لماذا لم يتزوج الملك غازي ابنة ياسين الهاشمي؟

لماذا لم يتزوج الملك غازي ابنة ياسين الهاشمي؟

د. سامي القيسي
هناكَ إجماع لدى مؤرخي تاريخ العراق المعاصر على وطنية الملك غازي الأول، كان شاباً فتياً نشطاً بسيطاً متواضعاً لطيف المعشر حلو الحديث أحبه الشعب العراقي لحميته الوطنية وحماسته القومية. دخل المدرسة العسكرية في دورة أبناء العشائر عام 1928 وعمره 17 عاماً، وتخرج عام 1932 ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ (صنف الخيالة)

وفي المدرسة العسكرية لم يكن كثير الاهتمام بالدروس النظرية وإنما أظهر تفوقاً واضحاً في الميكانيك والتمارين العسكرية، لاسيما الفروسية كما كان له شغف بقيادة السيارات. إلا أن هؤلاء المؤرخين تباينت آراؤهم بصدد تقييمهم لنزواته وسلوكياته الشخصية، فالبعض منهم كشف عن المستور من هذا السلوك!.

وسلط الضوء على تصرفاته غير المسؤولة ولقاءاته وسهراته المشبوهة التي كثر الحديث عنها، فضلاً عن شرب الخمرة ومعاقرتها، إذ لم تكن تلك التصرفات لتنسجم مع مركزه وموقعه كرمز وملك للدولة العراقية. وبرر أحد مرافقيه أن واحدة من مشكلات الملك الشخصية التي افصح عنها لمقربيه، أن فرض عليه الزواج من ابنة عمه الملك علي الملكة عالية، وإنه لم يكن يوماً سعيداً بهذا الزواج ولربما دفعه هذا الأمر الى اللهو والابتعاد عن سكنه ومسؤولياته والانحدار الى الكثير من التصرفات التي قادته في النهاية الى التهلكة. وعلى العموم كانت سلوكيات الملك غازي مواضيع خصبة تناولها الكثير ممن كتب في تاريخ العراق المعاصر، البعض انتقدها بشدّة صارخة، وآخرون قدموا لها تبريرات قد تكون مقبولة في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى غير مقبولة.
وقبل زواجه من الملكة عالية، كانت قد حامت حوله الشبهات بنيته أو رغبته الزواج بكريمة ياسين الهاشمي الصغرى. وياسين الهاشمي هذا هو واحد من أبرز رؤساء الوزارات العراقية خلال الثلاثينيات، وسياسي محنك ترك بصمة واضحة في مسيرة التطور السياسي في تاريخ العراق المعاصر، وقد انتهت مسيرته السياسية الحافلة بالأحداث والانجازات بانقلاب عسكري هو الأول من نوعه، ليس في العراق وإنما في منطقة الشرق الأوسط عموماً، ذلكم هو انقلاب بكر صدقي في 29 / 10/ 1936 كانت لياسين الهاشمي ثلاث بنات، مديحة ولدت في بغداد عام 1911، صبيحة ولدت في الموصل عام 1913، نعمت ولدت في الموصل أيضاً عام 1915. يلاحظ أن غازي ولد في مكة عام 1912 أي أن نعمت أصغر منه بثلاث سنوات.
وقد تولى غازي مسؤولياته الدستورية ملكاً على البلاد في 8 ايلول 1933، بعد وصول أخبار وفاة والده الملك فيصل في مدينة برن بسويسرا، إثر انسداد شرايين القلب بشكل مفاجئ وفي ظروف غامضة تعددت بشأنها التقولات، وكان عمر الملك غازي حينذاك 21 عاماً وعمر نعمت 18 عاماً.
لقد احدثت وفاة الملك فيصل فراغاً كبيراً في السياسة العراقية، لم يتمكن الملك غازي من ملئِه لأسباب أهمها صغر سنّه وقلّة تجربته كما أنه لم يكن على قدر كافٍ من الحزم والحنكة، إضافة الى إحاطته بمجموعة من الزعماء والسياسيين ممن كانوا حسبما ذكر توفيق السويدي في مذكراته، على جانب كبير من المقدرة والكفاءة وممن أمضوا أعمارهم في الاشتغال بالقضايا العامة. وإذا كان موت الملك فيصل المفاجئ قد خلق فراغاً صعباً على الملك الشاب ملؤه، فإنه أوجد لياسين الهاشمي فرصته لم تكن موجودة من قبل، إذ تحرك كعادته بهدوء وبثبات نحو هذا الاتجاه بالانتساب الى العائلة المالكة، إذ سرعان ما انتشرت إشاعات في بغداد تفيد بأن الملك غازي سيقترن بنعمت ابنة ياسين الهاشمي الصغرى، إلا أن محاولته الأخيرة لم يكتب لها النجاح، حيث اعلنت خطوبة الملك غازي المفاجئة على الأميرة عالية يوم 18 ايلول 1933، أي بعد 10 أيام من وفاة والده.
وهنا لابد من البحث عن مصدر هذه الإشاعة ومروّجها، إذ لايعقل أن يكون الهاشمي هو من أطلقها، فالمعروف عنه الكتمان وقلّة الكلام والتحفظ المبالغ فيه، كما لايعقل أن يروّج الأب لموضوع تزويج كريمته في مجتمع ذكوري كالمجتمع العراقي، لأن الأب العراقي أياً كان يؤمن بقناعة عالية أنه من المعيب جداً جداً، الخوض في هكذا موضوع. لذا يمكن القول بكل اطمئنان، أن مواضيع من نوع الزواج والخطوبة وتفاصيلها، ما هي إلا مواضيع ذات خصوصية وطبيعة نسوية وتشكّل مادة أساسية في أحاديث المجتمع النسائي اليومي، ويبدو من خلال التتبع لطبيعة العلاقات الاجتماعية حصول اللقاءات والزيارات بين نساء العوائل الموسرة حول جلسة لشرب القهوة والشاي أو الدعوات للاحتفال بمناسبة ما.
فليس مستبعداً أن يكون هناك تزاور ولقاء بين كريمات الهاشمي وأخوات الملك غازي في مناسبات اجتماعية أو لقاءات عائلية متعددة، وقد يكون هذا اللقاء يومياً أو أسبوعياً وعندها لربما كان لأخوات الملك وكان ولياً للعهد آنذاك، أن تحدثن في موضوع زواجه، ولربما أيضاً تكلمن عن نعمت بالذات. أو قد يكون العكس هو الصحيح، إن كريمات الهاشمي هن من روجنّ لهذه الإشاعة أو هن من تكلمن عن الموضوع واختلقن هذا السيناريو الذي وصل ناضجاً الى والدهم الذي أراد استغلاله، وإن لم يصرح به لتعزيز نفوذه بالانتساب الى البيت الهاشمي في وقت عرف عن الملك غازي افتقاره الى التجربة والنفوذ.
وفي مقابلة مع صبيحة الهاشمي في 22/ 12/ 1972 في دارها في الوزيرية في بغداد، أكدت أنها وأخواتها كانت لهن علاقة صداقة قوية مع أخوات الملك غازي، وكن يتبادلن الزيارات، وحصل أكثر من مرة أن التقين ولي العهد غازي، أما عند ذهابهم لزيارة العائلة المالكة او بعد الانتهاء من هذه الزيارة، إلا انها لم تفصح عن هذا الالتقاء، أهو مصادفة أم كان يحصل وفق ترتيب مسبق؟ ولكنها لم تستبعد أبداً في حديثها أن الأمير واخوانه كانت عيونهم على اختي الصغرى نعمت، وكنا متفائلين جداً وتشجعنا للسير لهذا الاتجاه. وهذا يعني أن الاشاعة فيها نصيب كبير من الصحة والذي عزز من صحتها سرعة انتشارها في المجتمع البغدادي الذي سرعان ما تنتشر الاشاعات بين أفراده من كل حدب وصوب.
وبالتالي يمكن القول بكل اطمئنان، إن هذه الشائعة كانت صحيحة وإن مصدرها القوي كريمات الهاشمي أولاً، واخوات الملك ثانياً، ولكن تبيّن من سياق الأحداث أنها لم يكتب لها النجاح وتتحقق على أرض الواقع، فضلاً عن خطوبة الملك غازي المفاجئة وزواجه اللاحق من الأميرة عالية في 25 / 1/ 1934، وأن ياسين الهاشمي أسرع في زواج ابنته نعمت قبل أخواتها، وقد ادعى محمود صبحي الدفتري في مقابلة جرت معه يوم 11/ 3/ 1973 في دارة بالكرخ، أنه كان عاملاً مهماً في تزويج نعمت من قريبه علي ممتاز الدفتري.
وتبيّن لي فيما بعد من مقابلات عديدة، من بينها مقابلة مع أحمد المناصفي في المركز الوطني الوثائق يوم 8 / 1 /1973 وهو من المقربين جداً الى نوري السعيد، ومقابلة مع محمود النعماني يوم 27 / 1 / 1972 في داره بالكرادة، وهو من المقربين جداً لعائلة ياسين الهاشمي، أن كلاً من نوري السعيد وجعفر العسكري قد سعيا سعياً حثيثاً لإفشال مشروع ياسين الهاشمي، الى درجة أن نوري السعيد سافر الى الأردن واتصل بالملك عبد الله من أجل الاسراع بتزويج الملك غازي من الأميرة عالية، وقد ألقى ناجي شوكت ضوءاً على هذا الموضوع في مذكراته المطبوعة على الصفحات 261 ـ 262 وبالمناسبة لابد من القول إن اخلاص نوري السعيد للأسرة المالكة، فوق مستوى الشبهات رغم شدة التناقضات بينه وبين الملك غازي، إلا أنه لم يكن ليتصور في يوم من الأيام أن يرى ياسين الهاشمي ينتسب الى الأسرة المالكة، ولسان حاله يقول كما تجمع عندي من المقابلات الشخصية، أن الهاشمي لايحتمل وهو وزير أو رئيس للوزراء، فكيف سيكون حاله وحالنا بعد أن يصبح عماً للملك؟، لذلك سعى ذلك السعي الحثيث لإفشال مشروع زواج الملك غازي من خارج الأسرة المالكة والسعي في الوقت نفسه، الى تهيئة الأجواء لزواجه من ابنة عمّه.