من صور التدخل الحكومي في انتخابات العهد الملكي

من صور التدخل الحكومي في انتخابات العهد الملكي

د. عادل تقي عبد البلداوي
تدخلت السلطة في الانتخابات النيابية ونتائجها في العهد الملكي بالعديد من المرات، ولتوضيح هذه الحقيقة، ننقل ثلاث شهادات موثّقة بخصوص تدخل الحكومة وتزويرها للانتخابات، الشهادة الأولى لمرشح حزب"الأمة الاشتراكي"الدكتور نوري جعفر الذي كان مرشحاً عن المنطقة الانتخابية الرابعة"القرنة"في البصرة.

فقد رفع نوري جعفر مذكرة مطوّلة الى رئاسة مجلس النواب بتاريخ 15 تموز عام 1954، كان عنوان المذكرة صريحاً وواضحاً"وقائع تزوير انتخاب النواب في القرنة لمصلحة السيدين حميد الحمود واحمد النقيب". وقد تكونت المذكرة من 123 صفحة، بيّن فيها جعفر طريقة انتخاب النواب، اذ قال بهذا الخصوص ما نصه:"المعروف من الناحية النظرية، أن النواب في العراق ينتخبون انتخاباً من قبل الشعب، لا أن يتعينوا تعييناً من قبل الحكومة.. غير أن تصرفات الحكومة بقدر ما يتعلق الأمر بحكومة القرنة، قد خالفت مبدأ انتخاب نائبي تلك المنطقة من قبل ابناء المنطقة الانتخابية نفسها ولجأت الى تعيينهما، ولكن ذلك التعيين لم يتم بالطرق المألوفة كما يتم تعيين الموظفين، بل جرى بواسطة تزوير الانتخابات لصالحهما... إن هذا الاسلوب في تعيين النواب يزيد من تذمر الشعب المتذمر كما يجعل النواب المعينين أنفسهم غير مكترثين بمصالحه ومشكلاته فيزداد تذمره". لم يكتف نوري جعفر بذلك، بل وجّه نقداً لاذعاً للسلطة الحاكمة آنذاك عندما قال في مذكرته هذا الكلام:"والغريب في الأمر أن الحكومة التي تعاقب بعض افراد الشعب لقيامهم بعمليات تزوير تافهة أو خيانة بسيطة للأمانة والشرف تسمح لنفسها أن تقوم بعملية تزوير على نطاق كبير، وبشكل وفي قضية من أخطر قضايا الحكم في البلاد... وبهذه الطريقة تفقد الحكومة هيبتها وتجعل الناس لايثقون بأقوالها وافعالها لا في الانتخاب فحسب، بل في سياستها العامة من الناحيتين الداخلية والخارجية. هذا بالاضافة الى أن طبيعة العمل الحكومي الآنف الذكر، تجر وراءها كثيراً من الحزازات والعداوات بين ابناء الأمة الواحدة والبلد الواحد بل والعائلة الواحدة".
اما الشهادة الثانية، فهي للمرشح الفائز نجيب الصائغ الذي فاز عن منطقة الموصل. فقد روى لنا ذكرياته عن انتخابات عام 1954 بهذا الشكل:"وبينما كنت اتجول في القرى اتصل بي بعض الناخبين واخبروني بأن الموظفين الاداريين طلبوا منهم عدم انتخاب مرشحي الجبهة الوطنية، وانتخاب مرشحي الحكومة وهما توفيق السمعاني ومتي سرسم، وإن الحكومة لاتعارض في انتخاب نجيب الصائغ، لأنها اعتبرت عدم انتمائي للجبهة الوطنية وعدم استنادي في الترشيح الى مبادئها موقفاً ينسجم مع اتجاهها ضد الجبهة الوطنية. ولما كان هذا التصرف من السلطة بعدم المعارضة في انتخابي يعطي معنى أني اصبحت مرشحاً حكومياً، وهذا يسيء الى سمعتي ومواقفي الوطنية". في حين كانت الشهادة الثالثة لرجل مستقل، لم تكن له علاقة بالانتخابات من قريب ولا من بعيد، لكنه كان قريباً من البلاط الملكي بحكم وظيفته. لنقرأً معاً ما قاله هذا الرجل:"ومن الصور التي احتفظ بها حول انتخابات أرشد العمري هذه الصورة: ففي صباح احد الايام وقبل اجراء الانتخابات بأيام، جاء المرحوم الأستاذ جميل عبد الوهاب لمقابلة الوصي، فلما ادخلته الى غرفة الوصي، عدت الى غرفتي ولكني وقفت في الباب القريب من باب غرفة الوصي، فإذا أنا اسمع الأستاذ جميل يقول بصوت عال: سيدي أبوس ايديك، سيدي هاي أريدها منك، ولما سمعت هذا الكلام رحت أرهف السمع اكثر فإذا هو يقول: سيدي الخاطر الله، ارجوك ترفع نظرك عنه، لأنه إذا سقط بالانتخابات (شراح نكول) للباشا وهو الآن مريض في باريس؟ سيدي هل تقبل أن نقول للناس إن (سكرتير حزب الباشا) فشل بالانتخابات؟! وهكذا راح يتوسل والوصي لايرد، وبقي كذلك الى أن سمعت الوصي يقول : طيب الخاطر الباشا راح أسهل أمره... وفهمت طبعاً أنه يقصد بذلك الأستاذ خليل كنة، الذي كان مرشحاً عن الفلوجة آنذاك". وعلى الرغم من هذه الشهادات الموثّقة التي أشارت الى تدخل السلطة الحاكمة آنذاك بشكل واضح في الانتخابات، إلاّ أن احمد مختار بابان قد أكد في مذكّراته، أن ما حصل لم يكن"تدخلاً حكومياً"، بل كان"توجيهاً حكومياً"، وهو توجيه كانت تلجأ إليه السلطة الحاكمة اضطراراً. لنتابع ماذا قال بابان بهذا الخصوص"في الحقيقة أن بحث الديمقراطية عموماً والانتخابات خصوصاً موضوع دقيق، نحن لا نستطيع أن نقول إن حرية الانتخابات كانت متوفرة... إن العراق لم يكن متعوداً على الحياة الديمقراطية.. كانت الانتخابات تجري على درجتين... كان الناخبون يختارون عدداً من الاشخاص يعرفون بمنتخبين ثانويين كانوا هم يقومون في المرحلة الثانية بانتخاب اعضاء مجلس النواب، فالمداخلات بهذه الطريقة كانت أسهل. ولكن علينا أن لا ننسى أيضاً أن قسماً كبيراً من الشعب العراقي كان يومذاك من أبناء عشائر عريقة وقديمة، وكان رؤساؤها يتقربون للملك فيصل باستمرار، وكانوا يحترمونه، وكان أمراً طبيعياً أن يكون النائب الذي ينتخب في منطقتهم واحداً منهم، وكان الملك فيصل متفهماً لهذا الأمر، فلا يستطيع القول لأن الحكومة كانت تتدخل، إن رجال العشائر والقبائل كانوا يطلبون بأنفسهم أن تكون الانتخابات في مناطقهم على هذه الشاكلة، وذلك تفادياً لحدوث أي شغب محتمل، فكانوا على اتصال دائم مع البلاط، والحكومة كانت تختار شخصاً منهم، ولكنها كانت تتبع طريقة المناوبة في ذلك، ولاسيما في حالات الخلاف والفرص المتساوية، إما اذا كان الجميع متفقين على زعامة واحدة، مثل أمير ربيعة الذي لم ينازعه أحد، فإن الحكومة تدخلت أو لم تتدخل كان أمثالهم يكونون نواباً بطبيعة الحال... لذا أنا لا اعتقد أن الحكومة كانت تتدخل في الانتخابات... كانت تحدث بعض المداخلات، ولكن أكرر وأقول لا نستطيع أن نسميها مداخلات بالمعنى الحقيقي المفهوم، لأن المداخلات يجب أن يكون فيها أساليب أخرى مثل استعمال القوة، أو التهديد باستخدامها، أو اللجوء إلى اغراءات مادية أو ما اشبه ذلك من أمور لم تشهدها الانتخابات البرلمانية سواء في عهد الملك فيصل الأول أو بعده...
ما كان يحدث هو أقرب الى التوجيه... لو تركت الانتخابات بدون توجيه، فإن طبقة الشيوخ والأميين كانوا يسيطرون على المجلس ويقل فيه عدد المثقفين، فنية الحكومة كانت حسنة في التوجيه... كان المعارضون يعدون هذا العمل تدخلاً حكومياً وكانوا يسمون المجالس بالمجالس المزيفة". وفي الواقع، مهما حاول احمد مختار بابان، أن يسوّغ تدخل الحكومة في الانتخابات، كان واقع الحال يشير بوضوح الى حدوث تزوير في الانتخابات حتى اصبح هذا التزوير سمة أساسية ملازمة لجميع الوزارات العراقية المتعاقبة خلال الحكم الملكي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، اذن لماذا كانت تجري الانتخابات، وتصرف الأموال الطائلة عليها، ويشغل الشعب بها، وهو بالأساس لا ناقة له فيها ولا جمل، لأن ما يقرره في هذه الانتخابات، يتم تزويره من قبل الحكومة؟ عن هذا السؤال يجيب نوري جعفر بكل صراحة ووضوح:"يلوح لي أن الحكومة العراقية قد سلمت مرغمة بحق الشعب في انتخاب نوابه من الناحية النظرية التشريعية غير أنها تحاول من الناحية النظرية،’تماشياً مع ذهنيتها في اساليب الحكم، أن تسلب الشعب ذلك الحق، أي أنها بعبارة أخرى، تأخذ باليسار من الناحية العملية ما تتظاهر بإعطائه باليمين من الناحية التشريعية الدستورية، وهي بهذه الطريقة تشوّه مفاهيم الحكم السليم وتمسخ جوهر النظام البرلماني فتجعل"النواب"مسؤولين تجاهها ومتعاونين معها في إذلال الشعب والاستهانة بكرامته، فتفلت الحكومة من المراقبة البرلمانية (والشعبية) وتتنصل من المسؤولية ويكثر الجموح في تصرفاتها. وهنا تكمن مواطن الخطر ومعاقل القلق السياسي وعدم الاستقرار. إننا نخشى من أن تؤدي هذه التصرفات غير الحكيمة، كما سلف أن ذكرنا، الى تمرد الشعب أو بعضه على النظام وقيامه بأعمال ربما لاتكون نتائجها في مصلحة الحكومة أو في مصلحته في الأمد البعيد".