عمّن نتكلّم؟  نتكلّم عن ميغيل دي أونامونو   (1864–1936)

عمّن نتكلّم؟ نتكلّم عن ميغيل دي أونامونو (1864–1936)

أحدُ أعلام الفكر الإسباني بين الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين وإن تعدّى أثره وفكره حدود الزمان تلك.
هو أحد أعضاء ما عرف بجيل 98، تلك المجموعة من المفكرين والأدباء الإسبان الذين هالهم، كما هال الإسبان جميعاً، أن تفقد إسبانيا هيبتها وتطرد على أيدي الأميركان من آخر مستعمراتها في كوبا والفلبين متعثرة في ثوب الخزي ومسربلة سربال الهوان،

منكّسة الرايات مهزومة في جيشها وكبريائها وكرامتها. كانت تلك هي «النكبة"عند الإسبان. فكان دور الثقافة والمثقفين آنذاك هو تشخيص الحالة ومعرفة الداء والبحث عن العلاج والدواء.
ولد في بلباو Bilbao المدينة الباسكيّة المهمّة. وتوفي في سالامنكا، المدينة القشتالية التاريخيّة. تعاطى شتّى فنون الكتابة: رواية وشعراً ومقالة ومسرحاً، وخاض غمار السياسة، فانتخب نائباً عن التجمع الجمهوري الاشتراكي، وكان هو من قرأ بيان إعلان الجمهورية الثانية في الرابع عشر من نيسان عام 1931 من على شرفة بناية البلدية في سالامنكا.

انتخب رئيساً مدى الحياة لجامعة سالامنكا العريقة حتّى أقيل من منصبه ذاك عام 1936 بأمر من فرانكو، الذي كانت قواته قد انطلقت إلى أرجاء البلاد لإسقاط مؤسسات الجمهورية ومطاردة رجالاتها ورموزها في ما عرف بالحرب الأهلية، التي بدأت في السابع عشر من تموز من عام 1936 وانتهت بعد ذلك الوقت بثلاث سنين.
تروى في هذا السياق المواجهة الكلامية والفكرية التي دارت في حرم جامعة سالامنكا في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1936، ذكرى اكتشاف أميركا، بين الحاكم العسكري في سالامنكا (الجنرال ميّان– أستراي) ورئيس الجامعة آنذاك (ميغيل دي أونامونو): فقد حمل العسكري على الثقافة والمثقفين وأنهى خطبته بهتافه الشهير: «الموت للمثقفين. يعيش الموت»، فردّ أونامونو بعبارته الشهيرة موجهاً كلامه للجنرال:"ستنتصرون لكنّكم لن تقنعوا أحداً".
عمّ يتكلّم؟
لن ننتظر بالطبع من كتاب عنوانه «ذكريات الطفولة والشباب"أن يحدثنا مؤلفه فيه عن تجارب ناضجة ولا عن خبرة مكتملة وهو لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره.
فعمّ يتكلّم أونامونو إذن؟
مثل أونامونو في هذه «الذكريات"مثل أيّ منّا وهو يتأمّل طفولته من شاهق عمره في الخمسين أو الستين أو السبعين. ليس ما سنقرأ استعراضاً لتجارب واستخلاصاً لدروس وعِبر، بل هو حكايات طفل صغير أو صبي غرير تنتهي بخلاصة صاغها هو نفسه وقد صار رجلاً ناضجاً ومفكراً متأمّلاً في هذه الحياة.
هو حديث عن بداية البدايات. عن أصول الأشياء. عن جذور الميول والأهواء.
وفي البدايات ترسم النهايات.
في الكتاب انطباعات أوّلية وصور مبكّرة عن تقاليد اجتماعية ونظم تعليميّة ومبادئ تربوية وتصرفات طفولية ونزعات قوميّة وروح وطنية. كلّها في شكلها الخام وصورتها المبكّرة الأولية.
هو يستمدها من خزين ذاكرته ويعرضها عرضاً شيّقاً قبل أن ينتقل إلى زمانه الذي هو فيه ليصوغ الدرس والرؤية صياغة الرجل المفكّر والأكاديمي المجرّب والإنسان الذي عرك الحياة وعركته. كثير من الطفولة ومن سيكولوجيتها ونشاطها وميولها وقليل من العظة والدرس، لأنّ أونامونو كما قال هو، لا يؤمن بالدروس التي تنزل من فوق، بل يؤمن بالدروس التي نتعلّمها على قارعة الطريق وفي وسط الزحمة. لذلك فالكتاب مهم. ولذلك فالعرض شيّق.
كم منّا يذكر ما كتب طه حسين عن نفسه في الجزأين الأخيرين من «الأيام»؟
وكم منّا يذكر ويردّد ما كتبه عن نفسه في الجزء الأول؟
ما علق في أذهاننا من «أيّام"طه حسين هو طفولته. بيته. قريته. الريف. الكتّاب. حفظ القرآن. أولى سفراته إلى القاهرة للدراسة في الأزهر. هذا هو ما يشوقنا. لأنّ هذا هو ما لا نعرفه عنه وما لم نسمع به من أحد. فهو وحده من يعرف تفاصيل طفولته ودقائق صباه وفتوته. وهو وحده من يستطيع أن يحدثنا به، لأنّه لم يكن آنذاك شيئاً مذكوراً.
أمّا حين صار «طه حسين». حين أصبح أستاذاً وعميداً ووزيراً، فما عدنا في حاجة إلى حديثه لنا عن نفسه، فقد انتقل إلى فضاء الشهرة والبروز وصار ضمن منطقة المعرفة العامة الشائعة المبذولة.
هذا هو الفرق بين مذكرات الطفل الذي لم يكن شيئاً مذكوراً والرجل الذي صار يملأ الدنيا ويشغل الناس. في مقدورنا أن نجد أونامونو الرجل في كل مكان. أمّا أونامونو الطفل فلا نجده إلاّ في ذاكرة أونامونو الرجل. لأنّ الطفولة والصبا والشباب كما قلنا، هي مراحل فيها من الحميمية والخصوصية ما لا نبلغه إلاّ بمعونةٍ ممن عاشها ولا نصل إليها إلا بتوجيهٍ ممن سار في دروبها.
دونكم أونامونو الرجل، الذي يتذكّر ويكتب عن أونامونو إبّان طفولته وصباه وشبابه.
أرجو أن يروق لكم.
–1–
لا أذكرُ ولادتي بالطبع، مع ذلك فالولادة، وهي حدثٌ مركزيّ في الماضي، كما هو الموتُ في المستقبل، تُعرف بالتوثيق وبالبديهة، وأيّ خيار لدينا، ونحن نعدمُ الخبر الموثّق والمباشر عن أهمّ فصل من فصول حياتنا، غير الركون إلى شهادة الآخرين؟ مع ذلك فإنّ لي في كلّ هذا سلوة وعزاءً، لأنّني أفترض، والحال هذه، أنّني لن أحظى مستقبلاً بأيّ خبر موثق ومباشر عن موتي.
لا أذكر ولادتي، لكنّي أعرف، بالرواية وبالأوراق الرسمية، أنني ولدتُ في بلباو في التاسع والعشرين من شهر أيلول من عام 1864.
توفي والدي عام 1870 ولمّا أتمّ السادسة. أكادُ لا أتذكره ولا أدري إن كانت الصورة التي أحتفظ بها له في ذهني هي من تأثير صوره التي كانت تشيع الحياة في جدران البيت. مع ذلك فأنا أذكرُ لحظة معينة تطفو فيها ذكراه المطموسة من بين ضباب سنوات عمري الماضية. كانت صالة البيت مكاناً يكاد يكون مقدساً، لا يدخله الأطفال متى شاؤوا وأرادوا: كنبة وكراسيّ وكرة من قطع صغيرة من المرايا يشاهد الناظر إليها نفسه فيها صغيراً كبير الرأس مضحكاً. تسللتُ ذات يوم إلى الصالة وكان أبي جالساً يتحدث بالفرنسيّة مع رجل فرنسي، وإنّي لأستنتج فعلَ اللغة وسحرها الذي تكشّف آنذاك أمامي من أنّني لا أذكر أبي إلّا في تلك اللحظة، وهو على كرسيه، مقابل (مسيو ليغورغ)، يحادثه بلغة غامضة أجهلها. فالرجال يستطيعون إذن التفاهم بطريقة أخرى مختلفة عن طريقتنا! كان سرّ اللغة يشدّ انتباهي وأنا دون السادسة؛ إنّه الميل إلى الأشياء والشغف بها!
تلك هي أقدم ذكرياتي العائليّة. أمّا ذكرياتي التاريخيّة فلم أتلقها عن طريق عائلتي بل عن طريق الفن.
في 1868، حين أتممتُ الرابعة، قامت ثورة أيلول، ولا أذكر عن صداها في بلباو شيئاً رأيتُه أو سمعتُ به. ولكن لم يمضِ على وقوع الثورة وقت طويل حتّى أتوا إلى مدينتي بمعرض لتماثيل معمولة من الشمع تصوّر إعدام إمبراطور المكسيك (مكسمليانو) واثنين من جنرالاته: (ميرامون) و(ميخيّا)، قبل ذلك التاريخ بعام واحد. استرعت مخيلتي، بأدنى قدر من الفن وأعلى درجة من الطفولة، مأساة (كيريتارو) التي صوّرتها تماثيل الشمع تلك، وما زلتُ أتخيّل مشهد الإمبراطور البائس جاثياً بلحيته الطويلة وعينيه المعصوبتين. تذكرته مرات عديدة وأنا أقرأ قصيدة (كاردوتشي) «ميرامار»، التي أحفظها عن ظهر قلب والتي ترجمتها شعراً إلى القشتاليّة.
لكنّ ذكرياتي الحقيقيّة تبدأ في المدرسة، وهي حالُ أيّ طفل ولد في المدينة ونشأ بين شوارعها.
–2–
لم تكن المدرسة التي أخذوني إليها قد تخلّت بعدُ عن الرداء المدرسي الطويل. كانت واحدة من أشهر مدارس المدينة، ولا بدّ من تمييزها عن سواها من مدارس التعليم المجاني، وهي حال عموم مدارس المدينة، إلى حيث يذهب صبيان الشوارع، الذين يهربون من قاعات الدرس ليسبحوا في قناة (لوس كانيوس)، والذين كانوا ينبزوننا بـ «أبناء المدينة» وينادون والديهم بـ «أبي» و«أمي»، وليس كما اعتدنا نحن مناداتهما بـ"بابا"و"ماما".
كان من علّمني الحروفَ الأولى هو رجل عجوز تضوعُ منه رائحة البخور والكافور. تغطي رأسه برنيطة تتدلّى منها كرةٌ من الصوف يضعها على أحد جانبي رأسه. كان عظيم الأنف، يرتدي سترة طويلة لها جيبان كبيران – بحجم جيوب أصحاب السلطة–، ويحشو أذنيه بقطعة من القطن، ويحمل قصبة طويلة أورثته لقب «مربي الديوك الرومية». أمّا الديوكُ الرومية فكنّاها نحن بالطبع، ويا لنا من ديوك!
لذلك المعلّم الأوّل ساعة عدالة، يحين وقتها فينطلق هو ليوزّع علينا الضربَ توزيعاً وينثره فوقنا نثراً، فينزل وابل قصبته منّا وعلينا منزلة البركة. كان يحتفظ بمجموعة قصبه اليابس المدبوغ والمقشور في ركن صغير من أركان حجرة مظلمة لا يعرف النورُ له طريقاً فيها. حتّى إذا استبدّ به الغضبُ وفاض بصبره الكيل أغمض عينيه حرصاً على العدالة وانطلق يوزّع علينا الضرب، قصبة هنا وأخرى هناك، إلى الأمام وإلى اليمين وإلى اليسار، لتصيب القصبة من تصيب ولتقع على من تقع، ثمّ ليحلّ السلام مع الجميع ويستتبّ الأمن في الربوع. وما كان أشبه ذلك الحدث بالحفلة، إذ يسارع الجميع إلى الانبطاح والاختباء تحت المصطبات طلباً لملاذ يعصمه من وابل الضرب.
ذلك هو ما كان يحدث حين يكون الحسابُ جماعيّاً والعقاب شاملاً؛ أمّا إذا كان العقاب فرديّاً، مدفوعاً بخطأ جسيم وخطيئة فادحة، فأداته أسلة من أسل الهند، عصا غليظة وليست مجوفة كالقصبة، تئزّ أزّاً وهي تنفض الغبار عن بدن الآثم الجاني.
ويا للرهبة التي تخيّم على مسرح تنفيذ الحكم حين تكون العقوبة علنيّة!
ما أنسى لا أنسى ما وقع للفتى نون. حضرتْ أمّهُ ذاتَ صباح، وشكتْ للمُعلم، بين تأوّهٍ وألم، أنّ ابنها معجونٌ بماء الشياطين: فلا صلاحَ يرتجى منه ولا تقويم يؤمّل فيه، فكلّ شيء يثيره، يستبدُّ به الغضبُ ويضربُ الخادمة، حتّى إنّها، وهي أمّهُ، ملّتْ معاقبته بالنوم من دون عشاء، فما عاد ذلك يردعه، بل لقد وصل به الأمر في الليلة البارحة أنّه ضربها بالصحن! ضرب أمّه... والدته. ومع أنّني لا أذكرُ شيئاً ممّا سأورده، فأنا أظنّ أنّ في مقدوري أن أضيفَ أنّها قالت إنّ الأبَ صفرٌ على الشمال، لأنّه ينفي عن نفسه كلّ مسؤولية عن تربية الصبي، فحسبه أن يذهب إلى عمله، ثمّ إنّه لا يحسن التربية ويرى في كلّ ما يفعله ولده صحيحاً، بل لقد اصطفّ إلى جنبه غير مرّة وأعطاه الحق. أكررُ أنّني لا أذكرُ أني سمعتُ هذا، بل هي إضافة منّي، إذ لا ضير في أن نرخّص للمؤرخ أن يستعين بافتراضات مشروعة، مبنيّة على قوانين احتمال الحدوث، ليملأ بها الفراغات التي قد يصادفها أثناء سرده التاريخي.
ولا شكّ أنّ كلام الأم انتهى بما يشبه قولنا: «لا أدري، لا أدري أين سينتهي بنا الأمر، لكنّي على يقين من أنّه لن ينتهي بنا إلى ما يسرّ... ولئن لم يقوّم اعوجاجُ هذا الفتى، فمصيرُه أدهى وأمرّ». قالت هذا الكلام أمام الصبي وفي حضوره قاصدة أن يسمع ما تقول، بينما راح هو ينظر إلى الأرض ويداه في جيبيه لتكونا في حرزٍ من البرد وحفظٍ من الضرب.
وانبرى المعلّم للتأديب.
أذكرُ ما حدثَ وكأنّه حدث صباحَ أمس. أنهى المعلمُ الدرسَ قبلَ موعده بقليل، وأقمنا الصلاة الوردية بورع ظاهر، لأننا خمّنّا حدوث احتفالية غير مألوفة بعدها. وسرعان ما وجدنا أنفسنا في قاعة صغار التلاميذ، جالسين على مصاطب طويلة. جلسَ المُعلمُ تحت كريّات نُظمتْ في أسلاك لتعليم الحساب. خيّم الصمتُ على المكان، فما عاد يسمع فيه طنين ذبابة. ونادى المُعلمُ على المجرم فحبسنا أنفاسنا. تقدّم نون متجهماً واجتاز سهام نظراتنا المصوّبة إليه من دون أن يذرف دمعة واحدة. نطق المعلم، ولا أقول «قال»، بكلمات مسّت قلوبنا، لأنّ الكلمات في مثل هذه اللحظات الدقيقة من حياة البشر والشعوب تنطق ولا تقال. فماذا بدر من الجاني؟ لقد قصّر في حقّ أمّه! لم يحسن إلى والدته! بل لقد رماها بالصحن! بكى بعضهم وفي حلقه غصّة، ومنعت الغصّة آخرين من البكاء. أمره أوّلاً بالانحناء، ثمّ بوضع رأسه في حجره، في حجر المعلم؛ وطلب أن يؤتى له بنعل من تلك التي يلبسها الفلاحون، نعل من الخيش والقنّب، وأمرنا بأن نضرب نوناً بالنعل على مؤخرته، الواحد بعد الآخر. تتابع الجلادون لتنفيذ الأمر. كان ضرب بعضنا خفيفاً هيّناً، برداً وسلاماً! فيه ضحك وهزل؛ لكن ثمّة من أبدى من القسوة ما يبديه مجندون أمروا بإعدام زميل لهم رمياً بالرصاص. مع ذلك فقد كان معظمنا يرى أنّ المعاقب، وهو في نهاية الأمر واحد منّا، يستحقّ الرأفة، على الرغم من إقرارنا بأنّ الجناية كريهة مذمومة. زاغ أحدهم معتذراً بقضاء حاجة لا تقبل التأجيل، ليتجنّب تنفيذ الحكم في حق صديقه، واتخذ من المرحاض ملاذاً ومأوى. أمّا التلميذ سين فقد ضرب نوناً وهو يزمّ فمه ضرب من يشفي غليلاً أو يأخذ بثأر، فأثار بفعله غضبنا، إذ رأينا في ما فعل انتقاماً رخيصاً، لأنّ من المعيب الشائن أن يتحول العقاب إلى انتقام. وخمّنّا أنّ نوناً أضمر شرّاً وهو ينظر من بين ساقيه إلى الآخر: ستقع ذات مرّة بين يدي! وهكذا كان، إذ دفع المنتقم ثمن فعلته غالياً في وقت لاحق، فما من موعد إلّا يأزف وما من دين إلّا يستحق. حين رفع المعاقب وجهه، وقد احمرّ من طول ما مكث حيث مكث، هتف المعلّم متألّماً: أترون؟ ما من أثر لدمع! ما من علامة لحزن! إنّه ولد مجبول من حجر. وانصرف نون كما وصل بعينين ناشفتين.
لا شكّ في أنّ العقاب الذي يسعى إلى أن يكون عبرة ودرساً وأمثولة هو الأقل مردوداً من حيث العبرة والدرس والأمثولة، لأنّ فيه الكثير من المسرح.
كانت المدرسة، وهي بيتٌ كبيرٌ عتيقٌ هدم ليقام على أرضه بيت جديد، تقع عند نهاية درجٍ قديم يؤدي إلى باحة صغيرة؛ درج تآكلت بسطاته وفتكت الأرضة بخشبه، أمّا دربزينه اللمّاع العريض فقد اسودّ من كثرة ما مرّت عليه الأيدي والسيقان. كم كان ممتعاً النزول من على الدرج، لا سيراً عليه درجةً درجة، بل ركوباً على دربزينه وانزلاقاً من فوقه من دون أن تمسّ أقدامنا الأرض!
كانت تلك المدرسة عليّة كبيرة، لها منافذها إلى السطح وغرفة واسعة ينهض في وسطها مستوقد على شكل عمود مربّع، ولها جرسها الذي يتدلى مشدوداً بحبل رقيق يشدّهُ العمال والخدم تارة لدعوتنا ونشدّه نحن تارة أخرى لنقطعه.
هناك تعلّمنا أشياء كثيرة، كثيرة جدّاً... من بينها آداب السلوك. فلا بدّ عند الدخول من التوقف أوّلاً في الباب ثم الإمساك بحافتيه قبل إلقاء التحيّة: «صباح الخير. كيفَ حالُ حضرتكَ؟». نقول هذا مرتلين ومنشدين ومشددين كثيراً على نهايات الكلمات، ثمّ نقف بانتظار الردّ: «بخير. وَحضرَتكَ؟»، فنردّ نحن: «بخير لخدمة حضرتك!». عندها يمكننا الدخول. لقد تطوّرت هذه التحية التقليدية شيئاً فشيئاً، كما هي حال كلّ الطقوس وحال كلّ شيء، إلى أن أصبحت شريطاً سريعاً وقويّاً لا يسمع منه إلّا حروف مقطّعة: وَرَتكَ، وَرَتكَ، وَرَتكَ!
كانت ثمة أيام للزيارات: يخرج عريفُ الصفّ ونظلّ نحن ننتظره. يأخذ قبعة من الخارج ثم يعود. يدقّ على الباب فيذهب المعلّم ليفتح له، وما أن يدخل بهيئة الضيف الزائر، حاملاً قبعته في يده، حتى ننهض جميعاً ونبادره بالتحية في جوقة وبصوت واحد. يدعونا للجلوس بإشارة من يده ويواصل الزيارة بوقار يثير الإعجاب.
أمّا حين تكون الزيارة حقيقيّة، حين يأتي ضيف حقيقي لزيارة المدرسة، فإنّ المعلّم ينادي على (بيثنته)، وهو واحد من تلامذته المفضلين، ويعرضه كما تُعرض الحشرة الغريبة. كان (بيثنته) هذا يشرب عصير الصّبار، ظاهرة غريبة نادرة، وحالة تثير الإعجاب! لم تكن تلك النادرة الوحيدة التي تروى عن (بيثنته)، فقد انخلعت ذراعه من منطقة الكتف ثلاث أو أربع مرات وكأنّ شيئاً لم يكن. لا أدري ما العلاقة بين شغفه بعصير الصبار وقابلية كتفه على الخلع. لا بدّ من علاقة.
ومع انتهاء الدرس تنحلّ عرى النظام، فينقلبُ صخباً يحلّق بين غبار العلّيّة. تستردّ الأصوات حريتها وترتفع سحابة الغبار. كنا نصرخ حتى تبحّ أصواتنا، ونفاجئ العجوز المسكين وقد تخلّى عن عصاه؛ يتسلّق أحد الصغار عليه، يبحث في جيوبه عن حبات من الكافور أو الحلوى، ويختبئ آخرون تحت سترته السوداء الواسعة وهم ينشدون: «دون إيخينيو... يا حامي... الأنفس... التي تلوذ... بحبّك الأبوي». فينقلب المسكينُ عنقوداً يتدلى منه الفتية الصغار النضرون الذين يتدفقون حيوية بينما يستحمّ هو بأريج الطفولة. علمنا الجهات الأربع وعلّمنا كيف نحددُ مكاننا في العالم: «من أين تشرق الشمس؟»، فنردّ نحن: «من هناك»؛ ثمّ يضع تلك الجهة على يميننا ونيمّم وجوهنا شطر جهة الشمال، ثمّ نهتف، ونحن نؤشر بأذرعنا: «شمال!، جنوب!، شرق!، غرب!». كان هو من أجرى من عينيّ أولى دموع الفن؛ فقد حطّم بيده يديّ وأنا أرسم تلك الخطوط التي أنتجت هذه الحروف؛ لقد تفتّحت عيناي على الناس وعلى الحياة في تلك المدرسة.
رجل عجوزٌ خرف، يعيش في قرية زوجته الأخيرة، وقد أتى من محافظة نائية، زاره أحد تلامذته القدماء قبيل وفاته، فعرفه العجوز وتعرّف عليه، على كثرة من مرّ منهم من تحت عصاه! وضع يده على رأسه كما كان يفعل آباء الكتاب المقدس الأولون، وربّما تذكّر صورة من صور كتب القراءة، ثمّ قبّله، بحث في جيبه عن قطعة حلوى وبكى، بكى المسكين وهو يتذكّر تلك العلّيّة الواسعة المغبرّة التي تعجّ بالأطفال وتضجّ بصراخهم. العلّيّة التي طالما خفّف ثقلُ الصبيان فيها، وهم يتعلّقون بركبتيه ويطلبون حمى سترته، من وطأة سنوات عمره. لقد مرّ نصف سكان بلباو في طفولتهم من تحت عصا دون (إيخينيو)، وإن لم يرزقه الربّ بولد من أيّة واحدة من نسائه. فبوركت ذكراه!

عن كتاب من ذاكرة الطفولة والشباب
لاونامونو