من تأريخ الحركة الوطنيّة في الأربعينيات..محاكمات سياسيّة بالجملة!  وعزيز شريف المحامي القدير

من تأريخ الحركة الوطنيّة في الأربعينيات..محاكمات سياسيّة بالجملة! وعزيز شريف المحامي القدير

د. وسام هادي عكار التميمي
قدّمت محكمة جزاء بغداد الأولى عدداً من قادة حزب الاتحاد الوطني للمحاكمة، منهم ناظم الزهاوي، المدير المسؤول لصحيفة السياسة، لنشره مقالاً بعنوان (مذبحة كاوور باغي)، هاجم فيه وزارة أرشد العمري لضرب الشرطة العمال المضربين بالرصاص، أما موسى الشيخ راضي، وشريف الشيخ، حيث نشرا مقالات هاجما فيها سياسة الحكومة،

وكانت التهم الموجهة إليهما أن مقالاتهما تشجّع على كراهية الحكومة، بإقامة المحكمة دعوى أخرى على ناظم الزهاوي، وعبد الله مسعود، بسبب نشر الأخير مقالاً في صحيفة السياسة، أثار الرأي العام بعنوان:(تحرج الحالة وأسبابها وموقف الأحزاب منها).

بدأت محاكمة هؤلاء المتهمين في (11 آب 1946)، فتكفل للدفاع عنهم تسعة عشر محامياً يتقدمهم عزيز شريف، واقتصر دفاع عزيز شريف، أولاً على موسى الشيخ راضي، وناظم الزهاوي، متوجهاً بمجموعة من الأسئلة إلى هيئة المحكمة منها: لماذا يقف موسى الشيخ راضي، وناظم الزهاوي، في قفص الاتهام؟ ألأنهما سرقا أموالاً من الناس؟ أم لأنهما ارتشيا؟ أم لأنهما قتلا نفساً بريئةً؟ أم اعتديا على أحد؟ فأجاب: بالطبع لا، وفي دفاعه عن موسى الشيخ راضي، أشار إلى أنه عضو في حزب الاتحاد الوطني، ورغب هذا الحزب في أن يقف على حقيقة إضراب عمال شركة النفط في كركوك، فأنتدبته لجنة الحزب، وكلّفته بالتحري عن الحقائق من مصدرها، فسافر إلى هناك ووضع تقريراً تضَّمنته الحقائق التي توصل إليها من خلال شهود عيان ومن مراجعته لدوائر الحكومة، وقدّم هذا التقرير إلى لجنة الحزب الذي أنتدبه، فنشرته صحيفة السياسة، أما ناظم الزهاوي، فقد ذكر عزيز شريف، أن سبب مثوله أمام المحكمة، هو أن الحقائق التي وردت في تقرير موسى الشيخ، لم تحظَ بقبول بعض الجهات السياسية، وبما أن ناظم الزهاوي، هو المدير المسؤول عن صحيفة السياسة، فإن الحكومة وجدت من وجهة نظرها، ما قام به جريمة يُعاقب عليها.
رأى عزيز شريف، إن موكليّه لو كانا يقفان أمام هذه المحكمة بسبب ارتكابهما عملاً مضرّاً متفقاً على ضرره، لكان هناك بحث آخر، ولكن قيام موسى الشيخ، بواجبه الوطني والحزبي، برفعه هذا التقرير الذي وصفته الحكومة بالمنشور، فإن هذا يخالف القانون، وأردف قائلاً”لا يُخفى على هيئة المحكمة، إن قضايا النشر من القضايا التقديرية، وعلى هذا، فمن الجائر أن ينال أحد الناس عقاباً شديداً بدخوله السجن لنشره مقالاً معيناً، ويبقى شخص آخر طليقاً مع أنه نشر مثل هذا المقال، لا لسبب وجود فارق بين المقالين؛ بل بسبب الاختلاف في ذهنية الذين قيّموا المقالين الأول والثاني".
استطرد عزيز شريف دفاعه، مضيفاً إن القضاء النزيه هو الذي يحمي الناس من جَورِ السلطة التنفيذية والإدارية، وهو الذي يحقق العدل والحرية، ويوحّد بين حظوظ المتهمين الذين تجري بحقهم التعقبات القانونية، مبيناً ليس القضاة وحدهم هم الذين يحمون الناس بهذه الصورة، بل إن المبادئ القانونية أيضاً تفرض عليهم هذه الحماية، وقد أوضح عزيز شريف وجود فرق مهم بين الغاية التي تنبعث لنشر الأخبار الاصطلاحية، والغايات لنشر أخبار يعاقب عليها القانون، ففي كلتا الحالتين يتهم المتهمون بجرائم النشر، ولاسيّما ما يتعلق منها بانتقاد الحكومة، مؤكداً أن منشأ اتهامهم على ما نشروه، هو الاختلاف بينهم وبين الحكومة في وجهة النظر وفي طرق إصلاح المجتمع وتأمين حاجياته.
أما في دفاع عزيز شريف،عن شريف الشيخ، الذي نشر مقالاً تطرّق فيه إلى ما قامت به الشرطة في مديرية الميناء في البصرة، واضطهادها لعمال الميناء بعنوان: (اضطهاد نقابة عمال الميناء)، وعن عبد الله مسعود القريني الذي نشر مقالاً عن الثورة العراقية الكبرى عام 1920 بعنوان:(الثورة المنسية)، تساءل عزيز شريف، ما هو القصد الذي يقصد بهما نشر المقالين المذكورين، فمقال شريف الشيخ، كان بهدف الدفاع عن نقابـة العمال والتنديد بما قامت به الشرطة في هذه النقابة؛ أما مقال عبد الله مسعود القريني، فكان هدفه التمجيد لرجال ثورة العشرين، الذين كانت دماؤهم وأرواحهم الطاهرة ثمناً لقيام حكم وطني، وختم عزيز شريف دفاعه مطالباً المحكمة بإلغاء التهم وتبرئة موكليه.
في إثر دفاع عزيز شريف، أعادت المحكمة الحكم مرة ثانية، فقررت الإفراج عن ناظم الزهاوي، وعبد الله مسعود، وتخفيف العقوبة على موسى الشيخ راضي، وشريف الشيخ، وتعطيل صحيفة السياسة إلى أربعة أشهر ابتداءً من (21 آب 1946)، علماً أن العقوبة السابقة كانت تقضي بحبس عبد الله مسعود وشريف الشيخ وموسى الشيخ راضي، شهرين، وحبس ناظم الزهاوي لمدة شهر واحد، فضلاً عن تعطيل صحيفة السياسة لمدة سنة واحدة.

عزيز شريف في دفاعه عن كامل قزانجي سنة 1947:
كان كامل قزانجي، أحد الشيوعيين المنضمين إلى رابطة الشيوعيين العراقيين كتلة داود الصائغ. ألقت الشرطة القبض عليه ووجّهت إليه محكمة جزاء بغداد الأولى ثلاث تهم هي:
1- دفاعه عن العناصر الشيوعية واليسارية المناوئة للحكومة.
2- العثور في منزله على منشورات تخص الحزب الشيوعي السري، وعدد من الصحف الشيوعية بلغات أجنبية مختلفة، فضلاً عن الكتب الماركسية والصور والتماثيل التي تدلُّ على انتمائه للحزب الشيوعي.
3- العثور على قرار فصل كامل قزانجي من الحزب الوطني الديمقراطي، في إثر نشرة (نداء الإنقاذ).
ألقى عزيز شريف دفاعاً مطولاً نيابة عن هيئة الدفاع في (8 أيلول 1947)، في قضية كامل قزانجي، وقد طبع نص هذا الدفاع في كرّاس صغير، وقد لخصّنا دفاع عزيز شريف بخمس نقاط رئيسة هي:

أولاً: ذكر عزيز شريف، إن ما استندت إليه دائرة التحقيقات الجنائية والإدعاء العام، عن وجود كتب ومجلات وصحف شيوعية لم تنشر، لا يكون هذا دليلاً على جرم موكلنا، مبيناً، لا عقاب إلاّ إذا توافر ركنان أساسيان هما: النشر، وأن يكون ما منشور مخالفاً للقانون.
ثانياً: إن التقارير والإخباريات التي لدى التحقيقات الجنائية، لم تسند إلى موكلنا ولا يجوز الأخذ بها، لأنها لم ترد في شهادة الشهود، ولم يحضر الذين دوّنوها أمام المحكمة، لسماع شهاداتهم ومناقشتهم.
ثالثاً: إن الجناح التقدمي للحزب الوطني الديمقراطي، كان يُعدُّ الجناح المعارض لسياسة اللجنة الإدارية والمركزية للحزب، وإن قرار الفصل من الحزب الصادر في (25 شباط 1947)، جاء على غرار خلاف شخصي بين كامل الجادرجي وموكّلي، إن إعادة نشر قرار الفصل مرة ثانية في صحيفة (صوت الأهالي) في آخر يوم لمحاكمة موكّلنا في (28 آب 1946)، هو دليلُ كافٍ لإثبات هذه الخصومة.
رابعاً: إن ما جاء في بيان الفصل لا يمكن أن يستند إليه إلاّ إذا حضر مصدر البيان، وأدى اليمين القانونية بصفته شاهداً، ومناقشته من قبل المحكمة والدفاع لتتجلّى الحقيقة في هذه القضية، مضيفاً، لا يجوز أن يجرّم موكلنا بزعم فصله من الحزب وتكوين جمعية باسم الجناح التقدمي.
خامساً: أشار عزيز شريف، الى إن كامل قزانجي، لم ينتمِ إلى الحزب الشيوعي، ولم تكن له أي صلة به، ولم يحضر شاهدٌ يثبت انتماءه إليه، وحتى في تقارير الشرطة لم يرد انتماؤه للحزب الشيوعي السري.
ختم عزيز شريف دفاعه، بالمطالبة ببراءة موكّله، وإلغاء التهم المنسوبة إليه، وتسليمه الكتب والمجلات والأغراض جميعها التي عُثر عليها في منزله.

عن رسالة (عزيز شريف ودوره السياسي)