فاطمة المحسن
عدد النساء القاصدات لمعرض فريدا كاهلو في تيت مودرن بلندن، يفوق عدد الرجال، مع أن الاحتفاء بها عبر الصحف ووسائل الإعلام هذه الأيام لم يكن قاصراً على الكاتبات. لقد خفّت بريق كل الإعلانات عن المعارض التشكيلية والفعاليات الثقافية، وبقيت كاهلو تتصدر كل الواجهات.
لاشك أن لاسم فريدا جاذبية بين الجنسين، ولكن النساء يشعرن بانتسابها إليهن كنموذج عُدَّ في عُرف نسوية القرن العشرين من بين من يحقّق مبررات وجودها.
فريدا كاهلو التي حملت صليب الأنوثة الملتبسة، بين الاستكانة لشروطها والتمرد عليها، كانت في الحالين تضع الجمال والفن وسيلتين للمحاججة في أيّ معركة تدخلها.
المكسيك عند ولادة فريدا كاهلو 1907 كانت تعيش زمنها الرديكالي، فالاولغاركية الذين يمسكون والاقطاع ثروات البلد، أدخلوا الثقافة الغربية ونمط الحياة المتمدن الحديث، وهكذا غدت الحداثة ترتبط بسيرتهم، مثلما ارتبط الجوع والفوارق الطبقية بهم. وقد شهدت طفولة فريدا ثورة زاباتا الذي أصبح اسمه أيقونة في تاريخ كل اليسار المكسيكي. ومع أن فريدا كانت تنتمي الى الطبقة المتوسطة، وبين النساء القلائل في زمنها اللواتي حصلن على تعليم جيد، وكان والدها من الألمان المهاجرين، غير أنها انتمت الى الشيوعيين في وقت مبكر، وأصبحت هويتها المكسيكية كفنانة ومنخرطة في العمل السياسي، أحد معالم تحول المثقفين في بلدها في فترة مابعد الكولنيالية.
ولعلّ من بين محطاتها الأبرز ارتباطها بعلاقة حميمية مع تروتسكي خصم ستالين الأممي، ولم يخفت إعجابها بالأخير حتى بعد مقتل تروتسكي على يديه، حيث وجّهت أصابع الاتهام البعيدة الى دييغو ريفيرا زوجها الذي ربما دلَّ عليه.
حياة فريدا السياسية والفنية والشخصية تلقي الضوء على مزاج المكسيك الفطري الفلاحي الذي مثّل خلاصة فنها وإبداع أعظم فنان مكسيكي دييغو ريفيرا الذي تزوجته وعاشت معه حياة مضطربة، ولكنها مملوءة بالإنتاج.
قد يختلف النقّاد في تقويم فن فريدا كاهلو، ولكنهم غير قادرين على تجاوز مكانتها العالمية، وجماهيريتها التي جعلت منها أيقونة ثقافية، مثلما زجّت أعمالها وصورها في ماكنة التداول التجاري على مدى عقود، وبخاصة بعد وفاتها قبل خمسين عاماً.
أهم مايلفت في أعمالها، القدرة على تحويل الفن الى ظاهرة شخصية شديدة الخصوصية، فهي تشتبك مع المرئيات وتحوّلها الى مسرودات تخصّها، مستفيدة من تراث المكسيك وحضارة الازتك والمايا. الموت والحياة من بين مواضيع سردها في اللوحة، ولا شك أن تجربتها مع الموت قد أثرّت في خياراتها، حيث تعرضت وهي طالبة الى حادثة سير أقعدتها الفراش سنوات طويلة.
تتكرر في أعمال فريدا صورتها، فهي ترسم نفسها وقصة حياتها وعلاقتها مع الآخرين، وقد قالت مرّة إنها تعيش معظم الوقت وحيدة بسبب مرضها، وهي لم تجد شخصاً تفهمه لترسمه مثلما تعرف نفسها.
بيد أن المعاين يرى أن لوحات الاحتفاء بالنفس، تحمل ممكنات البحث عن بطولة في وعي الذات الرومانسية بنفسها، ووجودها الواحدي المكرّر. فصورة فريدا بجمالها المُشبّع بالتعبير، تمثّل النموذج البدئي لأنثوية الاحتفاء بالطقوس، طقوس الجسد والألوان الصريحة المُبهجة، والحسيّة التي تختفي في منطويات النظرة المستكينة للألم.
من النادر أن نجد فناناً معاصراً لكاهلو، يملك قدرتها على التعبير المباشر عن العواطف، دون حُجب الخوف أو محاولة تفعيل التجربة فنيّاً وتهذيبها، فهي في تلقائيتها تكاد تكون إنموذجاً يجمع الفن الفطري الى الذوق المتصل بالحداثة، ولعلّ التوفيق بين السوريالية والفطرية في لوحات الفنانة قد جعل مسروداتها تهّوم في عوالم الحلم، ويرتبك بعض وضوحها، ولكنها بقيت تتصل مباشرةً مع ناظر لوحتها، فهي تخاطبه مثل طفلة وتشير الى محتويات الصورة بالعنوان أو الكتابة المباشرة على اللوحة.
لوحة فريدا مملوءة برموز الديانات المكسيكية القديمة وتظهر فيها الطواطم ودمى السحر والتعاويذ، حيث تشكّل الشموس والأقمار والحيوانات والثمار والعلامات التي تزيّن الجبين، وصورة الجماجم، شيفرات تلك الديانات التي امتدت الى الكاثوليكية وشكّلت جزءاً من طابعها المحلي.
الكثير من نقّاد كاهلو، يرون أنها كانت على ثقافة واسعة بالديانات والفلسفات التي تناوش تراث بلدها، وما من رمز استخدمته في لوحتها إلاّ وتكمن خلفه إشارات روحانية تؤمن بها أو تعتبرها جزءاً من كيانها الفني والإنساني.
تزوّجت فريدا دييغو ريفيرا وهي في العشرين، وكان هو في الأربعين، فنان المكسيك الأبرز، الذي درس المعمار بالغرب، ولفت نظر باريس عاصمة الفن في العشرينيات، وارتبط بفنانيها وعرض فيها أعماله. فتعلّمت من فنه وطرق حياته الكثير، مثلما كانت تجربتها معه مبعث ألم تبرزه في لوحاتها، فهي تضع صورته على جبينها، وتكتب دييغو في خاطري. أو ترسم نفسها مكررة في صورتين واحدة باللباس المحلّي والأخرى بالبدلة الغربية، والأولى يظهر قلبها فوق الثياب نابضاً بحب دييغو، والثانية قطعت شريانه ليلطّخ ورود فستانها الأبيض، أو ليحفر وروداً جديدة عليه. حبها لريفيرا الذي سجّلته على كراسات الرسم وفي كل مكان، يمثل شفاهية فريدا في الإعلان عن العواطف، فهي لم تكن لدييغو وحده ولم يكن هو ملكُ يديها.
وفي الظن أن الكثير من لوحات فريدا تتمثل فن الحياة الإنسانية، لا الفن المجرّد. كيف تعيش وكيف تشعر بالوجود الروحي العميق لكيانك؟، ذلك ما يشغل فريدا، فهي تزيح كل التصنّعات التي تجلبها الكتب، لتقترب من ملامسة مذاق الحياة الحريف الذي يغوص بها الى نشوة الاكتشاف وشبقه. بعض لوحاتها تثير النفور، وأخرى توحي بالضعف والسذاجة، ولكنها تبقى تحمل طابعها الشخصي، حياتها التي تعرضها على البشر ودموعها السخيّة التي انهمرت على خدود سيّداتها. الفواكه اليانعة الوحشية المنفلقة، والحيوانات التي تطل من خلف صورها، وعقودها وزينتها الرائعة التي تتوجها كأنثى إسطورية، هي جزء من سحر فريدا البربري الخاص.
يكاد الخيال لايفصل بين لوحات فريدا وصورها الفوتوغرافية، فهي تحرص على أن تدخل في كل مرايا الفن وتخرج منها، دون أن يمسها الضر، فقد عاشت على مسرح مأساتها التي تركتها جسداً يسير على كرسي بالعجلات، ولكنَّ أيّاً من الذين قطعوا شوط الحياة ركضاً لايشابه مسيرتها الراقصة المنتشية بحركة الوجود والمتنقلة مثل فراشة تقترب من النيران لتتمتع بحرائقها. رسمت كل من أحبتهم، رجالاً ونساءً، ولكن دييغو بقي بمظهره الفلاحي المترهل، يمثل قيمة مستثناة في حياتها، هي المرأة الرشيقة الحارقة مثل نساء لوركا.
كانت فريدا تحرص على أن تبقي على شواربها الخفيفة وحاجبيها المعقودين في إشارة الى تمايزها، والغريب أن علامات الرجولة لم تنقص من فيض أنوثتها الدافقة، بل زادتها التباساً. مظهر فلاحات الجنوب المكسيكي، اختارته ليكون هوية تعيش تمايزها، في حضور صورتها كموضوع للرسم وكمظهر يومي تتزين به. اللافت أن لدى فريدا صوراً فوتوغرافية في صباها ترتدي بدلات الرجال، كما رسمت نفسها على هذا الحال، وهي هنا تتوحد مع هيئتها، حتى يكاد الناظر يشك في جنسها. بعض النقّاد يعزون هذا التحول في برهات حياتها الى ممارسة طقس روحي وثني، وبعضهم يعزونه الى مثلية تحملها، وربما كان ضياع فريدا بين الجنسين، أحد أسباب مزاجها المضطرب، وهو علامة على الخصب الذي ميّز عملها، فألوانها مترعة بالذائقة الغجرية. لغوغان وهنري روسو تأثيرات في فنها، إضافة الى ريفيرا المعلم الأول في تحديث التراث المكسيكي وتطعيم الحداثة بالأشكال الغرائبية والأساطير. وتظهر تأثيرات سوريالية سلفادور دالي الشعرية في الكثير من رسوماتها، وهنا تسجّل ضعفاً في المهارة، كمقلّدة فاشلة لتجربة لاتخصّها.
دعيت فريدا الى باريس، واحتفى بها السورياليون في عشرينيات القرن المنصرم، وفاجأت المحتفين بالسخط على الفن الذي لايخدم الجماهير، غير أن زيارة اندرية بروتون الى المكسيك وإشادته بعملها، عزز مكانتها بين أتباعه.
الكثير من الأسماء المكسيكية اليوم، يخفتُ ظلّها إزاء وهج اسم فريدا، يكفي أن اسمها الأول يلفظ في الغرب، مثل صديق تعرفه، ليتجاوب مع هذه المعرفة كل الأصدقاء.
بعض جمعيات فريدا تثير الاستغراب، وبينها جمعية وثنية تؤمن بنبوتها، ولكن اللافت، أن طراز ملابس فريدا وزينتها لم تزل تسحر كل النساء.
في المصعد الذي أقلّنا الى طابق معرضها، كانت عجوز جميلة ترتدي العقود والملابس التي تشبه زينة فريدا، وتحمل مروحة ملوّنة بيدها، كنت أهمّ بكلمة إعجاب، ولكنها غادرت المصعد بخفّة، وربما استنكرت نظرتي المبتسمة الموجهة إليها، فهي قد تعودت أن تكون هكذا دون تطفّل أمثالي.