قراءةٌ بكتاب:  أصنامُ المجتمع  للدكتور عبد الجليل الطاهر..  التفسير المعرفي لأخلاق الطاعة

قراءةٌ بكتاب: أصنامُ المجتمع للدكتور عبد الجليل الطاهر.. التفسير المعرفي لأخلاق الطاعة

د. علي المرهج
انطلق الطاهر في بناء تصوّره عن الأصنام وكيفية صناعتها والقيام بتقديسها من مجموعة من التأثيرات الفلسفية التي أشارت لفكرة الصنميّة ونقدها بصورة مباشرة أو غير مباشرة أهمها:
أـ التفسير الخلدوني: وضع إبن خلدون"علم العمران"الذي يساوي في أحد وجوهه علم الاجتماع، ويساوي من جهة أخرى"فلسفة التاريخ»،

والمهم من كل ذلك هو أن الطاهر يجد في فكر غبن خلدون جذراً لنقد فكرة الصنميّة وعلاقتها بالوهم وعدّه من أوائل الفلاسفة الذين تنبّهوا ونبّهوا لضرورة تمحيص الأخبار وتمييز صوابها من خطأها عن طريق الجرح والتعديل للتثبت من صحّة الأخبار، فضلاً عن ضرورة مطابقة الحوادث للأحوال.

ب ـ فكرة فرنسيس بيكون النقدية عن الأوهام: خلق الأوهام مرتبطٌ عند بيكون بحاجة السلطة لها لتبرير وجودها. من هنا ينشأ التحيّز من قبل السلطة للتحالف مع قوى الرجعية الدينية التي تسعى بدورها لوضع الغشاوة على عيون الناس والسعي لإبقائهم سُذجاً.

فقد لاحظ بيكون، أن الإنسان اعتاد على معارف مزيفة أو أوهام وسمها أصناماً جعلها تبدو وكأنها حقائق مُسلّم بصحتها، ولكن من دون دليل سوى التعوّد والألفة أو المقبولية الاجتماعية، وهي في حقيقتها ليست سوى أوهام صنّفها بيكون إلى أربعة هي:

1ـ أوهام القبيلة أو أوهام الجنس: وهي أوهام خاصة بجميع الجنس البشري، لأن العقل الإنساني لا يقبل بفكرة إلاّ إذا كانت موافقة لتفكيره وهواه ورغباته ليتبناها، فنجد الإنسان يدافع عن متبنياته الموافقة لرغباته ليظهرها وكأنها حقائق مفروغ من صحّتها.

2ـ أوهام الكهف: هي شبيهة برؤى أصحاب الكهف الإفلاطوني الذين اعتادوا مشاهدة الظلال فقط، فصاروا يظنّون أنها حقائق، فكل إنسان يعيش في بيئة اجتماعية أو ثقافية ولم يخرج منها، فإنه لا بد سيبقى أسيراً لكل الرؤى المتبناة في هذه البيئة وستكون هي مقياسه للحكم على صحة أو بطلان الأفكار المغايرة الأخرى. فستكون هي"الإطار الفكري"أو"القوقعة الفكرية"بعبارة علي الوردي أو"السياج الدوغمائي"بعبارة أركون، الذي يؤطّر العقل ويقيّده ليبقى منغلقاً على الفكر الأحادي الذي نشأ فيه.

3ـ أوهام السوق: هي أوهام تنشأ نتيجة تعايش نوادٍ أو أمكنة اجتماعية أو أسواق أو مقاهٍ والتداول بألفاظ خارج مدلولاتها العقلية والتجريبية، بل وخارج مدلولاتها اللغوية في كثير من الأحيان، حتى تكاد تفقد الألفاظ دلالتها الحقيقية وتدخل في متاهات التداول الخاص بجامعة أفقدت الألفاظ قيمتها الدلالية لإنتاج دلالة أخرى لها هي لا تعبّر عن الغرض الحقيقي لإنتاج اللفظ في اللغة.

4ـ أوهام المسرح: هي أوهام تفرضها الاتجاهات والمذاهب الفكرية والآيديولوجية التي أنتجها مفكرون كبار، فيكونوا هم أو أحد القادة المتأثرين بهم ذات التأثير الثقافي والجماهيري، مصدر المعلومة بطلانها أو صحتها لا التحقق العقلي أو التجريبي. هنا سيكون مقياس القول عند الخاضعين لمثل هذه الأوهام هو شهرة القائل.

إن اعتماد المعرفة العلمية هو الطريق الذي يجعل الإنسان حاضراً في الطبيعة ومسيطراً عليها لأن المعرفة العلمية هي المعرفة المجرّدة من الأوهام.

ج ـ التفسير الماركسي وغياب الطبقة الوسطى: لم يستبعد الطاهر التفسير الماركسي للنهوض الاجتماعي لا سيما دفاعه عن الاشتراكية وتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع. وأيضاً تأكيده على دور الطبقة الوسطى أو"الإنتلجسيا"في تحقيق التنمية على جميع الصعد في الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية والتعليم وباقي العلوم الطبيعية. وكلما اتسعت هذه الطبقة كلما أصبح المجتمع أكثر فاعلية وتأثيراً وجودها هو أساس التقدم في كل المجتمعات المتطورة.

د ـ التفسير الفرويدي: وما يتعلق بفكرة الطوطم والحرام أو التابو وعلاقته بالوهم وربط كل ذلك بفكرته عن"عقدة أوديب"حينما يقوم الإبن بقتل الأب للاحتفاظ بالألم لنفسه والتحليل النفسي للشعور المرتبط بتابو الطوطم، بوصفه الأب الذي ستعود روحه لتنتقم عن طريق شعور الإبن بالذنب والخوف من روح الأب التي ستعود يوماً منسوخة بجسد أحد الحيوانات، الأمر الذي جعل فرويد يتعامل مع هذ النمط من الوعي بوصفه نوعاً من المرض النفسي عبر ربط التابو بالخشية من سفاح القربى والتابو وازدواجية الانفعالات الجنسيّة والعاطفية والإرواحية والسحر. بنى فرويد تصوّراته هذه عبر دراسته للمجتمعات البدائية في أفريقيا، الذين يتصوّرون أن روح الإله قد حلّت في جسد حيوان، فيكون هذا الحيوان محط الاحترام والتقديس، لأنه يمثّل الحضور الرمزي للإله في هذه المجتمعات.
وربما تحوّلت فكرة الطوطمية في مجتمعاتنا العربية لأن يكون الإنسان "السلطان" أو "القائد" يأخذ صفة الطوطم أو الصنم الذي يمثل رمزية حضور الله في مجتمعاتنا، حتى أصبح المساس بقدسية هؤلاء الأشخاص وكأنه مساسٌ في وحدانية الله وتشكيك بوجودهِ.

هـ ـ التفسير الكونتي والاستفادة من فكرة تقسيمه للمراحل:

1ـ المرحلة اللاهوتية: وهي المرحلة البدائية لتشكّل الوعي الإنساني المرتبطة باعتماد الإنسان على التفسيرات الغيبيّة والميثولوجية البعيدة عن التفسير العلمي والإيمان بفاعلية القوى الغيبيّة وتشكيل حياتنا الدنيوية والآخروية.

2ـ المرحلة الميتافيزيقية: هي المرحلة التي تجاوزت التفسير الغيبي للعالم والوجود بالاعتماد على التفسير العقلي التجريدي، الأمر الذي جعل الإنسان يفسّر الوجود وفقاً لتصوراته التأمليّة التجريدية.

3ـ المرحلة العلمية: وهي المرحلة التجريبية التي تعتمد على التحقّق التجريبي ومحاولة إدراك الأسباب الأولى وتعليل المظاهر عن طريق الملاحظة والتجربة الحسيّة، جاعلاً من علم الاجتماع علماً يستوعب جميع العلوم.

وـ التفسير النيتشوي لفكرة إرادة القوة: فرق نيتشة بين"أخلاق العبيد"و"أخلاق السادة»، والناس في الغالب اعتادت أخلاق العبيد القائمة على الطاعة والخنوع والبحث عن التسامح، لأنهم لا يملكون"إرادة القوة"التي يمتلكها السادة الذين يصنعون قيمهم ويجبرون الضعفاء على السير وفقها وطاعتها.

ز ـ التفسير الدوركهايمي: الذي يذهب إلى أن التصورات الاجتماعية هي مصدر الأوهام. أي تبعية الفرد للجماعة وتمسّكه باعتقاداتها والولاء لقيمها، بمعنى آخر، هو أن الجماعة هي التي توجّه الفرد، ولذلك فالأوهام والخرافات والأساطير هي عبارة عن تصوّرات جماعية تتجاوز حدود التجربة الفردية، فقدسية الشجر والحجر ليس في ذواتهما، وإنما هي في تصور الوجدان الجماعي لهما. هذه القدسية تأتي عن طريق تدريب الجماعة لأفرادها على احترام الأصنام عن طريق التربية والتعليم.

هنا يرى الطاهر أن تحسن الظروف الاقتصادية له دورٌ في تقليل حاجة الإنسان للأسطورة وخلق الأوهام.
ح ـ التفسير المانهايمي: دعا كارل مانهايم إلى ترك التحيّز وذلك عن طريق:

1ـ ترك الفرد الجماعة وهجر مركزه الاجتماعي.
2ـ تغيير أسس الوجود الاجتماعي.
3ـ صراع الأضداد وانبثاقها في الوجود الاجتماعي.

إلاّ أن الطاهر لا يجد في هذه الطرق الثلاث سبيلاً للحل، لأن الفرد سرعان ما سيغيّر طبيعته في تركه لمركزه الاجتماعي، وفي حال تغيّر أساس الوجود هذا أو حينما يعي صراع الأضداد، فإن هذا كلّه مرتبط بقدرة الفكرة على الحضور وحينما ينتهي الحضور، أي حضور الصنم وتأثيره الفكري، فإن الولاء سيغيب عن هذا الصنم ليتحول الولاء لصنم آخر أكثر حضوراً وأقوى تأثيراً.

مميزات الشخصية الصنميّة:
تنتشر الصنميّة في المجتمعات البدائية والمجتمعات ذات الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية والعشائرية، ومن أهم مميزات الشخصية الصنميّة هي:
1ـ تأليه الذات
2ـ تشجيع الخرافة والدفع باتجاه الإسطرة والقدرة العجيبة على ربط معارفه بالبعد القدسي، وتوجيه الوعي الجمعي باتجاه القناعة بقدرته على قراءة وجدان الناس ودواخلهم، وأنه له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالقوة الغيبيّة.
3ـ الدفع باتجاه المحافظة على قيم الطاعة

وقف الطاهر ضدّ التعصب بوصفه السبب في وجود الأصنام، أما أهم عوامل نشوء الصنميّة فهي:

1ـ السلطة وتحالف قوى الرجعية الدينية.

2ـ التعصب الفلسفي في المذاهب الفلسفية الكبرى وعدّه نوعاً من أنواع تبرير النظم السياسية التي تدعم السلطة.

3ـ أدعياء الثقافة الذين يسعون دوماً لتكريس فكرة الصنميّة، والتخفي وراءها لتحقيق مصالح الخاصة.

4ـ الطائفية والنزعات القوموية والعنصرية: وهي شكل من أشكال صناعة الصنم وخلق الوهم حوله، عن طريق خلق حدود أسطورية فاصلة بين جماعة وأخرى، سواء على أساس رابطة الدم وصفاء العنصر أو سمو الأخلاق أو التاريخ المشترك، أو أصالة المعتقد وصدقيته المرتبط بشحن الذاكرة الجماعية الرمزية.
5ـ السدنة: وهم الجماعة التي يرتبط وجودها المعنوي والمادي بوجود الصنم، إذا لم تكن هي من صنعته. فالسدنة يتميزون بسلوك حربائي متلوّن. هم جماعة تُظهر دائماً ولاءها للصنم وتحارب كل من يُخالف عقيدته. لكنها في الوقت ذاته، لا تؤمن في قرارة نفسها بقدسيّة الصنم، فتجدهم يميلون إلى إظهار أنفسهم أمام المعارضين الأقوياء ومن يظنون أنهم في يوم ما ربّما سيكون هؤلاء المعارضون هم على رأس السلطة، نجدهم يميلون في تعاملهم مع هؤلاء إلى اللين والموازنة والتوافق في الموقف.

6ـ السُذج: وهم الناس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة ولا مال ولا معرفة. هؤلاء سيكونوا أدوات طيّعة بين أيدي السدنة الذين يدفعونهم للإيمان الحقيقي بالصنم وبقدراته الخارقة، فيسعى السدنة لاستخدام جمهور البسطاء هذا للبطش بالمعارضين وأعداء الصنم.

مهمة السدنة وواجبهم هو حشد البسطاء وتطويعهم لخدمة الصنم وتحقيق مصالحهم الذاتية. هذه المهمة تكون عن طريق خلق الأوهام والأساطير وإشاعة الخرافات في سبيل الإبقاء على الصنم للمحافظة على امتيازاتهم، وهنا يكون الصنم وسيلة لتحقيق أغراض السدنة وأهدافها.

هناك سدنة للسلطة، ويمكن أن يكونوا سدنة السلطة سدنةً للمعارضة، حينما تأوول لها السلطة، ويمكن أن تكون للمعارضة سدنتها الجُدد، لكنَّ الأمر سيان هو أن قوّة السدنة تكمن في عدم إيمانها بقيم عُليا ولديها القدرة على توقع السلوك الجمعي ولها الإمكانية على توجيهه، فعن طريق تمرسها بالسلوك الحربائي تتكون لديه خبرة اجتماعية تُمكنها من قراءة التحول الاجتماعي، فتستعد لهذا التحول والتكيّف معه ونيل مكتسبات أخرى منه سواء عن طريق معارضته أو مشاركته في السلطة الجديدة، وإقناع الصنم الجديد بأنها هي الفئة الوحيدة القادرة على التعامل مع المجتمع وتهيئة الظروف المنسبة له لاستمرار الحكم أطول مدة ممكنة. إذن تتغيّر السدانة طبقاً لقوانين المعادلة الصنميّة، فإن استطاعت السدانة القديمة فهم قوانين المعادلة في التغيّر، فإنها ستكون لديها القدرة في معرفة إمكانية الاستمرار بالسدانة من عدمه، وإن لم تفهم قوانين معادلة التغيّر الصنميّة حلّت محلها صنميّة جديدة.