عبد الجليل الطاهر - علمٌ وأثر

عبد الجليل الطاهر - علمٌ وأثر

سجاد حسن محيي
يؤكد الأستاذ الطاهر على أن الشخصية العراقية كانت ومازالت حصيلة لذلك التناقض بين أعداد متنافرة من القواقع الولائية، مما جعل هذه الشخصية ينبوعاً لا ينضب من الحركة والقدرة على التعبير والأصالة والإبداع والاجتهاد، فلقد استطاعت هذه الشخصية أنْ تطبع كل الأقوام التي سكنت بلاد ما بين النهرين، وكل التيارات الحضارية - الفلسفية والدينية واللغوية بطابعها الخاص،

فلهذه الشخصية القدرة على صهر الفكرة الواحدة وتحليلها وإبداء الرأي في عناصرها وتأليف مدارس فكرية بشأنها، ويمكن القول: مثلما يرى الطاهر (أن الشخصية العراقية تواجه اليوم أنواعاً جديدة من التناقضات الطبقية، بين الرجعية والتقدميّة وبين الاستعمار والقومية المتمردة، وبين الأنظمة الاستغلالية والاشتراكية، وبين الريف والمدينة. أما أعراض هذا القلق، فيحدّدها الطاهر بمجموعة من الظواهر والمشكلات الاجتماعية كالثورات المسلحة والانقلابات العسكرية والمنازعات بين القبائل وسقوط الوزارات بصورة متتابعة، العزل عن المناصب، وإسقاط المواطنة، حلّ البرلمانات، وتعطيل الصحف زيادة على أعراض أخرى كانت تطفو فوق سطح الحياة الاجتماعية في العراق لمنهجية البحث الاجتماعي عند الدكتور عبد الجليل الطاهر، م،ن،:77.
*الصفات والخصائص التي تميّز الشخصية العراقية لدى الطاهر:
وأخيراً فإن الأستاذ الطاهر يستعرض مجموعة من الصفات والخصائص التي تميّز الشخصية العراقية، فلأنها حصيلة الصراع المستمر لمجموعة كبيرة من القواقع المتعارضة والمتناقضة، فقد اصبحت هذه الشخصية حيّة تمجد ذاتها وتعظمها، تعتز بماضيها وتتألم على حاضرها، ومن صفاتها أيضاً الاندفاعات المفاجئة حتى أن الأستاذ الطاهر يشبّه الشخص العراقي في سلوكياته المندفعة والمتفجرة بشكل غير متوقع، بنار نبات الحلفة التي تهب مرة واحدة وتنطفئ مرة واحدة، زيادة على ذلك، أن الشخصية العراقية تمتاز بالعنف في مواجهة الآخرين.
(منهجية البحث الاجتماعي عند الدكتور عبد الجليل الطاهر،م. ن، ص: 77-78).
ب‌- رأي الوردي:
يقول هادي صالح محمد: يرى الأستاذ علي الوردي، إن الشخصية العراقية ازدواجية وتنمو ضمن جانبين هما الجانب الواقعي والجانب المثالي، فالجانب الواقعي ينمو وينشأ في شخصية الفرد العراقي ضمن تعامله مع الواقع، فالجيرة والأسرة وجماعة اللعب تربّي في الطفل أن يكون غالباً وليس مغلوباً، أما الجانب الثاني فيأتي من التربية الدينية عند الفرد اثناء تلقيه المواعظ الدينية والمجادلات المنطقية وإيمانه بالقيم الاجتماعية كالعصبية القبلية والنخوة، ومن هنا تنشأ الأزدواجية لدى الشخصية العراقية (آفاق علم الاجتماع في الوطن العربي رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، ص:286).
ومن خلال ما تقدّم يتضح: أنه لا يختلف رأي الطاهر عن الوردي إلا في التفاصيل في كون الشخصية العراقية حصيلة تناقضات كثيرة في المجتمع العراقي، سوى أن الطاهر يرى إن هذه التناقضات وسيلة لانصهار المجتمع العراقي في بودقة الإبداع والأصالة والاجتهاد، أما الوردي فيركّز على موضوع ازدواجية المجتمع العراقي وبدويته في تعامله الحياتي- كما هو معروف عنه..
إن شخصية العراقي على الرغم من انسحابها للماضي العريق وما فيه من سلبيات، إلاّ أن هذه الشخصية يجمعها حب الوطن (العراق) ويشعر أغلبية سكانه أنهم ابناء وطن واحد، ويذكرهم قول الرسول (اختلاف أمتي رحمة).
يقول الدكتور: احسان محمد الحسن: وهناك من عرف المجتمع العراقي على أنه مجموعة من الأفراد تكون في حالة اتصال دائم ولها أهداف ومصالح مشتركة ومصير واحد، وبالاتصال الدائم نعني جميع الروابط والتفاعلات التي تقع بين العراقيين مهما تكن طبيعتها مباشرة أو غير مباشرة، دائمية أو مؤقتة، شعورية أو غير شعورية، تعاونية أو عِدائية، إلاّ أن وحدة الأفراد في جماعات ومنظمات وتكامل الجماعات والمنظمات في تجمع بشري ذي صفة اجتماعية وحضارية معينة تسهم في ظهور المجتمع العراقي، وبلورة نظمه وأهدافه وخطط عمله.
إذن المجتمع العراقي يتكون من أفراد ينتمون إلى جماعات بشرية كالأسرة والمدارس والوحدات العسكرية والمصالح والمزارع والدوائر البيروقراطية والنوادي والجمعيات... إلخ، وهذه الجماعات البشرية تكون في حالة اتصال وتفاعل الواحدة بالأخرى، ولكل من هذه الجماعات هياكلها ووظائفها وأهدافها التي غالباً ما تنسجم مع طبيعة المجتمع العراقي على أربعة عناصر أساسية، هي الشعب (مجموعة الأفراد) والوطن (الأرض التي يعيش عليها الشعب) والروابط الاجتماعية التي تربط أبناء الشعب، وتكون أساساً في تضامن الشعب ووحدته، واخيراً عناصر المجتمع هي اللغة والتأريخ والعادات والتقاليد الاجتماعية والأهداف العليا والمصير المشترك الذي يجمع أبناء المجتمع الواحد معاً من أجل مواجهة الأخطار والتحديات وبلوغ الغايات العليا التي يصبو إليها الأفراد والجماعات.
(ملحق جريدة الصباح، الخميس، 22كانون الاول 2005م، ص:14) وليس أدلّ على قوة هذه الشخصية في مقارعتها الاستعمار بكل اشكاله غوث الطريد وفك العاني، على الرغم مما يعلو هذه الشخصية من ظروف اجتماعية آنية قد تحيدها أحياناً عن هذا الواقع.

*رأي عن الطاهر:
لقد اقترن اسم الطاهر بالوردي فكلاهما درسا المجتمع العراقي واعطيا رأيهما فيه، زيادة على ذلك فقد اقترن اسم الطاهر بالعراقي في مصر، يقول: هادي صالح محمد:
لقد كان الطاهر جمّ النشاط غزير الإنتاج، إذ كان كثير العطاء العلمي من بين جيل الروّاد العراقيين والعرب، فقد كان هو والعراقي من مصر يعدون الأكثر عطاءً بين زملائهم الذين عاصروهم في الفترة ذاتها على مستوى الوطن العربي (آفاق علم الاجتماع في الوطن العربي، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، ص 286).
ب -عبد الجليل الطاهر (الأثر):
إن كتاب (مسيرة المجتمع، بحث في نطرية التقدم الاجتماعي) للأستاذ العلامة د. عبد الجليل الطاهر، يلخص عنوانه فحواه، فهو كتاب يلج درباً في علم الاجتماع يمس حياة الانسان المعاصر عبر تأريخه ليكشف من خلاله مسيرة التقدم الاجتماعي من المرحلة البدائية البسيطة حتى المرحلة التكنولوجية- الصناعية المعاصرة، وما تخلل ذلك من صراع بين الانسان ككائن حي عقلاني اجتماعي وبين محيطه الخارجي في تعامله مع نفسه أو مع أفراد أسرته أو محيطه الاجتماعي الذي يعيش، والباحث (الطاهر) لا يألو جهداً من الاستعانة بنظريات علماء النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والفلاسفة وغيرهم، ليصل من خلال هذه النظريات الواسعة التأثير والمدى في عالمنا الحديث والمعاصر الى تبيان العوامل والدوافع وراء مسيرة التقدم الاجتماعي، وهو في كل ذلك لا ينسى الإنسان كفرد له عزلته الداخلية وكإنسان اجتماعي بالطبع يحاول وبقوة عقله ووجدانه وإرادته وحتّى خياله ليحقق العيش الرغيد الذي يكفل له إنسانيته. وقد استعرض (الطاهر) اكثر النظريات التي بحثت في التقدم الاجتماعي والمعوقات التي رافقتها، سواء أكانت هذه النظريات مثالية أم مادية ـ عقلية أم تجريبية، وضعية منطقية طبيعية.. مستعرضاً من خلالها أفكار كبار الفلاسفة وعلماء الاجتماع أمثال هيكل وماركس وتوينبي وشبنجلر وروسو وسنت سيمون وغيرهم.

يقول: محمد السهر: على مدى اربعمئة وثماني وثمانين صفحة تضمّ بين طياتها أربعة عشر فصلاً، استطاع الأستاذ الطاهر أن يختزل لنا التأريخ مرة واحدة عندما قدّم إنجازه الفكري الكبير في دراسته (مسيرة المجتمع - بحث في نظرية التقدم الاجتماعي) التي صدرت في بيروت سنة 1966م، وهي من دون شك عصارة فكر عرف صاحبه كيف ينتقي ومن أين يبدأ والى أي شيء يهدف، ليقدّمه لنا على طبق من المعرفة، ومن يطلع على هذا الكتاب يدرك أي جهد بذله الطاهر في هذا المضمار (منهجية البحث الاجتماعي عند الدكتور عبد الجليل الطاهر، م.ن. ص: 93) لقد أوضح الطاهر العلاقة بين المنهجين التأريخي والاجتماعي، فتطرق الى آراء ابن خلدون الاجتماعي في مسيرة المجتمع، وهو لا يؤمن بالحتمية التي يراها بعض المنظرين كونها أساساً في تحريك التأريخ، فالتاريخ فيه تقدّم مثلما فيه نكوص اجتماعي. وتطرق الباحث الى آراء الفلاسفة اليونانيين في موضوع القضاء والقدر وتأثرهم باللاهوت المسيحي، وتحدث عن فلسفة سنت سيمون واوكست كونت، إذ ركّز سنت سيمون على أهمية الصناعة، أما أوكست كونت، فقد شجب الثورة ورجّح النظام في التقدم وفرق بين مفهومي التطور والتقدم، واعتبر الأول في المجال البيولوجي، والثاني في المجال الاجتماعي- النفسي والعقلي والخلقي، وعالج الفرق بين المواطن الميكانيكي والمواطن العضوي وحلّل العامل الجغرافي، وظهور شخصية (هتلر) و(موسوليني) وناقش فلسفة نيتشة وبرجسون وشوبنهور التي آمنت بالإرادة وفضّلتها على العقل، والأستاذ الطاهر لا يفسّر مسيرة التقدم بعامل واحد كالعامل الاقتصادي مثلاً، لأنه يرى أن عملية التقدم متوازنة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وعلى الإنسان أن يعرف كيف يسيّر مصيره.