تشيزاري بافيزي رائدُ الرمزيّة الجديدة في الأدب الأيطالي

تشيزاري بافيزي رائدُ الرمزيّة الجديدة في الأدب الأيطالي

باسم توفيق
طفلٌ حالمٌ يعيش داخل هوامش أحلامهِ الخاصة حواراتهُ تجمع في باطنها الشعرَ والرواية والحدّوتة والأسطورة يُتمهُ المبّكر أرهفَ حسّه وشَحَذَ مخيّلته دراسته للأدب الأميركي أثّرت في شخصيتهِ الثقافيّة والأدبيّة

(بوصفهِ أحد الجسور السريّة للعبور للحقيقة، يعتبر الموت رحلة بعيدة مفاجئة ومشتهاة.. غامضة وأحياناً اختيارية... بافيزي قرّر أن يعبر هذا الجسر بشكل اختياري... لعلّه بعد حواراته مع ليوكو، قرّر أن يكتشف السر دون اللجوء لميتامورفيسوس جديد أو دون اللجوء للآخر ليصحبه مؤنساً وحدة روحهِ التي صاحبته حتى أطلق روحه من محبسها... بافيزي محكومٌ بالمجهول في زمن أصبح فيه الحب صنو الضياع).
لعلَّ ايتالو كاليفينو الذي نصب نفسه أميناً على تراث بافيزي، عبّر بهذه الكلمات بصدق وحميّة حقيقية عن تشيزاري بافيزي، الأديب الإيطالي الكبير والعلامة الفارقة في تأريخ الأدب الإيطالي الحديث، ولعلّنا لا نخطئ القول إذا قلنا، إن الأجيال التي تلت الفتره الفاشية في إيطاليا تربّت على يد بافيزي من خلال ترجماته العظيمة من الأدب الأنكليزي والأميركي للغة الإيطالية، حيث أثرى بافيزي المكتبة الإيطالية بأعاظم الأعمال المكتوبة بالأنكليزية مثل رائعة الأديب الأميركي هيرمان ميلفيل - موبي ديك - والتي كانت رواية بافيزي نفسه المفضلة، وترجم العديد من أعمال وليم فوكنر وجيمس جويس الذي قدّم ترجمة مختصرة لرائعتهِ (عوليس) كما قدّم أيضاً أهمّ أعمال تشارلز ديكنز للقارئ الإيطالي.
وما يجرّنا للحديث عن بافيزي، هذه الصفحة الناصعة في تأريخ الأدب الأوروبي، أنه في أوائل يوليو/ تموز الحالي، أطلقت مؤسسة"كلمة"، بأبو ظبي، ذلك المشروع الضخم للترجمة، أطلقت أول أعمال بافيزي المترجمة للعربية وهي رائعتهِ الشهيرة - حوارات مع ليوكو - وترجمها عن الإيطالية وقدّم لها الناقد والكاتب موسى الخميسي. وهكذا يمضي مشروع"كلمة"لترجمة هذا المشروع الخلّاق يمضي في تقديم أرقام سحرية في عالم الفكر والأدب للقارئ العربي.
وتعدُّ حواراته مع ليوكو إشكالية في حدّ ذاتها، بحيث يصعب تصنيفها على أنها تتبع جنساً أدبياً واحداً، فهي تجمع في باطنها الشعر والرواية والحدّوتة والأسطورة.. لعلّها تشكّل جنساً أدبياً مستقلاً بذاته، نستطيع أن نطلق عليه (الملحمة الجديدة) فهي في طرحها الأسطوري تقترب أكثر لإعادة إنتاج الملحمة، ربما بشكل جديد وحداثي يتماشى مع التجديد الذي كان يحدث على يد بافيزي بين الأدب الإيطالي بجذوره الرومانية وبين آخر جديد بعيداً عن الصورة الأوروبية، والذي وجد ضالته تحديداً، في الأدب الأميركي، وهذه قضية ربما تعدُّ هي الرئيسة في أدب بافيزي، فإذا اعتبرنا بافيزي من كتّاب الرمزية لا نجانب الصواب، لكن ربما جانبنا الصواب، إذا أعتبرنا أن بافيزي ينتمي للرمزية الأوروبية التي تتمثل في المدرسة الفرنسية، لأنه يجانب تماماً تلك الرمزية الارستقراطية، ويجد رمزيته في الأدب الأميركي الذي جعل من بافيزي غير مُنساق وراء التقليد الأوروبي، بل خلق منه متمرداً وثورياً، ليس في الأدب فحسب، بل في فكره السياسي أيضاً.
باختصار شديد، كان تشيزاري بافيزي، باحثاً عن جدوى الحرية في الفكرة الأميركية بعد أن غرق في أدب والت وايتمان وجرتود ستين وجون دوس باسوس على حدّ تعبير الناقدة ليزلي فيدلر. لم يكن الأدب الأميركي فقط هو البديل للآخر الأوروبي في فكر بافيزي، بل كان له دور كبير عند بافيزي، بحيث استخدمه لإيصال رسائل خفيّة للمعارضة الإيطالية والشعب الإيطالي، في وقت اشتداد الرقابة الفاشية على أدب بافيزي.
تعدُّ سيرة حياة بافيزي، من أهم المعطيات التي يتم على أساسها تحليل سيرته الأدبية وأخيلته أيضاً، والدليل على ذلك، ما قالته صديقته المقرّبة ناتاليا جينزبيرج، والتي وصفته أنه طفل حالم وحيد ومجروح يعيش في داخله على هوامش أحلامه الخاصة به، ولم يكن ذلك إلاّ بسبب يتمهِ المبكّر كما تقول جينزبيرج. هذا اليتم الذي عاشه مرتين بشكلين مختلفين، حيث رحل والده يوجينيو بافيزي، الموظف بمحكمة تورينو، نتيجة لورم في المخ عام 1914 أي حينما كان عمر بافيزي 6 سنوات فقط، وبعده بأقل من عام، عاش يتماً جديداً، حيث أنفصلت عنه والدته والتي لم تعد لتلقاه بشكل مستمر إلاّ في لقاءات نادرة. وهكذا عاش بافيزي يتماً مبكراً أثر فيه بشكل خدم شاعريته فأرهف حسّه وشحذ مخيلته.
الفترة التي عاشها بافيزي في تورينو في المرحلة الثانوية، هي الفترة التي شكّلت شخصيته فيما بعد، وجعلت منه تشيزاري بافيزي، الذي نعرفه وكان لذلك مؤثرات عدّة أهمها، أنه تعرّف أثناء دراسته في ليسيه تورينو، على شخصية ثقافية وأدبية عظيمة هو المعلم والمفكّر اوجوستو مونتي، الذي أتخذ منه بافيزي أباً روحياً ومعلّماً، وأخذ يعرض عليه ما يكتبه من قصائد، كانت كلها مرحلة تجريب شعرية. وكان مونتي يقوم بتوجيه بافيزي وهو الذي لفت نظره الى أن دراسته للأدب الأميركي سوف تثري تجربته الأدبية بشكل مختلف، فلم يكن الأدب الأميركي معروفاً بشكل واسع للقارئ الإيطالي، لأن المشروعات السياسية بما فيهم المشروع الفاشي، أسهم بحجب هذه النوعية الطليعية من الأدب، وهكذا كان مونتي هو المعلم والناصح لبافيزي، بل وشكّل فكره السياسي إيضاً بشكل فعّال، حيث ورث منه بافيزي كرهه الشديد للفاشية، وهذا الكره الذي حرّك بافيزي باقي مشواره الأدبي بحثاً عن مضامين للحريّة في كتاباته.
بعد أن أتمَّ بافيزي دراسته الثانوية في ليسية تورينو، التحق بجامعة تورينو، لدراسة الأدب الأنكليزي والأميركي، ومن هنا انطلق بافيزي لعوالم جديدة بين أعمدة الأدب الأميركي، ووجد نفسه يعبر لجوانب خفيّة لم يجدها في الأدب الأوروبي، لكنه بالرغم من ذلك، ظلت جذوره أوروبية بحتة، بل وإيطالية رومانية أصيلة، وهذا ما يفّسر لنا عمله العظيم - حوارات مع ليوكو - المغرق في صلب الأدب الروماني.
تخرّج بافيزي من جامعة تورينو، بعد أن حصل على درجة جامعية في شعر والت وايتمان عام 1930 وبدأ يمارس عمله الأدبي، فكتب قصصاً قصيرة وقصائد، ونشطت حركة الترجمة، فقام بترجمة العديد من الأعمال الأدبية الأميركية، وفي هذه الفترة أيضاً، اصبح ناشطاً سياسياً في جماعة ضد الحكم الفاشي، وأثناء حضوره تلك الاجتماعات السريّة، تعرّف بتينا بيتساردو، التي سوف تكون أيضاً علامة فارقة في فلسفة المرأة لديه. كانت بيتساردو متخصصةً في الرياضيات وعضوة في الحزب الشيوعي الذي كان يمارس نشاطه سرّاً في ظل الحكم الفاشي. ووقع بافيزي في حب تينا بيتساردو واشتعلت قصة الحب بينهما تحوطها ميولهما السياسية. لكن بافيزي لم يكن يتخيل أن البوليس السياسي لموسوليني يتابع تحركاته بل ويراقب مراسلاته، حتى وقع في أيديهم خطاب كان قد أرسله لتينا على عنوان منزلها يعبّر فيه عن حنقه وكرهه للفاشية وموسوليني نفسه. وقامت السلطات بالقبض عليه، وتمت إدانته بتهمة إهانة الفاشية وموسوليني زعيم إيطاليا الديكتاتور، وقضى بافيزي في السجن ثلاثة أعوام بداية من 1935 لم يتوقف فيها بافيزي عن نشاطه الأدبي، بل إنه أنجز فيها أهمّ أعمال قام بترجمتها من الأدب الأميركي مثل - سيرة حياة اليس - لدوس باسوس و- مول فيلاندرز- لدانيل ديفو.
خرج بافيزي من سجنه أكثر قوة من ذي قبل، لكنه تلقّى صدمة قوية حينما علم أن تينا بيتساردو، لم تكن في انتظاره، بل أكملت حياتها وتزوّجت وخرجت تماماً عن مداراته، مما سوف يؤثر في صورة المرأة لديه فيما بعد، فنجده يدوّن في يومياته التي نشرت بعد رحيله (لم تكن تينا أكثر صبراً من بينلوبي، فبينما انتظرت بينولوبي اوديسيوس أكثر من عشرين عاماً، لم تستطع تينا أن تنتظرني 3 سنوات فقط... ما أهون الحب على النساء) وربما هذا الشعور لم يكن مبالغاً فيه حينما نقرأ لتينا بيتساردو نفسها في كتابها التي أصدرته بعد وفاة بافيزي عن علاقتها به - حكايتي مع بافيزي - تقول تينا (أعرف أنه كان كريماً في وصفي ولم يصفني بالنذالة والجحود بالرغم من أنني كنت جاحدة لحبّه الذي تعلمت منه الكثير).
لكن تينا تلمح في غير ذات موضع، الى أنها قررت أن تمضي في حياتها بعيداً عن بافيزي خوفاً من بطش الفاشية وخوفاً على بافيزي نفسه، على أية حال، كانت تينا نقطة خلافيّة في فهم بافيزي لطباع المرأة.
أصدر بافيزي ديوانه الأوّل المسمّى -عمل مضني- عام 1936 والذي حذفت منه الرقابة جزءاً كبيراً، مما أضطره الى أن يعيد إصداره فيما بعد في طبعة كاملة عام 1943 وبعد مرحلة صمت دامت من 1938 وحتى عام 1941، أصدر روايتين، هما (الشاطئ وإجازة في أغسطس)، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأ بافيزي في تكثيف نشاطه، فقدّم العديد من الأعمال، كان من بينها (الأرض والموت وحوارات مع ليوكو)، الذي استلهم فيه الشاعر الروماني الكبير أوفيديوس ناسو، والذي كتب ذلك العمل الجامع للأساطير الأغريقية والرومانية والشهير بميتامورفيسوس أو التحولات والمعروف اصطلاحاً بمسخ الكائنات. وكما يقول الناقد والأكاديمي الأميركي ديفيد بورتر (لن تكون أكثر إعجاباً بميتامورفيسوس إلاّ بعد أن تقرأ حوارات مع ليوكيو لبافيزي، وتشاهد مسرحيات ماري زيمرمان في نفس الإطار) ومنذ أن ظهرت ترجمة أروثميس لديوان (عمل مضني) لبافيزي، وهو يوصف بالكاتب ذي النزعة الأسطورية، وهذا وصل إلى ذروته في حوارات مع ليوكو، حيث يحاول بافيزي أن يناقش أموراً فلسفيّة، مثل الموت والحب والمصير والروح من خلال طرح فلسفي يدور بين شخصيات الأساطير الشهيرة. ويقول الناقد الأميركي الكبير سفين بيركيرتس (حوارات مع ليوكو، هي أنشودة شجيّة للحكمة البشرية في صورة نقيّة ومحركة للقلب.. وفيها أثبت بافيزي، أن ديمومة التجربة البشرية لا تنقطع عند عصر ما أو حضارة ما).
وفي عام 1949 ربطت بافيزي علاقة بالممثلة الأميركية الناشئة كونستانسي دولينج، أستمرت لمدة عام، لكن كونستانسي التي كانت تبحث عن الشهرة والمجد، هجرت بافيزي، فدخل في مرحلة من اليأس والحزن، أدت في النهاية إلى أن ينتحر بجرعة كبيرة من الدواء المنوّم، ويتم العثور عليه ميتاً في غرفته بالفندق الذي كان يسكن فيه في 27 أغسطس/ آب عام 1950، وأسدل الستار على أديب خلّده تاريخ الأدب الأوروبي على أنه الأديب ذو النزعة الأسطورية ورائد الرمزية الجديدة في الأدب الإيطالي.