فريدا كاهلو، خلود الجسد...

فريدا كاهلو، خلود الجسد...

جابر حسين
فاكهة وأشجار
ضوء ودموع وفقراء...
وفريدا كاهلو
مثل فراشة مكسورة ومحطّمة
مثل دموع مالحة في بحر

ليمون حامض وشهوات...
دموع في أي طريق
من يقول إن ضربات الفرشاة ستظل خالدة؟
لكنني سأعمل بكل طاقتي
لكي أتجاوز عالمي هذا"...
و..."كان ما سوف يكون"،
تجاوزته!
عاشت في الزمهرير وتحت الضوء المحرق، حياتها عذاب لجسدها، أمرأة مجرحة، محطمة، ومعاقة، حياتها مثخنة بالألم، لكنها شغوفة بالحياة، وتريٌ جمالها. ولدت في 6/7/1907 في إحدى ضواحي كيوكان بالمكسيك، في السادسة من عمرها أصيبت بشلل الأطفال، فضمرت ساقها اليمنى. في أحد أيام سبتمبر/ ايلول 1925، كانت عائدة إلى منزلها بالبص حين دهم ترامواي"خوشيميلكو"في مكسيكو الباص وجره فضغطه إلى جدار أسمنتي، أخترقها ساعد المقعد المعدني من الخلف فأنكسر عمودها الفقري، من بعد، قالت بلغة الحياة الساخرة:"لقد سلبني باص عذريتي!". فأخضعت إلى 32 عملية جراحية... وأجهضت ثلاث مرات، وبترت ساقها اليمنى، فأصبحت، من بعد، حياتها كلها لكأنها تعيشها في غرفة تمريض في مستشفى يعيش معها الحياة لحظة بلحظة: تخثرات الدم، والرائحة الحادة للكلوروفورم، والضمادات والإبر والمشارط والمغارس... وجسدها مشدودٌ بمشدّات من الجص وقضبان معدنية، جميعها، لاشك، أدوات تعذيب مرٌّ لجسدها، لكنها أبداً ما أستطاعت أن تنال من روحها! أصبح السريرُ مسرحاً لجسدها. في غرفتها في المستشفى كانت أمّها قد وضعت لها مرآة على سقف سريرها لتخرجها من مشهد عنبر المرضى، من بعد – حين غادرت المستشفى – أخذت لها أمّها ذات المرآة الكبيرة فوضعتها في سقف غرفتها المنزلية. في المستشفى ثم في المنزل عاشت وحيدة مع مرضها العضال، وصورة جسدها المشوّه وهواجس روحها التواقة للحياة وبهجتها... فأخذت ترحل من واقعها المؤلم الشائه إلى الحلم ذي الأجنحة التي تحذق النهوض والتحليق عالياً عالياً، إلى الرسم، فكان براحها الوسيع الوسيم! ثبّتت حمالة الرسم إلى حضنها، وفي متناول يدها الفرش والألوان والأقلام، وشرعت – بإصرار ورؤية مدهشة – ترسم حياتها، تكتبها في لوحات، سيرتها الذاتية ونمط حياتها القاسية، ومواجد حبها للحياة، وعواطفها التوّاقة للحب والعشق والجمال، تلك كانت مواضيعها في الرسم.
بعد خروجها من المستشفى، وبعد أن تعافى قليلاً جسدها المنهك، استطاعت، بإرادتها القوية، أن تنهض (مستطيعة بغيرها على قول طه حسين) وأن تشارك في لقاءات الفن ومنتدياته التي كانت مزدهرة تلك الأيام. في أحد تلك اللقاءات ألتقت"دييغوا ريفيرا"أشهر فناني الرسومات الجدارية المكسيكيين، فنان ضخم الجسم، بعضهم يصفونه بالقبح القليل وعدم التناسق الجسدي، وهي ذات جمال ساحر غريب، وشخصية حبيبة متفتحة كزهرة يانعة، كان مشهوراً جداً، بينما هي لاتزال في أسفل سلّم الشهرة، لاتزال في الحبو، هو في الثالثة والأربعين وهي بنت الثانية والعشرين. العام 1929 تزوجا، ومنذ ذلك أصبحا ثنائياً فريداً في الفن والحياة معاً. عشقته حد الولع المؤلم، لكنه كان يخونها، عندما علمت تطلّقت منه العام 1939... رغم خيانته لها وانفصالها عنه، كانت تكتب إليه:"أرى نفسي اليوم أنني ما توقفت عن حبك، وأنني أحبك أكثر من جلدي، وحتي لو أنك لا تحبني بنفس القدر، فإنك على الأقل تحبني قليلاً، أليس كذلك؟ وإذا لا، فأنا احتفظ دائماً بالأمل للوصول إلى ذلك، وهذا يكفيني. أحبني قليلاً، وأنا أعبدك!". فكان سرعان ما تزوجا مرّة أخرى بعد اعترافه بخطيئته واعتزاره بها، فاقتنع قلبها الملائكي البريء، عادا، وظلّا متحابّين، أبداً لم يفرق بينهما إلاّ موتها من بعد!
عاشا معاً في منزل طفولتها في"لاكاسا أزول / المنزل الأزرق"، الذي تحوّل فيما بعد لمتحفها بذات الإسم، وهو نفس المنزل الذي استضافا فيه الزعيم الشيوعي المنشقّ عن ستالين ليون تروتسكي، عند نفيه إلى المكسيك 1937، وزارها العام 1938 أندريه بريتون، الذي بهرته أعمالها، فدعاها لإقامة معرض في باريس، فلبّت الدعوة، ونجح المعرض نجاحاً باهراً هناك، وهناك أيضاً تعرفت إلى بول إيلوار وماكس إرنست، وأعجب كاندينسكي بأعمالها، وأبدى إيف تانغي وجون ميرو، حماسة كبيرة لأعمالها... وكبادرة اعجاب وصداقة قدّم لها بيكاسو زوجاً من أقراط العاج. فريدا لم تنتم إلى أيّ من المدارس الفنية التي كانت سائدة وقتذاك، ولها البريق واللمعان ورموزها الكبار، فظلّت تردد :"لم أرسم يوماً أحلامي، إنما واقعي".
كانت شيوعية، وكذلك ريفيرا، فظلّت شامخة لاتنحني ولا تزوي روحها المزهرة أبداً، لا الخيانات ولا الانفصامات ولا الاضطرابات التي تداخلت في حياتها وعلاقتها بريفيرا، نجحت في التفرقة بينهما، فظلّا طوال 29 عاماً، يعيشان بحب يظلّلهُ الحنان ورفقة الفكر والفن وسط تلك الدوامات المخيفة من عواصف وزمهرير الحياة وصعوبتها. ظلت تجد دائماً العزاء في الفن، في الرسم الذي غدا سبيلها في الحياة: مرّة ترسم نفسها كإحدى أميرات الإنكا بضفائر مزيّنة بورود وأشرطة ملوّنة ونظرة ثاقبة لاتعرف الحيرة والتوهان، ومرّة ترسم بسذاجة طفولية جراحات جسدها المفكّك العليل... كانت تسرف في الشرب، تخلط الكحول بالأدوية والمورفين – كان الأطباء نصحوها بذلك – للتخفيف من آلامها المبرحة، لكنها كثيراً ما كانت تضاعف الجرعات وتكثر منها، فبدأت أوقات الرسم تقل، وحركة يدها أقل وأثقل، لكنها – بإصرار غريب – استطاعت كتابة مذكراتها، حكت كثيراً فيها، كتبت عن الفن والسياسة، عن الحب والجنس وعن الحياة، وحكت عن وجعها، أوجاع جسدها وقسوته عليها، على روحها الشفيفة المرهفة. لكنها، وياللمفارقة، كانت تحبه جداً جسدها، في لوحاتها أظهرت كثيراً نبضات روحها الأسيانة، ورائحة بشرتها السمراء، أحبته حدّ النرجسية!
كانت فنانة كبيرة، أمرأة ساحرة و... مدهشة...
قال عنها أندريه بريتون:"شريط ملون معقودٌ حول قنبلة."!
بيكاسو قال مخاطباً ريفيرا:"لا أنا ولا أنت بمقدورنا تجسيد البورتريه كما تفعل فريدا"...
دييغو ريفيرا وصف نتاجها الفني فقال:"المحبوب والرائع والمبتسم والقاسي، كما هي
الحياة....
كارلوس فونتس قال عنها:"لا أحد من فناني القرن العشرين، نال الألم مثلما نال من فريدا،
ورسمته."..

العام 1954، ماتت فريدا كاهلو، غُطّي نعشها بالراية الحمراء، وشيّعها خلقٌ كثير...
بعد عام من وفاتها، التقى ريفيرا مجدداً عشيقته دولوريس أولميدا، التي كان قد تعرّف عليها العام 1928 في المكسيك (المكسيك المزهر الشائك على قول نيرودا) بينما كان يرسم لوحات جصيّة لصالح وزارة التربية، ثم فقدها، فلم يلتقها إلاّ بعد وفاة فريدا! دييغو ريفيرا توفّي عنها العام 1957، وتوفيت هي العام 2002.
هكذا مضت بهم الحياة، في مباهجها وقسوتها، فريدا هي التي خلّدت نفسها وجسدها وحياتها في لوحات جميلة وسيرة حياة مضيئة، لم يبق إلاّ الفن يحدث عنها وسيرة حياتها، لكأنها قالت للموت كما درويش :
“فمن أنا لتزورني؟
ألديك وقت لاختبار قصيدتي. لا، ليس هذا الشأن
شأنك. أنت مسؤول عن الطيني في
البشري، لا عن فعله أو قوله /
هزمتك يا موت الفنون جميعها...!"...
فريدا هزمت آلام جسدها وجروحه النازفات، هزّت خيانات حياتها، فعاشت الحياة، وهزمت الموت!