من أيام بغداد المُثيرة..أوراقٌ مطويّة من أسرار فيضان ربيع 1954

من أيام بغداد المُثيرة..أوراقٌ مطويّة من أسرار فيضان ربيع 1954

فيصل فهمي سعيد
كان أحد أعضاء مجلس الأعيان ويدعى، نصرت الفارسي، الذي ينحدر من عائلة عراقية معروفة، (لقّبت بالفارسي كونها عرفت بالتدوين عن الفارسية) زار تركيا في أواخر شهر كانون الأول العام 1953، فأبلغه أحد المسؤولين هناك، أن كمية هائلة من الثلوج المذابة على جبال تركيا التي تصب في أعلى دجلة، بخلاف الكميات الطبيعية التي تسقط بحلول نهاية كل عام،

وبحسب ماتشير إليه التقارير الرسمية التركية، التي أكدت حدوث فيضان كبير في تركيا والعراق، ولما عاد نصرت الى بغداد وحضر جلسة مجلس الأعيان يوم 20 كانون الثاني من العام 1954، أوضح ما أخبره به المسؤولون الأتراك وأكد مخاوفهم، ودعا الى حضور عاجل لوزير الزراعة، عبد الغني دلي للحضور الى مجلس الأمة وعقد جلسة طارئة، في عهد وزارة حكومة محمد فاضل الجمالي للمرة الثانية في ذلك الوقت، وبحسب الدستور الملكي، فإن مجلس الأمة يتكون من مجلس النوّاب المنتخب، ومجلس الأعيان الذي يختار فيه الملك تعيين أعضائه، كان نصرت الفارسي ملحاً بطلبه خلال اجتماع مجلس الأعيان، وأكد للحضور : أريد من وزير الزراعة، أن يوضح لي استعداداته، لأنني جئت من تركيا وأخبرت بأن هناك ذوباناً غير طبيعي للثلوج في جبال تركيا، ربما تغرق بغداد لاسمح الله.

لم تحظ تحذيرات نصرت ومخاوفه، بردة فعل أو اهتمام من المسؤولين، إلاّ بعد مرور شهر تقريباً،”عندها أصبح الموقف حرجا"، ففي يوم 22 شباط، حضر وزير الزراعة، عبد الغني دلي، الى مجلس الأعيان وطمأن الحضور وبيّن لهم أن هناك تحضيرات واستعدادات لبناء السدود ومعالجة الفيضان، ولما حل شهر آذار، ارتفع منسوب المياه وصار بحسب اللهجة الدارجة (خنياب)، وقد سافر الملك فيصل الثاني الى باكستان، في منتصف شهر آذار وذهب معه ضمن الوفد المرافق له، وزير الزراعة عبد الغني دلي، وفي يوم 21 آذار، بدأ دجلة ينذر بفيضانه، عندها توافدت البرقيات العاجلة من موظفي دائرة الري في الموصل الى وزارة الزراعة، مفادها، أن مناسيب مياه دجلة هناك، قد سجّلت زيادات غير طبيعية يومياً، وتدعوهم لاتخاذ التدابير اللازمة لاستقبال المياه ومنع حدوث فيضان، إلاّ أنّ المسؤولين في وزارة الزراعة، لم يعيروا اهتماماً يتناسب مع حراجة الموقف، ويوضح فيصل، أنه على النقيض من المسؤولين العراقيين، فإن مدير الري العام، المستر هاردي، البريطاني الجنسية، كان واقفاً على السدة في منطقتنا بالوزيرية في ذروة الفيضان، وسنأتي على أحداث ذلك اليوم المثير لاحقاً، وقد بيّن هاردي للمسؤولين خطورة الموقف، عندما كان يراقب الشاخص الكبير، أوما يطلق عليه مقياس، يؤشر مستوى ارتفاع المياه، وهو مشيد قرب ساعة القشلة وسوق السراي، في جانب الرصافة، كان المقياس يشير إلى درجة 32 في يوم 24 آذار، وهذا يعني أن المياه بلغت مرحلة الخطر، وفي اليوم الذي تلاه، أرتفعت المياه لتبلغ درجة 35، وهذا يشير الى أن المياه، أصبحت بمستوى مدمّر، وفي أثرها، اجتمع مجلس الوزراء واستدعى وزير الزراعة الذي كان يومها خارج العراق مع وفد الملك فيصل، فبعثوا له ببرقية عاجلة يوم 24 آذار، تطلب منه العودة بأقرب وقت الى بغداد، لأن وضع دجلة بلغ فوق مستوى التهديد بالخطر، وبات من المؤكد أندلاع فيضان في بغداد! وبالفعل عاد الوزير الى العراق يوم 25 آذار، وعقد اجتماعاً (طارئاً) لمجلس الوزراء حضره وزير الدفاع، حسين مكي خماس، الذي أنيطت به صلاحية اختيار آمر فيضان،
وبدوره اختار (أمير اللواء) مدير الهندسة العسكرية في الجيش العراقي، خليل جميل، آمراً» للفيضان، وأبرق رسالة له، حيث كان في جولة تفتيشية وتفقدية في أحد قطعات الهندسة العسكرية المرابطة في جنوب العراق، ولما وصلته البرقية، حضر الى بغداد بواسطة طائرة الهليوكوبتر نوع (سيكورسكي موديل 555) المستوردة حديثاً» للعراق عام 1951 وكان لها دور في فيضان بغداد.
وكان العراق قد أستورد ثلاث سمتيات من نوع سيكورسكي، جاءت تسميتها نسبة الى مخترعها، العالم سيكورسكي، ودخلت الخدمة الفعلية في القوة الجوية العراقية ولأوّل مرة، خلال أيام الفيضان، لما بلغ ذروته، حلّقت السمتيات الثلاث فوق سماء الجهة الشرقية من بغداد، خلف السدة، وهبطت هناك لنجدة بعض القرى، من سكان الصرائف والبيوت الطينية. أول ما شرع به آمر اللواء، خليل جميل، آمر الفيضان، قرار إعلان حالة الطوارئ، وفرض إنذار -ج- لكل القطعات العسكرية التي خصّصت تحت إمرته، والتي وزّعها على طول سدة ناظم باشا، الممتدة من أقصى الصليخ حالياً، الى نهاية معسكر الرشيد قرب الزعفرانية، وخصوصاً في الأماكن المهددة منها، لرفع مستوى الأسداد وسد المنافذ، ثم قام بتسيير قطار (الفالكونات) الذي كان ينقل حمولة كميات كبيرة من الرمل والسمنت من معامل السدة الى جانب الكرخ عبر سكة القطار المشيّدة على الجسر الحديد، أو ماعرف بعدها بجسر الصرافية، فخصّص آمر اللواء جميل حمولة القطار لمعالجة السدود في الأماكن المهددة، وجلب الحفارات واللوريات، التي قامت بتعبئة تلول الرمال وأطنان السمنت، ووضتعها قرب السدة، كما أحضر موظفو البلدية والري بواسطة اللوريات أيضاً أكياس”الجنفاص"، والحصران المصنوعة من جريد النخل والباريات المصنوعة من القصب مع الأعمدة الخشبية ونسميها (المردي)، وتثبيتها بشكل مائل، لتصد أمواج سيول المياه لمنعها من جرف أكياس الرمل وابتلاع رمالها، فوزّعت المواد على أفراد الجيش المرابطين على السدة، الذين تواصل عملهم على طول ساعات الليل والنهار، أيام الفيضان.
وشارك وبشكل طوعي، غالبية طلبة الكليات من جامعة بغداد، ومنهم طلبة كليات، التجارة والحقوق والآداب والعلوم، الذين بلغ تعدادهم أكثر من 1500 طالب، جاءوا الى قاطع السدود في الوزيرية، وتواصل عملهم، ثلاثة أيام متواصلة من يوم 26 الى 28، آذار، وليس هذا غريباً عن ما عرف به العراقيون في شهامتهم وغيرتهم على بلدهم.
إن مجلس الوزراء عقد اجتماعاً، وبحضور رؤساء الوزراء السابقين وبينهم، صالح جبر وصادق البصام وآخرون، ولما قرروا إخلاء بغداد، علق صالح جبر موضحاً :أن أهل الكرخ مضيافون، وممكن كل واحد منهم يستضيف ببيته عائلة، من أهل الرصافة.ثم علق صادق البصام: ولهذا لابد أن نخلي الرصافة.لكن وزير الداخلية سعيد القزاز، اعترض على مقترح الإخلاء، وأوضح مبيناً أنه لايوجد في بغداد سوى جسرين هما، جسر المأمون (الشهداء)، وجسر الملك علي (الصالحية)، فصوّت مجلس الوزراء بموافقته، ومنح القزاز صلاحية كاملة بحرية التصرف بموضوع الإخلاء في كل الأحوال.
كنت أقوم بواجبي في المشاركة بالحملة الوطنية، قرب بيتنا في الوزيرية، مع أصدقائي وزملائي من طلبة الكليات،
نعاون أفراد الجيش، نعبئ الأكياس بالرمل ونرصّها، ونحمل الحصران ونثبت المرادي، كان العمل شاقاً ماسبّب للكثير منا خدوشاً وشقوقاً دموية في راحة أيدينا، وقبل أن يصيبني الإرهاق والتعب وأنزل من السدة، سمعت من خلفي صوت عدد من الرجال يتهامسون فتوقفت عن العمل ونظرت الى الخلف، واذا بالوصي عبد الإله قد حضر بسيارته المكشوفة، وقد جاء بصحبة أحد المرافقين له من الشخصيات السياسية، يُدعى عبد الله المضايفي مع أحد الوزراء، وكذلك حضر المستر هاردي بسيارته أيضاً، ولما وقف قليلاً يراقب طريقة العمل، قبض يده اليمنى ورفعها مشيراً بإبهامه بقوة صوب الحضور، ثم قال بالإنكليزية – Good وتعني جيد، ليؤكد أن طريقة العمل في معالجة السدود تتم بأسلوب سريع ومتقن. كنت أعمل مع أصدقائي البالغ عددهم نحو أحدَ عشرَ شخصاً تقريباً، جميعهم زملاء دراسة من كلية الحقوق، وبقربي أحد أصدقائي الحميمين، يدعى لؤي يونس بحري، ووالده أحد الشخصيات المعروفة عالمياً وهو السائح يونس بحري، وصديقي مازال حياً، ويعمل أستاذاً في إحدى الجامعات الأميركية.فيما كان وزير الداخلية سعيد القزاز حضر هو الآخر بمفرده، وقد بدت واضحة على وجهه علامات الإرهاق والتعب خلال حواره الهادئ مع الضباط والمراتب، وحينها لأوّل مرة، أرى رجلاً يحمل سترته على كتفه ويرتدي قميص (نص ردن)، ثم صعد الى السدود، ودنا من أحد أصدقائي، العاملين في الطابور، وقد بدا واضحاً على راحة كفه، تسيل منها قطرات الدماء، أثر مشقة العمل الجماعي في رفع المرادي وتثبيتها مع رص أكياس الرمل لرفع مستوى السدود، مثلما أصيبت كفي أيضاً ببعض الشقوق الدموية ولكن بنسبة أقل منه، فنظر اليه القزاز وتوجه صوبه ولما صار بقربه، رفع يده اليمنى وربت على كتف صديقي ثم قال له مبتسماً –الله يبارك بيكم يا ابني ويخليكم لهذا البلد. ثم نزل ورحل، وذهبت الى بيت الحاج ناجي الزيدي، الذي يقع منزله على مسافة من السدة، بمقربة من شارع الزهاوي وأكاديمية الفنون الجميلة، وهو والد الطبيبين المعروفين في العراق، أحدهما الجراح خالد ناجي، والآخر الطبيب اسماعيل ناجي، كان والدهما سخياً وكريم النفس للغاية، وعلى مدى الأيام الصعبة من الفيضان، كان بيته مضيفاً للزائرين، ويعد مأدبة لوجبات الطعام على طول ساعات النهار داخل حديقة منزله، (ويعزم عليها) كل أهالي الوزيرية، ويبعث بوجبات أيضاً الى الطلبة والعساكر المرابطين على السدود، أضافة الى إيوائه أكثر من أربع عوائل من نساء وأطفال، ومنها عائلتا، أخي وأختي، وأيضاً، من الذين خرجوا من بيوتهم التي طالها الفيضان.