موسوعي بأسلوب في الكتابة مميّز .. مثابات شاخصة تخلّد اسم حميد المطبعي

موسوعي بأسلوب في الكتابة مميّز .. مثابات شاخصة تخلّد اسم حميد المطبعي

شكيب كاظم
كانَ أول لقاء لي مع الأديب الكاتب حميد (محمد علي) المطبعي، يوم زرته في يوم الأربعاء التاسع عشر من أيلول/ 1973 في مقهى (ياسين) الجميل والأنيق في قسمه الصيفي المطل على شارع أبي نواس، قبل أن يتحول المقهى الى فندق إسمنتي صخري، ليزول معلم ثقافي من معالم بغداد، زرته حاملاً حديثاً نقدياً عن رواية (خمسة أصوات) للمبدع العراقي الكبير غائب طعمة فرمان،

لغرض نشره في مجلة (الكلمة) الشهرية والتي كان يتولى إصدارها ورئاسة تحريرها، كان معه في جلسته تلك، القاص المتميز موسى كريدي، والقاص والروائي موفق خضر، وأخيراً حضر عبد الوهاب البياتي. قبل هذا اللقاء، كنا هو وأنا نتلمس بداياتنا على الدرب، درب الكتابة في الملحق الأدبي، الذي تولت إصداره جريدة (الجمهورية) مع عدد كل خميس، أثناء أعوام 1965، 1966، 1967، وصدر آخر عدد من هذا الملحق يوم الخميس 1/ حزيران/ 1967، قبل أيام من زج الأمة العربية بحرب خاسرة، معروفة مآلاتها سلفاً، لعدم الاستعداد الكافي لها، في يوم الاثنين الخامس من حزيران/ 1967 لتحل الكارثة، التي ما زلنا نعانيها حتى أيامنا هذه، وليتوقف الملحق، الذي أعده وثيقة ثقافية مهمة تؤرخ لمرحلة فاصلة في الحياة الثقافية العراقية آنذاك، وما زلت أحتفظ بأعداد كثيرة منه في ضمن أرشيفي الورقي. ولأن حميد المطبعي شغوف بالقراءة والكتابة والأرشفة، ما اكتفى بالنشر في الصحف، بل أصدر مجلته الرائدة والرائعة (الكلمة) على شكل ملف بداية، كي لا يخضع لقانون المطبوعات، تم انتقل بها هو وصديقه القاص المبدع، الذي يعد علامة شاخصة باذخة في فن القص العراقي، موسى كريدي، انتقلا بها إلى بغداد ليصدراها مجلة شهرية استقطبت أقلام الكتّاب العراقيين والعرب، كنا نتابعها عند رأس كل شهر إلى جانب مجلات: (الآداب) و(الأديب) و(دراسات عربية) وأسبوعية (الحرية) لسان حركة القوميين العرب، وكلها تصدر في بيروت. ما عتمت مجلة (الكلمة) بعد سنوات قليلة، أن أغلقت، مع العديد من المجلات الأهلية، وغير الرسمية، فالدولة المؤدلجة تحاول فرض قبضتها على المنشور، فاحتجبت عن الصدور مجلات (الرابطة) التي كانت تصدرها جمعية الرابطة الأدبية بالنجف، فضلاً عن (الكتاب) لسان حال اتحاد المؤلفين والكتاب العراقيين، الذي رأسه الشاعر والمحقق الأستاذ هلال ناجي، و(البلاغ) الصادرة عن الجمعية الإسلامية للخدمات الثقافية بالكاظمية و(العدل) النجفية وغيرها.
في العقد الثامن من القرن العشرين، والدنيا حرب ضروس، والحياة بدأت في التراجع، بدأ حميد المطبعي مشروعه التوثيقي التسجيلي الرائد، ليؤرخ لعديد المثابات الشاخصة والنافذة في الحياة الثقافية العراقية، الذي تولى نشره على الصفحة الثامنة من جريدة (الثورة) تحت عنوان محدد سماه (الجذور في تراث العراق الحديث). كان حميد المطبعي، يجري لقاءً ثقافياً معرفياً موسعاً، مع أحد هؤلاء الشخوص وينشره على حلقات أسبوعية، وفي يوم محدد هو يوم الاثنين، اللقاء يصل الى حجم كتاب ولعل الصحفي الأديب الفلسطيني صقر أبو فخر، قد ترسَّمَ خطى المطبعي في حواراته المطولة، وما زال في الذاكرة حواره الطويل والجميل مع الشيوعي اللبناني المعتزل والمفكر كريم مروة، الذي أصدره في كتاب امتد إلى اربع مئة وثمانين صفحة من الحجم الكبير سماه (كريم مروة يتذكر. في ما يشبه السيرة) أصدرته (المدى) بطبعته الأولى عام 2002 أو لقاءات طلال نعمة، مع المفكر اللبناني الياس مرقص، التي أصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاباً عنوانه (الياس مرقص حوارات أجراها طلال نعمة). ولولا جهد حميد المطبعي الجهيد هذا، لطوى الزمان سيَّرْ العديد من هذه المثابات المهمة، لأننا، ولا سيما في العراق لا نهتم بالتوثيق وكتابة مذكراتنا وسيرنا الشخصية، لما رسخ في الذات العربية والمسلمة، من عدم البوح بالخصوصيات، عادين تلك مسألة شخصية، لا علاقة للآخرين بها، وإن المرء يعرف بمنجزه، لا سيرته الذاتية! ولأن المطبعي حميد موقن بأن الصحف تطوى، كطي السجل للكتب، فإنه اجترح منقبة رائعة، بأن جمع هذه الحلقات الخاصة بكل شخصية، ونشرها في كتاب، لا بل بكتب تولت إصدارها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وتحت عنوان موحد هو: (موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين) ليؤرخ لحيوات وليحفظ ذكرى: أستاذي الشاعر والنحوي الجليل إبراهيم الوائلي، والمفكر الكردي الكبير مسعود محمد، واللغوي والمحقق محمد بهجة الأثري، والموسوعي الشيخ جلال الحنفي، والفيلسوف حسام محيي الدين الآلوسي، وأستاذي الناقد الكبير علي جواد الطاهر، والمؤرخ الدكتور جواد علي، صاحب (المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام) والناقد المفكر محيي الدين إسماعيل، والباحث عبد الغني الملاح، والدكتور بشير فرنسيس والقاص والروائي الكاتب عبد المجيد لطفي والموسوعي العلامة الدكتور صفاء خلوصي، والدكتور حسين علي محفوظ، والقاص ذو النون أيوب، ورائد المسرح العراقي يوسف العاني، ومطرب العراق الأول محمد الكبنجي والباحث المفهرس كوركيس عواد، وشقيقه المحقق المفهرس ميخائيل عواد، وعالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، والباحث جمال الدين الآلوسي، والمؤرخ اللواء الركن محمود شيت خطاب، والشاعر المترجم علي الحلي، والباحث الموسوعي عبد الحميد العلوجي والباحث الفلكلوري ودارس الأمثال العميد عبد الرحمن التكريتي، والمؤرخ عبد الرزاق الحسني والقائمة تطول. كما انه حرر اكثر من زاوية ثقافية في الصحف منها زاوية (من أنا؟) يطلق فيها للشخص المستفتي العنان للحديث عن ذاته، وما زلت احتفظ بالعديد منها: للمحقق السيد مكي السيد جاسم وأستاذي إبراهيم الوائلي وأستاذي الدكتور علي جواد الطاهر. كما حرر زاوية ثقافية أخرى عنوانها (وجوه ثقافية) ومنها لقاء مع القاص الراحل عبد الله نيازي، الذي غبن نفسه وغبنته السياسة وغبنه النقّاد، ليرحل نائياً في احدى الدول الإسكندنافية كما كان يحرر زاوية ثقافية جميلة أخرى عنوانها (ندوة في جدل الأفكار). ولعله كان يحررها باسم مستعار، هو سليم شريف، أم أن سليماً هذا كان يترسم خطاه، فكتب مثلما كتب المطبعي؟ وفي أرشيفي لقاءه، المطول مع الأستاذ الجامعي العروضي الموسوعي الدكتور صفاء خلوصي.
يكفي حميد المطبعي فخراً أنه أنجز هذه الكتب التوثيقية الرائعة، ولينظر المنصفون إلى جهده هذا، الذي سيبقيه في ذاكرة الثقافة العراقية، كما أبقى هو هذه الكوكبة الرائعة وغيرها محفورة ذكراها في صخرة ذاكرتنا، فضلاً عن موسوعة (أعلام العراق في القرن العشرين) التي قرأته وإياه، ثم خولني قراءتها ومراجعتها، من غير أن أراجعه في أمر، لكني- تواضعاً وربما خجالة- لم أطالبه بتدوين ذلك والإشارة اليه في الموسوعة، كوني راجعتها لغوياً ومعلوماتياً. ظل حميد المطبعي يكتب ويبحث ويقرأ على مدى نصف قرن، واصدر العديد من الكتب في مجالات الفلسفة، التي يجدها اقرب المعارف إلى نفسه، وليؤلف كتاباً عن أرسطو، كما اهتم بالمكونات العراقية، فكان يشد الرحال نحو مواطنها، ممتطياً المطايا، إن تعذر الوصول اليها بواسطة النقل الحديثة، كي يصل إلى أماكن سكنها القصية النائية، ليدرس الايزيديين والشبك والكاكائية ووثق ذلك بكتب بعينها. ما اكتفي حميد المطبعي بجهده التوثيقي الرائع والجميل لحيوات الأحياء، بل تناول في دراساته الثرة حيوات العديد من المثابات المهمة الراحلة، وكان ينشرها في جريدة (الزمان) وما زالت في الذاكرة دراسته عن عالم الفيزياء العراقي الدكتور عبد الجبار عبد الله، الذي جاء الى الإعدادية المركزية ببغداد، يوم كان مدرساً للفيزياء فيها قبل انتقاله للجامعة، جاء إلى المدرسة حاملاً مظلة وكانت الشمس ساطعة، مما جلب انتباه زملائه المدرسين الذين تساءلوا متهكمين، عن سبب جلبه هذه المظلة؟! فأخبرهم إن السماء ستمطر مدراراً، وما هي الا أويقات قليلة، حتى مطرت الدنيا، ليتحول تساؤل زملائه المشوب بالتهكم والاستغراب، إلى إقرار وإعجاب. منذ 2003 والى منتصف سنة 2015 ظل حميد المطبعي يكتب عموده الصحفي الجميل، ظل يطلق أسئلته المشوبة بالفلسفة، والداعية إلى حرية العقل والفكر، ظل يكتب عموده، بأسلوب خاص، فحميد المطبعي صاحب أسلوب في الكتابة مميز، تستطيع معرفته، حتى قبل أن تطالع اسمه، أنه من الرعيل الذي يكاد يتوارى أو بالحري توارى من أصحاب الأساليب: طه حسين، أستاذي علي جواد الطاهر، الأستاذ مدني صالح، عبد المجيد الشاوي وشاكر مهدي العبيدي، أطال الله عمره، وخفف عنه غربته في الديار الأمريكية. ظل حميد المطبعي يطلق أسئلته، حتى تباطأت هذه الأسئلة، فتوقفت فالرجل قد عصفت به السنون. وكنت أشاهد كتاباته الأخيرة التي يرسلها لجريدة (الزمان) وقد بان ضعف خطه فقد ظل الرجل يكتب بورق مخطط خاص به عليه اسمه (حميد المطبعي) وبالقلم الحبر. سيظل حميد المطبعي في الذاكرة، لأنه نحت له في صخرة الذاكرة العراقية مكاناً مكيناً راسخاً، وما أظنه إلا سيبقى مفتخراً بما خطته يداه، وهذا حسبه.