بين العراق وبلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر.. صلات فكريّة ورسائل أدبيّة وتأثيرات مشتركة

بين العراق وبلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر.. صلات فكريّة ورسائل أدبيّة وتأثيرات مشتركة

د. سامي عبد مشعب
أسهمت جملة من العوامل الثقافية، وفي مرحلة مبكرة من القرن التاسع عشر، في بلورة النهضة الفكرية في بلاد الشام، مما جعلها تحوز على قصب السبق في التأثير على البلدان العربية المجاورة لها لاسيما العراق، في ميدان الفكر والثقافة. وأهم هذه العوامل، الطباعة والصحافة والرحلات والمراسلات، والجمعيات العلمية والمنتديات الأدبية، فضلاً عن البعثات التبشيرية التي ساهمت إلى حد كبير في نقل الكثير من مظاهر الثقافة الغربية.

وتعد المطبوعات والصحافة والرحلات والمراسلات، من أوسع القنوات التي رفدت النهضة الفكرية لمثقفي العراق في تلك المرحلة، فقد شكّلت المطبوعات الشامية أحد الروافد المؤثرة في نشاط المثقفين في العراق، وذلك لما تركته من أثر واضح في أوساطهم، لاسيما تلك المطبوعات التي تضمنت مؤلفات كبار النهضة الفكرية العربية في الشام، كمؤلفات ناصيف اليازجي وبطرس البستاني، وعبد الرحمن الكواكبي.
كما خطى الإنتاج الفكري العراقي خطوة واسعة، وذلك عندما بدأ مثقفو الشام يعيروه اهتماماً في أوساطهم المثقفة، ويتأكد ذلك من خلال الرسائل التي كان يتلقاها مثقفو العراق من نظرائهم الشاميين، يطلبون فيها نوادر الكتب والمخطوطات، مثل الرسالة التي بعثها أحمد حسن طبارة يطلب فيها من محمود شكري الآلوسي أن يزوّده ببعض مؤلفاته، فضلاً عن أن عدداً من المؤلفات العراقية أخذت طريقها للطبع في مطابع الشام.
وفي السياق نفسه فقد شكّلت الصحافة واحدة من أهم قنوات التأثير الشامي في الفكر والثقافة في العراق، حيث التقى المفكرون"والأدباء العرب على صفحاتها ومن أشهر هذه الصحف جريدة"نفير سوريا"ومجلة"الجنان"التي كان لها صدى طيّب لدى أوساط مثقفي العراق، ولكثرة قرّائها أصبح لها عدد من الوكلاء والمشتركين في بغداد والبصرة والموصل.
ومع مرور الأيام وتوالي وصول "المقتطف" بشكل شبه منتظم، استطاعت أن تحظى برضا واعجاب العديد من روّاد الحركة الفكرية، وهذا ما نستطيع أن نتلمسه من خلال الاطلاع على سير مؤلفات رجال الفكر والأدب في العراق، فعلى سبيل المثال، يقول الزهاوي (إن أول مجلة لذتني مطالعتها… مجلة"المقتطف"حيث أقرأ في المقتطف ما جد في العالم وما أتاه كبار علماء الغرب في الفلك وبناء الكون أو في الأشعة أو في الغدد السائبة إلى غير ذلك).
لم يكتف المثقفون في العراق بمطالعة المقتطف، بل شاركوا في نشر مقالاتهم وأبحاثهم فيها، منهم الزهاوي الذي نشر في عام 1896 مقالاً بعنوان"الخط الجديد"و"الحمام القلاب وتولده"عام 1909، كما قام انستاس ماري الكرملي بنشر مقالة تحت عنوان"الدقائق العربية"عام 1900.
كما حظيت"المشرق"باهتمام كبير في أوساط المثقفين العراقيين، ولاسيما الذين كانوا يشاركون بالكتابة فيها، ومنهم انستاس ماري الكرملي، الذي كان معجباً بالحضارة الأوروبية ومتأثراً بها، فقد وصل عدد المقالات التي نشرها فيها عام 1899 إلى سبع مقالات.
كما واصلت الصحف الشامية شق طريقها إلى العراق، ولاسيما في المرحلة التي تلت عام 1908، مثل مجلة"الصفاء اللبنانية"الصادرة في عام 1886، من قبل علي ناصر الدين، وقد أشارت الزوراء إلى وصفها بأنها"أثر جاد للعلوم العربية والصنائع المدنية"، كما يشار إلى أن بعض الأعلام البغداديين كانت لهم مراسلات مع محررها، فضلاً عن مقالاتهم التي أخذت طريقها إلى صفحاتها، ومنهم الكرملي، وصحيفة"المقتبس"التي صدرت بعد اعلان الدستور، وتعود أهميتها لصاحبها محمد كرد علي.
يتضح لنا مما تقدم أن الصحافة الشامية، قد نهضت بدور طليعي وتحديثي في تقويم الحياة الثقافية العربية، من خلال ايقاظ الأذهان وحمل الدعوات الفكرية والسياسية إلى الرأي العام، فغرست مفاهيم جديدة تمحورت نحو النزوع التحديثي، والأخذ بالفكر الإصلاحي الجديد.
كما توالت المراسلات الأدبيّة بين أدباء العراق ونظرائهم الشاميين، فشكّلت جزءاً مهماً في تنشيط العلاقات الثقافية وإدامة صلتها، وكانت من أبرز الأسباب في نمو الاتجاهات الاصلاحية التي شهدتها أوساط المثقفين في العراق حينذاك.
ومن هذه المراسلات التي جرت في تلك المرحلة، مع الأديب ناصيف اليازجي، إذ كانت من أهم المراسلات في إطار التأثير الفكري لبلاد الشام على العراق، بسبب المكانة التي كان يتمتع بها اليازجي، كونه أحد أقطاب الثقافة في تلك المرحلة، فقد برز اعجاب عبد الباقي العمري بمؤلفاته لاسيما كتابه (مجمع البحرين)، كما تكشف المراسلات وتقريض الشعر بينهما عمق الصلات القومية بينهما وعلى سبيل المثال، ما قاله العمري في نبذة من ديوان اليازجي:
وقفت على هذه النبذة
بها ناصيف جعفر كل فضل
تطول فاستطال على الجميع
كما أن مثقفي العراق كانوا يعرفون المكانة المرموقة التي يتمتع بها اليازجي في مجال الأدب والثقافة، وهذا ما نستطيع أن نتلمّسه من خلال المراسلات التي تمت في تلك المرحلة ومنها مراسلات حبيب البغدادي معه.
على الرغم من أن أكثر المراسلات كان يطغى عليها الطابع الأدبي، إلا أنه كانت هناك مراسلات تناول أصحابها فيها مختلف جوانب الحياة، مثل المراسلات التي جرت بين محمود شكري الآلوسي وكبار مثقفي الشام، إذ أخذت بعداً أعمق وأثراً أكبر بما تناولته تلك المراسلات للجوانب السياسية والدينية والثقافية، وغيرها من الأمور المهمة، من ذلك الرسائل التي تبادلها مع جمال الدين القاسمي (1865 – 1914)، في عام 1882، كان التطرق فيها إلى الوضع السياسي وانتشار التيارات الدخيلة على الإسلام واضحاً، فضلاً عن الرسائل التي تبادلها معه عام 1908، والتي يطلب فيها من الآلوسي الرد على أسئلة وردت له من اليابان.
كما جرت مراسلات بين محمود شكري الآلوسي وبين أحمد حسن طبارة عام 1899، إضافة إلى ذلك تأتي أهمية مراسلات محمود شكري الآلوسي مع الشيخ عبد الرزاق البيطار، أحد المصلحين الإسلاميين في الشام من خلال أبعادها الفكرية ومضامينها الاصلاحية التي شملت امتداد التيار الاصلاحي التجديدي في المشرق العربي، ففي إحدى الرسائل أشار البيطار إلى ذلك، قائلاً:"نسأله أن يدفع عنا كل بلية ونقمة، وأن يجعل من العصابة السلفية المحمدية المعتصمة بحبل البراهين الشريفة".
إن تلك الرسائل تقودنا إلى إدراك حالة التقاء الأفكار والتصورات التي تطرح المعاناة السياسية لنخبة من رواد النهضة الفكرية العربية، في الوقت الذي تؤشر لنا مدى الاستعداد لمقاومة الظلم والفساد حتى بأبسط الوسائل والأساليب التي بدأت بالطروحات الفكرية ثم تحولت فيما بعد إلى اتجاهات عبّرت عنها الجمعيات والنوادي والأحزاب.
إضافة إلى ما سبق ذكره، شكلت الرحلات قناة مهمة في نقل مظاهر الحركة الفكرية والثقافية في بلاد الشام إلى العراق، فقد نمت الرحلات والاتصالات المباشرة بين مثقفي العراق ونظرائهم الشاميين، وكانت أول تلك الرحلات رحلة أبي الثناء الآلوسي التي قام بها منذ مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى استانبول، وفي طريقه مر على بلاد الشام والتقى العديد من علمائها وأدبائها وتحاور معهم وأجاز بعضهم الآخر.
وفي المقابل شهدت بغداد زيارة عدد من رجال الفكر الشاميين من بينهم، سليمان البستاني (1856 – 1915)، المحرر في مجلة (الجنان) وصحيفتي (الجنة والجنينة) اللبنانيتين، حيث أقام فيها ثماني سنوات، مثلت وقتاً طويلاً ساعده في تحقيق علاقات مع مثقفيها، في فترة بدأت تزداد فيها الاتصالات الفكرية بين المثقفين العرب في مختلف المدن العربية، فأنجز تأليف كتابه (تاريخ العرب اليوم)، كما تقلّد في بغداد منصب عضو في المحكمة التجارية، وتتحدث رسالة بعثها محمود شكري الآلوسي إلى انستاس ماري الكرملي، عن مثقف سوري، هو مصطفى الأنطاكي، أقام في بغداد مدة من الزمن، أواخر القرن التاسع عشر، وكان على ما يبدو حلقة الوصل لتبادل الكتب والمؤلفات بين الشام والعراق.

عن رسالة (دور المثقفين في الحركة الوطنية في العراق في سنوات الانتداب)