كتاب نادر وأحداث عراقية مطوية في الحرب العظمى

كتاب نادر وأحداث عراقية مطوية في الحرب العظمى

رفعة عبد الرزاق محمد
كثيرة هي الكتب القديمة التي أهملتها حتى نسيت بعض ما تضمنته، ومنها كتب تعد اليوم من نوادر المطبوعات وأنفسها، وكم كانت دهشتي عندما إطلعت قبل أيام على كتاب عن قضية الارمن والدولة العثمانية، اعتمد مؤلفه فيما اعتمد على كتاب منسي مطبوع في القاهرة سنة 1918 وعنوانه (المظالم في سوريا والعراق والحجاز) ومؤلفه فائز الغصين.

انتبهت الى أن المؤلف عن الارمن يذكر حوادث منسية مختلفة وهو شاهد عصره عليها، فتذكرت أن بعض اصحاب المذكرات العراقية عن أحداث الحركة العربية والحرب العالمية الأولى (العظمى) كانت لهم صلة بمؤلف كتاب (المظالم) فائز الغصين. فالأمر مغر للبحث في صناديق الكتب القديمة والمهملةعن كتاب الغصين هذا وإعادة الاطلاع عليه.
اخترت في هذه المقالة بعض ما وجدته في كتاب الغصين عن أحداث عراقية لم يشر إليها إلا لماماً، وهي جديرة بالاستدراك والتصويب في مقال آخر.. ونؤكد القول إن الغصين اعتمد فيما كتبه على مانقله اليه اصدقاؤه العراقيون المعارضون للاتراك ، وقد أشار الى ذلك في العديد من مروياته.
يقول في الصفحة 42 :
ومن أنواع ظلم الترك انهم أرسلوا جميع الجنود السورية والعراقية للبلاد الباردة جداً مثل ارضروم وريغا فبادوا كلهم أو القسم الاعظم. وقد روى لي أحد الضباط في ديار بكر إن الفيلق البغدادي الذي أرسل الى جهة ارضروم لم يرجع منه إلا مائتا جندي اكثرهم لا يصلح لشيء، وكان عدد الفيلق نحو تسعة عشر ألفاً ما بين ضابط وجندي. ويقدر عدد الذين قتلوا من سوريا والعراق في هذه الحرب التي ليس للعرب فيها ناقة ولا جمل بمائتي ألف نفس.
ويقول في الصفحة 58 :
وما علمه محدثنا من فضائحهم في أهالي بغداد نفيهم للشيخ يوسف السويدي عضو مجلس ادارة تلك الولاية ومن كبار علمائها بغير ذنب صدر منه. ولكن انتقاماً منه لأنه كان بصفته عضواً في مجلس الادارة يعارض جمال باشا أيام ولايته هناك في بعض أمور يرى فيها الضرر المحقق على الأهالي. فاستدعاه جمال باشا الى دمشق بعد مرور السنين على تلك الحادثة ولم يرع الله في شيخوخته وهرمه. وألقاه في السجن مدة ستة أشهر ثم نفاه الى جوروم بدون أن يثبت عليه أي جرم يستلزم ذلك. ومن العجيب إن للشيخ يوسف السويدي ابن في الاستانة في الوقت الحاضر فلم يستطع ابنه بالرغم من خدمته لهم أن يحول دون نفيه.
ومما زاد في المصائب النازلة على هذا الشيخ الجليل ان له ابناً آخر اسمه (شكري بك) (كذا) كان قائممقام في داخل ولاية ديار بكر حمله دينه ومرؤته على المعارضة بالحسنى في مسألة القتل العام والفتك الذريع الذي أنزله الاتحاديون بالأرمن فطلبوا منه أن يستقيل من وظيفته، ثم أرسلوا له من يقتله في أثناء سفره فذهب ضحية شهامته ومرؤته.
ويذكر الغصين إنه اطلع على كتاب عنوانه (فضائع الاتراك في بغداد) وفيه رسالة من أحد أفراد الاسرة الكيلانية يذكر فيه بعض الأحداث ومنها (ص85) :
لجناب ابن العم الافخم عبد السلام السيد صالح الكيلاني المفخم.بعد السلام والسؤال عن خاطرك فأنا غادرت بغداد ليلة الرابع عشر من شعبان ماشياً على الرجل قاصداً البصرة على طريق السماوة فبعد العناء الشديد وصلت يوم الخامس من رمضان ومكثت في البصرة بضعة أيام والحمد لله وصلت الكويت واليوم أنا نزيل أميرها، ولا تسل عما ينزل في بغداد وما يليها من العذاب والمظالم حينما دخلها المغولي نور الدين وأعوانه رؤوف بك والقائممقام العسكري سليمان مسرور وأعوانهم ومن أعقب نور الدين لأنهم مثلوا بها مظالم اجدادهم جنكيز وهولاكو حتى صار القتلى أكثر من الأموات، والعالم ما بين مشنوف ومطرود ومسجون ومنفي ومحكوم عليه بالاعدام وكذا الاموال صار أخذها وغصبها ونهبها حلال على مذهب التتار. ولو نظرت الى ذلك المنظر الكئيب المحزن وما عليه المخدرات والبنات والصبيان والشيوخ والعجائز من النساء حينما اخذوهم وبعدوهم الى بر الاناضول وهم حفاة عراة بأيدي عساكر الالمان والاتراك وبينهم شكري الالوسي وابن عمه ويوسف السويدي وعبد اللطيف ثنيان صاحب جريدة الرقيب و أنور بك الحيدري وشيخ حميد الكليدار الكاظمي وابن عمه شيخ محمد سعيد وأمثالهم، ولو مررت على المشانق في باب الاعظمية والميدان وما عليها من الشبان المتنورين وغيرهم كشكري الفضلي صاحب جريدة الزهور ومحمود صبحي من متخرجي مدرسة الحقوق وإسماعيل حاجي بستان وعبد الحميد الازري (كذا) صاحب جريدة المصباح وفائق أفندي باش كاتب التجارة والسيد محمود النقيب والسيد والسيد عبد الله النقيب وشيخ جواد الكاظمي من مجتهدي الشيعة وغيرهم ولا تسل عما جرى في كربلاء والنجف والحلة وخانقين وبعقوبة واما الجوع لا تسل عنه، هذا ما سمحت الفرصة بذكره ودُم سالماً. في 19 محرح 1335.. كيلاني زاده.
وينقل الكتاب نص ما نشره محمد الهاشمي الكاتب والأديب البغدادي في جريدة المقطم المصرية من فضائع العهد التركي الاخير في بغداد من نفي للاب الكرملي والمعلم الصحفي داود صليوه والشيخ عبد الحسين الازري وغيرهم.
وللتعريف بمؤلف الكتاب نقول اعتماداً على ما كتبه خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام إنه فائز بن زعل الغصين ولد في حوران في سوريا سنة 1883 وعمل في المحاماة واعتقلته السلطات التركية سنة 1915 وأصبح من رجال الحركة العربية ضد العثمانيين فسيق الى ديوان الحرب العرفي في عاليه حيث محاكمات جمال باشا السفاح انذاك وأطلق قبل اعدام الوجبة الاولى من رجال الحركة العربية بثلاثة ايام ونفي الى ديار بكر، لكنه تمكن من الفرار في رحلة شاقة حتى اختفى في بادية العراق الغربية ثم ظهر في البصرة واستقر بها نحو شهرين قبل سفره الى جدة والتحاقه بالثورة العربية مع الشريف فيصل بن الحسين فأصبح سكرتيره ورافقه الى المؤتمرات الدولية، وبعدها عمل في القضاء ثم المحاماة، وتوفي سنة 1968 وقد نشر مذكراته المهمة عن تلك الأحداث فضلاً عن كتابه الذي تحدثنا عنه، وقيل أن له كتاباً عن مذابح الارمن في الحرب العظمى.