قبل 86 عاماً.. أم كلثوم تركب الطائرة للمرّة الأولى من أجل بغداد

قبل 86 عاماً.. أم كلثوم تركب الطائرة للمرّة الأولى من أجل بغداد

عبد الكناني
مرت 86 عاماً على زيارة أم كلثوم التأريخية عام 1932. والحكاية كالآتي: بعد أن أبدى الأستاذ جلال أفندي سامي المحامي وزوجته المصرية الجنسية استعدادهما لمساعدة السيد جبار سبع صاحب أوتيل الهلال في منطقة الميدان، بالسفر معه إلى مصر والتي مكثوا فيها ما يقارب الشهر، أجرى المومأ إليهم خلالها عدة اتصالات مع الفنانة أم كلثوم والتي كان فيها الأستاذ جلال وزوجته،

اللولبين اللذين تم عن طريقهما إجراء الحوار مع الفنانة (الآنسة أم كلثوم)، وما إن تمت الموافقة بين الجانبين على الشروط اللازمة كافة وكتابة العقود المطلوبة لمثل هذه الأمور وعادوا إلى بغداد، حين أخذ عبد الجبار سبع بدوره يعلن لأبناء الشعب العراقي عن طريق الصحف والمجلات المحلية الصادرة في تلك الفترة، إضافة إلى المنشورات الدعائية التي تم توزيعها في الأماكن العامة في بغداد، وكلها تشير وتعلن عن قرب وصول الآنسة أم كلثوم إلى بغداد، كما أن إدارة أوتيل الهلال، كانت قد بدأت واعتباراً من تاريخ 9 تشرين الثاني 1932 ببيع بطاقات الدخول لتلك الحفلات الغنائية يومياً، وقد كان مقرراً أن يتم وصول أم كلثوم في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الأربعاء الموافق 16/11/1932، إلا أن تأخر الطائرة التي كانت تقل الفنانة أم كلثوم إلى مطار بغداد المدني في منطقة الوشاش (المثنى) لاحقاً، مدة (24) ساعة فقد حال هذا التأخر دون إقامة الحفلة الغنائية الأولى لأم كلثوم في وقتها المحدد. لذا فقد اضطرت إدارة الأوتيل لإجراء تغيير جديد على تاريخ موعد إقامة أولى حفلاتها وجعله اعتباراً من الساعة التاسعة من مساء يوم السبت الموافق 19 تشرين 1932، وفعلاً فقد وصلت الطائرة المذكورة مطار بغداد في الساعة الواحدة والربع من بعد ظهر يوم الخميس 17/11/ 1932. وكان في استقبالها في المطار أعداد كبيرة من أبناء الشعب وكان يتقدم هذه الجماهير الواسعة كبار رجال الفكر والأدب والصحافة والفن الذين توافدوا على المطار منذ الساعة الحادية عشرة صباحاً، وما أن حطّت الطائرة التي كانت تقل الفنانة الكبيرة أرض المطار ونزلت منها، حتى علت هتافات المستقبلين تهز أرجاء المطار للترحيب بها، هذا لو علمنا بأن هذه هي المرّة الأولى التي كانت تستقل بها أم كلثوم الطائرة في حياتها خارج بلدها حسب قولها في لقاءاتها الصحفية هنا.
كما أن حالة الجو يوم وصولها أرض بغداد كانت تسوده عواصف ترابية شديدة، وما أن أستقر بها المقام في قاعة الاستقبال التابعة للمطار حتى أخذ الأستاذ جلال سامي أفندي المحامي يقدم لها مُستقبِليها من الأدباء والشعراء والصحافيين وكبار رجال الدولة للتعرف عليهم، بعدها استقلت السيارة المعدّة لها ترافقها بقية السيارات إلى مقر إقامتها في الدار الفخمة التي خصّصت لها، والكائنة في شارع طه في منطقة الأعظمية، حيث أقامت فيها طيلة وجودها في بغداد، وكان معها أخوها (خالد). ولقد ذكر المؤرخ والباحث فيصل فهمي سعيد، وهو من سكنة شارع (طه) في الأعظمية، أن قسماً من البيت مازال قائماً والذي أقامت فيه السيدة أم كلثوم في تشرين الثاني 1932.
وهنا أرفق هذا الإعلان والذي نشرته جريدة”الاستقلال”العراقية في شهر تشرين الثاني 1932، حول إقامة حفلات السيدة أم كلثوم في بغداد. كانت زيارتها الأولى لبغداد وقد قوبلت بحفاوة كبيرة من قبل الصحف العراقية والأدباء والكتاب وجمهور المعجبين، وأقيمت لها عدد من حفلات التكريم، فقد أقام أدباء بغداد حفلة في (فندق الهلال) في اليوم الثالث من كانون الأول من العام نفسه (3-12-1932) ألقى فيها الشاعر معروف الرصافي قصيدته الشهيرة التي جاء فيها :
أسمعي لي قبل الرحيل كلاماً
ودعيني أموت فيك غراماً
هاك صبري خذيه تذكرة لي
وأمنحي جسمي الضنى والسقاما
وقد ردّت أم كلثوم على الرصافي بكلمة شكر وقالت إنها ستغني قصيدته هذه، لكنها لم تفعل، ويبدو أنها نسيت الأمر كله عقب عودتها إلى القاهرة.
عندما استمع سكان بغداد إلى صوت أم كلثوم على رصيف شارع الرشيد، ذكرنا في الحكاية السابقة عن زيارة كوكب الشرق أم كلثوم إلى بغداد في تشرين الثاني 1932، عن الوصول وعن مواعيد إقامة الحفلات في أوتيل الهلال،كما أسلفنا، واليوم أذكر ما كتب في الصحف العراقية حول هذا الموضوع التراثي الفني.
كان المسرح العراقي في الثلاثينيات، مسرحاً غنائياً، وكانت بلدية بغداد هي المشرفة على المسارح والذي كان يشهد إقبالاً من بعض الناس، وفي ذلك الحين ذاعت شهرة المطربة الكبيرة الراحلة (أم كلثوم) في عموم الأقطار العربية، وكان الاستماع إليها يتم من خلال جهاز(الحاكي). وقد صادف لأهل بغداد أن استمعوا للمطربة الكبيرة أم كلثوم وجهاً لوجه، ولكن كيف كان ذلك؟
)ملهى الهلال) الذي يقع في باب المعظم والذي مازال مبناه قائماً إلى الآن والمعروف لدى الناس بـ(خان المدلل)* والمجاور لـ (سوق الهرج) وحدث أن دعا صاحب الملهى أم كلثوم إلى بغداد عام 1932، وحلت ضيفة مكرمة هي وفرقتها الموسيقية، وكان على رأسها الفنان القصبجي، وابراهيم العريان،صاحب الكمان وكريم، وسعد جرجيس صاحب الناي وغيرهم، وحينما بدأت أم كلثوم غناءها تدافع الناس على المسرح المذكور لسماع أم كلثوم، ومنهم من جلس خارج المسرح على رصيف الشارع (شارع الرشيد).
وكان باب المسرح مفتوحاً ليستمع الناس إلى صوت أم كلثوم، حيث لم تكن هناك بعد مكبرات الصوت، وفي اليوم الثالث من غنائها، قدم وفد صحافي لتقديم التحية والسلام لأم كلثوم، وكان من بين أعضاء الوفد، عبد الغفور البدري، وإبراهيم حلمي وعبد الجبار سبع (صاحب ملهى وأوتيل الهلال)، وعبد الجليل الراوي، ومحمود جلال المحامي، ورفائيل بطي، وعبد المسيح وزير، وقدمت أم كلثوم مرة أخرى للغناء في بغداد عند تتويج الملك فيصل الثاني (بمناسبة عيد ميلاده 2 مايس/ أيار 1946) وسهر أهل بغداد إلى ساعة متأخرة من الليل، ولكن هذه المرة سمعوا أم كلثوم عن طريق الراديو.
وكان صوتها البشري الرائع والذي وهبها الله لها، هو البديل عن مكبرات الصوت آنذاك، كان زمن الأصوات القوية والرائعة، والتي تلاشت بعد ذلك عند ظهور الأجهزة الصوتية الحديثة.