طرائف من ذكرياتي النيابيّة

طرائف من ذكرياتي النيابيّة

خيري الدين العمري
سارت الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 وإلى سنة 1930 في سياقات تنفيذ الانتخابات النيابية على طريق الترشيح الفردي دون اللجوء إلى اتباع نظام القائمة. وكان من المتعارف عليه في هذا العقد من الزمان فوز مرشحي الحكومة على الاطلاق، كون الأكثرية الساحقة كانت طوع أمر الموظفين الإداريين ولم يأت ذلك بالإكراه أو بالشدة... بل بحكم طبيعة الانقياد.

وأما سكان المدن، المتوغلون في معرفة أمور الانتخابات وطرقها فيشكلون أقلية ضئيلة، بسبب أن من يتحدى الحكومة (ومرشحيها) في الانتخابات لابد وأن يحصد الخذلان، حتى أنني لما دخلتُ انتخابات سنة 1930 حاملاً شعار رفض المعاهدة، ومعارضاً الحكومة، كنتُ قد أحرزتُ المرتبة الأولى في انتخابات قضاء الموصل، فضلاً عن أصوات لا بأس بها من بعض الأقضية، لكني لم أغدو نائباً (في النتيجة) لأن هناك (ثمانية أقضية) غير قضاء الموصل، يحصل فيها من يضع الأوراق (الانتخابية) في صناديق الاقتراع حسبما تريده الحكومة ويتطلبه الحال والواقع...
وقد قال لي مرة (نوري السعيد) سنة 1930، وكان يومها رئيساً للوزارة، أنهم بصدد إجراء تعديلات في قانون الانتخابات.. فقلتُ له : أي قانون من القانونين؟! فقال بصفة المندهش: أي قانونين؟!... فأجبته القانون الأول قانون الانتخاب المكتوب، الذي لا حكم له إلاّ تسجيل (خلاف الواقع)... أما القانون الثاني فهو قانون الترشيح (غير المكتوب)... فضحك الباشا.. وقال : لا... لا... القانون الأول.. الأول...!! وتقريراً للواقع، نقول إن الوزارات كانت قد سارت في موضوع الانتخابات على وفق أسلوب واحد وهو الترشيح وضمان انتخاب المرشحين، غير أنه كان هناك بعض الشذوذ في الطرائق، كان لها أثر شديد في إذلال الحياة النيابية وجعلها عالة على البلاد.
فالضربة الأولى جاءت على يد نوري السعيد في وزارته الأولى سنة 1930.
وتفاصيلها كما يأتي: كانت الانتخابات سنة 1930 قد تقدمت وكادت أن تنتهي. وكنتُ عضواً في الهيئة التفتيشية ومنتخباً ثانوياً ومرشحاً للنيابة. وكان تحسين علي متصرفاً في الموصل، فذهب إلى بغداد لتلقي (الوحي النهائي) عن أسماء المرشحين. ولما عاد زرته في مكتبه الرسمي. وبعد السلام والسؤال أخرج من جيبه المفكرة السنوية الخاصة به وفتحها وقال: انظر هذه أسماء مرشحي الحكومة، ثم أن إسمك على رأس القائمة. فلما نظرتُ القائمة رأيتُ إسمي وشهرتي على رأس الأسماء، فقلتُ: نشكرهم ونشكركم، فقال: ولكن هناك شرط...!! فقلتُ: وما هو؟! قال: أن تعطي تعهداً خطياً بقبولك المعاهدة، ثم بدخولك حزب الحكومة وهو حزب العهد. فوجمتُ... ثم أردفتُ قائلاً : ولمَ كل هذا؟ قال: هذا هو أمر رئيس الوزراء. قلتُ : ولكنني رشحتُ للنيابة مرتين، وكانت هناك أمور جسام، وكان هناك رئيس، وكان هناك وزراء... وأحدهم هو نفسه نوري السعيد، لكنني لم أُكلّف بمثل هذا التكليف المهين فقد اعتمدوا على شرفنا وقولنا... حتى أنني قد بقيتُ نائباً مستقلاً أكثر من شهر ولم أدخل حزب التقدم إلاّ بعد أن طلب إليّ المرحوم عبد المحسن السعدون الاشتراك في حزبه، فاشتركتُ في حزب التقدم لقناعتي بإخلاص زعيم الحزب وإصابة أهدافه. والآن أرى نفسي أمام شيء جديد تَعافُه النفس الأبية، وإني لستُ مستعداً لقبول هذا الشرط المخطوط، لأن بهذا التعهد المخطوط يراد من المرشح أن يشتري كرسي النيابة بصك يدلّ على الذلّ والمسكنة... فأيّ خير في مثل هذا النائب المملوك...؟!
فالحكومة تريد أن تستند إلى المجلس وتبرم المواثيق والأحلاف مع الدول الأجنبية، لذا كان عليها أن تكون قوية بمجلسها النيابي..
ثم كان عليّ أن أودع المتصرف وأخرج... وكانت نتيجة هذه المكالمة بطبيعة الحال أن الحكومة أخرجت إسمي من بين مرشحيها، ولابد أنها وجدت من يعطي مثل هذه الصكوك...
ولأن الحكومة أرادت التشدّد في هذا الموضوع وعدم التسامح بأن يكون النصر القاطع لغير مرشحيها، فقد وجهتْ الإنذار إلى الموظفين المهدّدين بقطع الأرزاق وسوء المصير. وكان أن حصل في فترة قبل الانتخاب الثاني أن أذاعت الحكومة بشتى الوسائل أن (ذيلاً) لقانون انضباط موظفي الدولة سيصدر قريباً وفيه يحق فصل الموظف بقرار من مجلس الوزراء.
وأُفهم الموظفون من طرف خفي بأن سيرهم أثناء الانتخابات سيكون له أثر في مصاير وظائفهم. وقد حكى لي أحد أصدقائي أن (آمره) حضر إلى مقره الرسمي لإفهامه (بالذات) أسماء مرشحي الحكومة. وكان أن رأى الآمر أحد أولاد الموظف المذكور كان متواجداً في الدائرة حينذاك. فأشار إليه الآمر أن يتقدم نحوه، فلما فعل الطفل قال الآمر وهو يقدم نصائحه الى الوالد : أرجوك فكّر في مستقبل هذا الطفل فيما إذا خالفتَ أوامر الحكومة…!! في الحقيقة كان هذا إسفافاً ما بعده إسفاف… وسخافة تصل بالآمر إلى درك أسفل من التفاهة!.
ومن طريف ما ذكره السائح العراقي يونس بحري، في جريدة العُقاب عن موضوع الصحافة والترشيح للانتخابات النيابية، قال البحري ساخراً من كلا الصحفيين السمعاني وبطي، وتحت عنوان شارع الصحافة ايام زمان... الكراسي لا تنتزع العقائد..! كانت جريدة العقاب التي أسسها ورأس تحريرها السائح العراقي يونس بحري، لا تألو جهداً في توجيه النقد اللاذع للسياسيين كما للصحفيين، فضلاً عن الكتّاب والشعراء والعاملين في الحقول العامة الاجتماعية والاعلامية، وحسبما تتطلبه ظروف الصراع السياسي والصحفي للساحة العراقية يومذاك.ففي العدد الثالث الصادر في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1933 نشر البحري انتقاداً في جريدته إلى بعض الصحافيين من زملاء المهنة قال فيه: (السمعاني وبطي) من بلدة واحدة، ويشتغلان في حرفة واحدة وهما من لحم ودم واحد، إلا انهما مع ذلك يختلفان في الرأي والمبدأ... وفضلاً عن ذلك فهما يختلفان عن بعضهما في الطول والعرض.
فالسمعاني (عهدي) إلى قلامة ظفره، وبطي (إخائي) إلى قمة رأسه ولأجل ذلك يقوم كل منهما والدعاية لحزبه. بطي يذهب إلى مصر فتحتفي به الأوساط والاعراض، ويزور النحاس باشا فيرد النحاس زيارته ويصرف المال مثل حاتم الطائي.والسمعاني في بغداد يسير مع (ي) فرنكول المهاجر الموصلي فيشتغل بالقضية (التيارية) مدافعين عن حقوق العراق...!!وحرام على الزملاء أن يقضيا الوقت بالمشاحنات في حين أن الواجب يدعو الجميع لمعالجة قضايا البلاد الحيوية... على الأقل راعوا حقوق المهنة يا أساتذة...!
وفي العدد الصادر في الثامن من كانون الأول من سنة 1934 كتب البحري بقلمه بوصفه رئيساً للتحرير مقالاً جعل له عنواناً في وسط الصفحة يقول :(الكراسي لا تنتزع العقائد) إلى الزملاء النواب سليم حسون – عبد الغفور البدري – روفائيل بطي. الحمد لله على سلامة الوصول – وصولكم إلى الكراسي الوثيرة التي تهواها قلوبكم الرقيقة. فقد كان طريقاً وعراً محفوفاً بالمخاطر.. وشكراً للظروف التي وضعت صاحبة الجلالة في مقام يليق بها...!

عن مخطوطة (مذكرات خير الدين العمري – مقدمات ونتائج)