة العمل الشاق، وتبقى تحسّ بالفارق الطبقي بينها وبين أختها تشيكو التي تعيش في كنف عائلة ميسورة نسبياً وذات مكانة اجتماعية أعلى، وهذا ما يجعلها تفكر بأنها لا تريد أن تكون عقبة أمام سعادة أختها، التي تدعوها بالآنسة. وفي مفارقة لاحقة نجد كيف أن إيديو، الذي كان يفكر بالزواج من تشيكو البرجوازية يُغرم بناييكو العاملة، أو يختارها بديلة عن تشيكو، حيث يعتقد بأنها لن ترضى به. تقول ناييكو لأختها:"ما الخطأ؟ أعتقد أن ايديو، يريد أن يتزوجني كوهم بديل عنك، يا آنسة، أنا فتاة. أنا أعرف".
تناقش الرواية، من جانب آخر، وإنْ بشكل عرضي، ولكن مقصود، الصراع بين التقليد والإرث القومي من جهة، والغربنة من جهة ثانية. فهناك من يتمسك بالموروث الوطني من العادات والقيم والطقوس والسلوكيات في مقابل من يرمي بهذا كلّه عرض الحائط مستعيراً بما في الغرب من قيم وتقاليد، وحتى لغة، ترتبط بالتمدن الصناعي والليبرالية السياسية، بدءاً من الأزياء وفنون العمارة وانتهاءً بالتكوين المؤسساتي للدولة والمجتمع. وأيضاً هناك من يحاول أن يأخذ من الغرب من غير أن يضحّي تماماً بالأصالة والروح اليابانية. ففي مقطع ذي دلالة لا تُخفى، يجري الحوار التالي بين تاكيتشيرو وسوسوكه، والأخير صاحب مشغل نسيج.
"ــ إن الناس في هذه الأيام سرعان ما يستعملون كلمة إنكليزية مثل ((idia ـ فكرة أو شعور sence)) حتى الألوان يُشار إليها بتعابير غربية على آخر موضة.
ــ تلك ليست أشياء جيدة.
ــ إنني أكره أن تلك الكلمات الغربية باتت متداولة. ألا توجد ألوان أنيقة بروعة، في اليابان منذ العهود القديمة؟".
أي أن إشكالية الهوية بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية تشغل بال المؤلف شأنه شأن عشرات الكتّاب اليابانيين الذين تعرضوا لهذه المسألة الشائكة في نصوصهم والتي هي مركزية في الخطاب الثقافي الياباني منذ منتصف القرن العشرين.. وها هي العاصمة القديمة لليابان (كيوتو) التي تجري فيها أحداث الرواية تشهد تقلبات بنيوية تهدد أصالتها وهويتها:"عُرفت العاصمة القديمة التي عمرها ألف عام، بأنها المكان حيث كثير من الابتكارات من الغرب تُتبنى على عجل". مثلما يخبرنا الراوي.
ليس هذا وحسب، فإلى جانب الصراع بين الحداثة والتقليد، نجد أن الأحداث تومئ إلى صراع يبدو هادئاَ للوهلة الأولى، ينعكس في النفوس والأذهان، غير أنها حقيقي بين جيل الآباء وجيل الأبناء.. بين المدينة والريف.. بين الطبيعة وزحف المدن عليها.
وبين تضاعيف النص يتعرف القارئ على الهواجس الوجودية لشخصياتها بثيماتها التي هي الحب والحرية والموت.. يتساءل تاكيتشيرو مع صديقه سوسوكه وهما يراقبان ضباب الربيع:"ولكن ألاَ يجعلك هذا الضباب تفكر بالربيع المتلاشي؟". أما الحب فيتدفق تياره في القلوب على استحياء، وها هي تشيكو تحلم بالشاب ريوسوكه يقول لها:"أي نوع من العطر... أية روح طيبة تنبعث من يدك".
رواية (العاصمة القديمة) لياسوناري كاواباتا تستدرجنا في جولات ممتعة بين مهرجانات اليابانيين وأعيادهم، وتطلعنا على قيمهم الأخلاقية ونمط حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ورؤيتهم إلى ذاتهم والعالم.. أي باختصار على جوهر ثقافتهم وفكرهم. فنحن معشر القرّاء نحظى، في الأحوال كلها، بمعلومات وافية عن نمط الحياة اليابانية في هذه الرواية.
حين مُنح كاواباتا جائزة نوبل للآداب، جاء في بيان اللجنة المقررة"مُنح الجائزة لأسلوبه القصصي البارع الذي يعبّر بحساسية عظيمة عن جوهر الفكر الياباني*".

* في ما يتعلق ببعض جوانب حياة كاواباتا، استفدنا من كتاب (موسوعة نوبل للآداب) لمؤلفه إبراهيم زيدان.