رحيل المخرج ميلوش فورمان

رحيل المخرج ميلوش فورمان

ترجمة / أحمد الزبيدي
عندما سافر المخرج السينمائي الكبير ميلوش فورمان، الذي رحل مؤخراً عن عمر يناهز الـ 86 عاماً، إلى براغ لتصوير فيلم اماديوس في عام 1984، كانت هذه هي المرة الأولى التي تطأ بها قدماه أرض وطنه منذ 16 عاماً. فقد غادر تشيكوسلوفاكيا في عام 1968 قبل أن يضع الروس نهاية لربيع براغ.

عندما عُرض عليه إخراج فيلم"أحدهم طار فوق عشّ الوقواق"في عام (1975)، والذي تدور احداثه في مستشفى للأمراض العقلية، وجده يعبّر عن المجتمع الراكد والخاضع الذي هرب منه. واختار الممثل (جاك نيكلسون) ليؤدي دور باتريك ماكمفري، الشخصية الرئيسة في الفيلم والذي يتمرد على أوامر الممرضة راتشيد، ذات السلطة المرعبة وقامت بأداء دورها الممثلة لويز فليتشر. وفي النهاية يتم اجراء عملية جراحية في الدماغ لماكمفري بعد محاولته خنق الممرضة، تجعل منه شخصاً أبله في اشارة الى الطريقة التي تنتقم بها الأنظمة الشمولية من خصومها. وهو الأمر الذي يعرفه فورمان شخصياً، بعد أن عاش تحت وطأة النازية والستالينية.
وحقق الفيلم الذي بلغت تكلفته ثلاثة ملايين دولار، إيرادات فاقت الخمسين مليون دولار. في حينها كما كان الفيلم الأول منذ فيلم"حدث ذات ليلة"(1934) الذي يحصل على جوائز الأوسكار الخمس الأولى: أفضل فيلم وأفضل ممثل (نيكلسون) وأفضل ممثلة (فليتشر) وأفضل مخرج وأفضل سيناريو. كان انتصاراً كبيراً على وجه الخصوص للمخرج فورمان، الذي كان يكافح من أجل الحصول على عمل عندما عرض عليه فيلم"احدهم طار فوق عشّ الوقواق".
وُلد فورمان في بلدة كاسلاف القريبة من العاصمة براغ، وكان عمره ثمانية أعوام عندما توفي والداه، في معسكرات الاعتقال النازية.
في عام 1950، وكان عمره 18 عاماً، التحق بمدرسة براغ السينمائية التي كانت قد تأسست حديثاً، وبدأ في إخراج الأفلام الوثائقية للتلفزيون التشيكي بعد أربع سنوات. وفي عام 1963، صنع فورمان فيلمين قصيرين، شارك أحدهما في مسابقة لاكتشاف المواهب، وكشفا عن اهتمامه الشديد بتفاصيل السلوك البشري وتذوقه الاستهزاء بلطف وبشكل ممتع وبسيط.
كما كشف عن نظرته الحادة والساخرة في الفيلم الذي أخرجه عام 1965 بعنوان"الفتاة الشقراء التي تقع في الحب"ويتحدث عن فتاة تتصف شخصيتها بالرومانسية والخجل وتعيش في بلدة صغيرة وتعمل في أحد مصانعها، تقع في حب عازف بيانو شاب زائر، لكنه غير مرحّب به من قبل والديها فتلاحقه إلى براغ..
قدمت أفلام فورمان، وغيرها من موجة افلام السينما التشيكية الجديدة، حياة الطبقة العاملة بدون التأثر بصيغ الواقعية الاشتراكية. وعلى الرغم من مهاجمتها بشدة من قبل المتشددين الستالينيين في البداية، فإن الفصيل الأكثر ليبرالية في الحزب الشيوعي، تبنّى هذه الأفلام كتعبير عن المفهوم الجديد للفن"الاشتراكي".
في فيلمه"حفلة رجال الاطفاء"(1967). يسخر المخرج فورمان بشكل حاد من تصرفات ابناء مجتمعه، والفيلم يتحدث عن مسابقة للجمال، يتم فيها سرقة جوائز المسابقة، ويصاب أحد الاشخاص بنوبة قلبية، ويحترق أحد المنازل. وقد أدّى هذا الفيلم، الذي يتناول بعض جوانب البيروقراطية الادارية، إلى حدوث موجة استياء من المخرج بين الأوساط الحكومية، وتسبب في استقالة 40 ألف رجل إطفاء تشيكي احتجاجاً، إلى أن تم توضيح أن قصة الفيلم ليست سوى أحداث من الخيال بعد الغزو السوفييتي عام 1968، تم إدراج الفيلم كأحد الأفلام التشيكية الأربعة التي تم حظرها"للأبد". وكان آخر فيلم يخرجه فورمان في تشيكوسلوفاكيا، قبل مغادرته إلى الولايات المتحدة.
في عام 1971 أخرج فيلم Taking Off، الذي سلط به الضوء على حياة افراد من الطبقة المتوسطة الأميركية، ولكنه فشل تجارياً. في عام 1972، أخرج فيلم"ليتل بلاك بوك"، وهو عن مسرحية لصديقه جان كلود كاريير،. بعد ذلك، قامت دائرة الهجرة الأميركية، بناء على شكوى من نقابة المخرجين الأميركية، بمنعه تقريباً من العمل.
بعدها عرض عليه فيلم"أحدهم طار فوق عشّ الوقواق". وقال المخرج فورمان عنه."لقد أحببت الرواية التي كتبها كين كيسي منذ البداية، واعتقدت أنها ستصنع فيلماً رائعاً. أظهر لي ذلك أنه من المريح أكثر أن ينزلق المرء إلى حالة من الاكتئاب الحاد في أميركا على أن يفكر بالعودة إلى الوطن."
انتقل الفيلم بمهارة من الكوميديا الهادئة إلى المهزلة إلى المأساة، وأظهر بشكل مثالي موهبة فورمان الخاصة في التعامل مع الصراعات بين مجموعات مختلفة من البشر، كل واحد منهم ذو نيّة حسنة ولكنهم يتصادمون لأنّ أفكارهم وأساليبهم متناقضة.
أعجب فورمان بمسرحية"أماديوس". للكاتب بيتر شافر، بعد حضوره عرضها الأول في لندن عام 1979، وكانت تتحدث حول التنافس بين موزارت، وهو عبقري موسيقي لكنه مهرج صبياني، وأنطونيو ساليري، المؤلف الموسيقي الأقل موهبة، وأخبر فورمان الكاتب المسرحي، من خلال وكيله، أنه يريد تحويلها الى فيلم سينمائي. مع اقترابه الشديد من النص الأصلي، أصبح الفيلم مشهداً فخماً مدعوماً بموسيقى موزارت، ومكّن من الاستمتاع بالأعمال الفخمة والأصيلة لذلك الموسيقار. كما كان هناك أداء غير مرتبك ومضحك للممثل توم هولس الذي قام بدور البطولة، وموراي أبراهام الذي جسد شخصية ساليري الحاقدة. وحصل الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وأفضل ممثل (أبراهام) وأفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل صوت وأفضل تصميم ملابس وأفضل ماكياج.
عمل فورمان كأستاذ للسينما في جامعة كولومبيا، في نيويورك، في عام (2006)، أخرج فورمان فيلم"أشباح غويا"الذي يسرد حياة أشخاص عاشوا حقبة محاكم التفتيش الاسبانية، وتروي الاحداث بواسطة الرسام الشهير فرانشيسكو غويا، وتناول الفيلم مصالح رجال الدين الشخصية التي تختبئ خلف رداء الكهنوت، وتوظيف الدين لخدمة تلك المصالح، والظلم والصراع على السلطة.

عن"الغارديان"